السبت 2017/08/12

أحبّـت الفرات.. فابتلعها

عندما هربتْ من مدينتها كانت طفلة وتحب الأطفال كثيراً، ومضت سنوات النزوح الستة، أصبحت عروساً، ولاتزال تفاصيل بيتها في حي الجبيلة في ذاكرتها، وتحنّ كثيراً للفرات الذي كانت تسامره ويسامرها في ليالي الدير الصيفية، تركت بيتها مرغمة مع عائلتها، لتنتقل إلى حي الحميدية، ورافقها في رحلة النزوح حنينُها لبيتها ومدرستها وألعابها التي افتقدتها في مكان نزوحها الجديد،  ثم ما لبثت غربان الأسد وحلفائه أن بدأت باستهداف هذا الحي بكثافة بعد سيطرة تنظيم الدولة على مدينة ديرالزور، ما اضطر أهلها للنزوح إلى بلدة معدان، حيث كانت أكثر أماناً من المدينة، فاستقرت وعائلتها هناك على أمل عودة لم يتحقق، كانت ترنو إلى الفرات بين الحين والآخر، لتستمد من نظرتها إليه قوة تساعدها على الصبر على فراق مدينتها.

تلك الطفلة التي باعد بينها وبين أحبتها وأهلها وجيرانها حقد الأسد على ثورة الشعب ضده، كبرت وتزوّجت، وحملت طفلاً بجانب القلب تسعة أشهر كما كل الأمهات، تعبت كثيراً أثناء حملها، لكنها تحملت وفي مخيلتها أوصاف طفل قادم، حضّرت ملابسه، حلمت خلال أشهر حملها التسع كيف ستربّيه وتعلّمه الحب والوفاء ونبذ الغدر، كانت تحلم أن تدرِّسه وتفرح عندما يعود من المدرسة يحمل نتيجته نهاية كل عام، وتباهي به الدنيا، مضت الأشهر التسع بسرعة بين الحلم والأمل، وجاء الطفل سليماً معافى، جميلاً بريئاً لم يعرف ماذا يحلق في سماء القرية التي نزحت إليها أسرته.

لم تكن آلام مخاضها بوليدها أقسى من صوت وهمجية قصف طيران الاحتلال الروسي التي اشتدت وأخذت تحصد أرواح المدنيين في ريفي الرقة وديرالزور، بعد اتفاق غير معلن بين نظام الأسد والمليشيات الكردية يقضي بتسليم المليشيات قرية الدلحة لقوات النظام بعد سيطرتها عليها بيوم واحد، لتبدأ بعد ذلك بالزحف والتقدم باتجاه مدينة معدان التي تعتبرها منطلقاً لعملياتها باتجاه ريف ديرالزور الغربي.

أسمت طفلها "أمير" وكلما زاد عمره يوماً كان جنون القصف يزيد على معدان، لتقرر بعد ذلك النزوح مع عائلة زوجها إلى مكان أكثرَ أمانا، وكانت وجهتهم مناطق سيطرة المليشيات الكردية في قرى الجزرات على الضفة المقابلة لنهر الفرات، فرحت كثيراً بأنها ستهرُب بطفلها وحُلمها.

لم يكن عبور الفرات بالأمر اليسير فقد باعت عائلة زوجها كل ما تملك لتعطيها للمهرّب الذي وعدهم بأن لا تطول الرحلة قدر إمكانه، وكان عمر أمير قد صار عشرة أيام.

هبط الليل .. تسللوا كلصوص كي يهربوا من وطن إلى وطن، من موت إلى موت آخر، من تحت رحمة قاتل إلى قاتل مجهول، تلاحقهم مناظير ليلية مركَّبة على قناصات التنظيم والمليشيات على حد سواء، صعدوا السفينة، وحبسوا أنفاسهم لتبدأ الرحلة بين ضفتي الموت الفراتي.

بقدر حبها للفرات إلا أنها خافت منه هذه المرة، لم تكن لتعلم أن من صفات الفرات الغدر، فعلها الفرات وابتلعها هي وصغيرها الأمير وسبعة آخرين كلهم نساء وأطفال، كانوا تسعة يحلمون بالحياة فحملهم غدر الفرات إلى ضفة الموت.