الثلاثاء 2021/11/02

محاولات الدخول الروسي إلى شرق الفرات وسط التراخي الأمريكي والتحفز التركي

خرجت مؤخراً مظاهرات في ريف دير الزور اعترضت فيها جموع من الأهالي وأبناء العشائر رتلاً روسياً في قريتي “الجنينة” و “الحصان”، وأجبرته على تغيير طريقه، وسط صمت أمريكي لافتٍ عما يجري في مناطق تعتبر قاعدة للقوات الأمريكية في سوريا.

 

تتزامن تلك التحركات مع تطورات عديدة تشهدها المنطقة، كالحديث عن قرب انطلاق عملية عسكرية تركية تستهدف قوات “قسد”، وظهور مؤشرات تدور حول احتمالية انسحاب أمريكي منظور من شرق الفرات، في ظل استمرار الجهود الروسية الحثيثة للتوغل في مناطق شرق الفرات وتوسيع نفوذها ومزاحمة النفوذ الأمريكي هناك.

 

تعمل روسيا على تثبيت نفوذ متداخل لها في منطقة شرق الفرات وتحرص على ملأ الفراغ الذي قد يخلّفه التراجع الأمريكي في المنطقة، لا سيما أن ذلك ما حدث فعلاً عقب الانسحاب الأمريكي، وشن تركيا لعملية “نبع السلام” ضد وحدات “قسد” في العام 2019، حيث عزّزت روسيا فعلياً وجودها العسكري في شرق الفرات ووسّعت من مساحة سيطرتها عن طريق إنشاء سلسلة من القواعد العسكرية؛ معتمدة بصورة متزايدة على نسج خيوط تفاهمات مع أطراف الصراع هناك، ولعب دور الوساطة بينها.

 

ويبدو أنَّ روسيا تستثمر جيداً في تخوفات “قسد” وتحفظاتها تجاه حدوث انسحاب أمريكي محتمل من سوريا، وهو ما عبرت عنه “قسد” في أكثر من موقف على لسان العديد من قياداتها حول مخاوفها من خطوة الانسحاب المحتملة؛  فعلى الرغم من التطمينات الأمريكية التي أتت على لسان قادة “قسد” نقلاً عن مسؤولين في واشنطن بأن “مهمة الجيش الأمريكي مستمرة في سوريا ولم تنته” وأنَّ الولايات المتحدة لن تتخلى عن حلفائها الأكراد”؛ إلا أن “قسد” قررت على ما يبدو مواجهة مخاوفها من خلال إبداء جهوزيتها للانفتاح على الحوار والتفاهم مع روسيا ونظام الأسد، الأمر الذي تستغله روسيا في رعاية مسار تفاوضي بين “قسد” والنظام، وتعزيز دورها السياسي ووجودها العسكري في مناطق شرق الفرات.

 

إلى جانب ذلك، تحرص موسكو على زيادة ثقلها ونفوذها في المنطقة من خلال الاستثمار في ارتباك “قسد” وتخوفها من الهجمات التركية المتكررة ضد مناطقها، في حين تسوق نفسها على أنها وسيط في الصراع بين “قسد” وتركيا، وتمارس في نفس الوقت ابتزازاً واضحاً تجاه “قسد” وتطرح عليها تقديم تنازلات معينة، مقابل تفادي عملية عسكرية تركية وشيكة قد تنهي سيطرتها على مناطق استراتيجية شرق الفرات.

 

ولعلَّ الموقف الأمريكي المتساهل مع التحركات الروسية يرتبط إلى حدٍّ ما بمقاربة السياسة الأمريكية الخارجية لإدارة بايدن الديمقراطية التي تميل إلى تخفيف الأعباء في الشرق الأوسط، ما يؤثر بشكل مباشر على طريقة تعاطيها مع المشهد السوري، إذ يمكن القول بأنَّ سياسة الولايات المتحدة في سوريا تقتصر كما يبدو على الجانب الإنساني (استمرار تدفق المساعدات الإنسانية إلى سوريا) ومراقبة تحركات ايران والحد من نفوذها، وهو ما يبدو أنَّ روسيا تدركه جيداً وتجيّره لصالحها مستفيدةً من التقارب الروسي الأمريكي النسبي في سوريا، واعتراف ضمني أمريكي بمصالح روسيا الاستراتيجية في المنطقة؛ والذي ظهرت بوادره بعد لقاء بايدن بوتين في جنيف وإرسال الإدارة الأمريكية العديد من الرسائل المحفّزة للجانب الروسي والبعيدة عن التهديد الذي يستفز عادةً الروس، فضلاً عن ازدياد وتيرة المباحثات الميدانية الروسية الأمريكية مؤخراً؛ والتي كان آخرها اجتماع عسكري مشترك في قاعدة “لافارج” قرب مدينة عين العرب شمال شرقي حلب، وهو ما يفسّر ربما غياب موقف أمريكي معلن عن التحركات الروسية في مناطق شرق الفرات، ويبدو أن ازدياد نشاط المليشيات الايرانية ضد القوات الأمريكية والتي كان آخرها الهجوم على قاعدة التنف يدفع الأمريكان لتفضيل التعاون مع الروس بهدف ملء الفراغ وتخفيف الأعباء وضبط التحركات الايرانية.

 

في المحصلة، تقتنص روسيا الفرص وتلعب على تناقضات مصالح الأطراف المتنفذة والفاعلة في مناطق شرق الفرات لزيادة وجودها ونفوذها في تلك المناطق؛ فمن جهة تستغل مخاوف “قسد” من تحركات تركيا وضرباتها العسكرية، وتدفعها لتقديم تنازلات سياسية لنظام الأسد، ومن جهة أخرى تستثمرها كورقة ضاغطة في مفاوضاتها مع أنقرة، وسط التماهي الأمريكي مع جهود روسيا وتحركاتها، كما تستثمر روسيا نشاط المليشيات الايرانية في الضغط على الأمريكان لعرض نفسها كبديل يمكن أن يحد من النفوذ الإيراني، ليبقى الموقف الأمريكي هو الفيصل في ضبط التمدد الروسي والحدِّ من تغلغله شرق الفرات.

 

ويمكن القول بأن تغييرات ذات شأن في خارطة السيطرة مرشحة للحدوث في حال وقوع أي انسحاب أمريكي، ويمكن توقع عملية تركية محدودة على نمط عملية نبع السلام، في ذات الوقت الذي ستتمدد فيه روسيا مع قوات نظام الأسد، في تكرار لمشهد الانسحاب الأمريكي في عهد ترامب قبل سنتين، حيث كان لروسيا نصيب الأسد في الاستيلاء على مناطق النفوذ الأمريكي، فيما قامت تركيا بعملية نبع السلام واستطاعت ضم مناطق جديدة لنفوذها بهدف حماية أمنها القومي، ولعل هذا أحد عوامل الاستعداد والجاهزية التركية، حيث سيكون أي انسحاب أمريكي فرصة لتمدد مختلف الأطراف في الفراغ الذي سيخلفه الانسحاب الأمريكي.