الجمعة 2020/10/02

قصص معاناة من داخل أحياء شرق حلب تكشف كذبة “إعادة الأمان”

مع اقتراب الساعة الثامنة مساء، وضّب الشاب السوري أنس على عجلةٍ من أمره، بعض الحاجيات المنزلية التي اشتراها لتوّه، وصعد مع أولاده إلى المنزل، مغلقاً باب المبنى بإحكام.

أنس الذي يعيش في شارع عثمان في حي الميسّر شرقي حلب، يخشى تعرّض عائلته لأي خطر، بعد سماعه الكثير من القصص المروّعة من جيرانه، عن حوادث القتل والخطف والسرقة واقتحام المنازل. وداخل البيت، ومع حلول الليل، تجتمع أسرة أنس حول ضوءٍ يعمل على البطّاريات معروف محلياً باسم "ليد"، وقد اعتاد سكّان المنطقة على استخدامه لإنارة غرفهم ليلاً، فالتيار الكهربائي لا يأتي للمنطقة إلّا ما ندر.

"هذه الليلة هادئة" بحسب أنس، الذي بقي طيلة سنوات الحرب في منزله في حلب، واعتاد سماع أصوات القصف والطيران الحربي والاهتزازات مع أسرته، لكن الآن أصبحت الأمور أفضل من قبل. في الصباح التالي، استيقظت الأسرة، وكالعادة قامت زوجة أنس بتعبئة وعاء منزلي ووضعته مكان المغسلة في الحمّام، فلا يوجد ماء أيضاً هذا الصباح كحال غالبية الصباحات.

كان أنس محظوظاً لأنّ منزله "جنى عمره"، لم يُدمّر بشكلٍ كامل كحال غالبية منازل حلب، بل سُرق أثاثه واحترقت إحدى الغرف داخله، لكنه تمكّن من إعادة طلاء الجدران والأسقف، وتدبّر أمره بأثاثٍ بديل. مع العلم أن أنس اضطر للخروج من المنزل لفترة قصيرة قبل حصار حلب، مستقراً في غرفةٍ في المدينة الجامعية في حي الفرقان الحلبي، بعدما تحوّلت المدينة من سكنٍ للطلّاب إلى سكنٍ للنازحين خلال فترة معارك حلب.

حالة أنس كغيره من السوريين الذين يقطنون اليوم الأحياء الشرقية المدمّرة في حلب، التي استعادها النظام أواخر عام 2016، ثم سمح للمدنيين بالعودة إليها، ليبدأ إعلامه بالترويج لـ"إعادة الإعمار" و"إعادة الأمان" إلى تلك المناطق. لكن واقع الحال في هذه الأحياء يكشف أن المدنيين الذين تخلّصوا من القصف والبراميل المتفجّرة لم ينعموا بالأمان داخل أحيائهم بعد، كما أن المؤسسات التابعة للنظام لم تقدّم أي مبادرات حقيقية لإعادة تأهيل البُنى التحتية داخل المدينة.

وخلال السير في أحياء حلب القديمة، لا سيما من منطقة باب الحديد وأحياء الشعار وقاضي عسكر نحو محيط قلعة حلب الأثرية، يُلاحَظ أن الدمار منتشر في كل مكان. فكل ما حصل بعد استعادة النظام للمنطقة هو تجميع الركام على جانبي الطريق، وردم الحفر في الشوارع لفتح الطريق أمام سير المدنيين والسيارات، وتم وضع ركام المباني السكنية فوق أنقاضها وإبعادها عن حركة المارّة، بعيداً عن أي حركة عمرانية تُذكر. مع العلم أن أبرز المنشآت التي عادت للعمل، تمثلت فقط في شركتي الاتصالات "سيريتيل" و"أم تي أن"، إضافةً إلى مخافر الشرطة، والأفران وبعض المنشآت الصغيرة.

أبنية مهددة

بعيداً عن ذلك، لم يتم إعادة تشييد المباني التي هدّمها الطيران الحربي والبراميل المتفجّرة، أو حتّى إخراج الأنقاض إلى خارج المدينة، وكذلك الحال بالنسبة لخطوط وشبكات الكهرباء المدمّرة، وقطاع ضخ المياه وغيرها. أمام ذلك، حالف الحظ مئات المدنيين ممّن لم تتهدّم مبانيهم بشكلٍ كامل، ليعودوا للسكن فيها، ثم تبيّن لاحقاً أن نسبةً كبيرةً من مباني المدينة قد تكون معرّضة للهبوط بأي لحظة، نتيجة تصدّعها إثر "الصواريخ الارتجاجية" الشهيرة التي استخدمها الطيران الروسي بكثافة في مدينة حلب.

وكانت حوادث سقوط الأبنية في مدينة حلب، قد بدأت في عام 2018، وذلك بعد نحو عامين من سماح النظام للمدنيين بالعودة إليها. وأشهرها تلك التي وقعت في حي كرم الجبل شرقي حلب، في أواخر يوليو/تموز 2018، ما أسفر حينها عن مقتل عائلة من خمسة أشخاص، وإصابة 15 آخرين بجروح متفاوتة.

عقب ذلك، وقعت سلسلة انهيارات للأبنية السكنية، حتّى أصبح هبوطها خبراً عادياً في وسائل الإعلام المحلّية. وشهدت الأحياء الشرقية في حلب سلسلة من الانهيارات التي طاولت عدداً من الأبنية السكنية، كان آخرها انهيار مبنى في منطقة الصالحين فوق رؤوس ساكنيه، وراح ضحيته امرأة أصيب زوجها كذلك. وتوزع انهيار المباني خلال العامين السابقين في مختلف مناطق المخالفات الجماعية، في حين شملت الأبنية المنهارة أحياء القاطرجي وكرم البيك والمعادي وأحياء أخرى من أحياء حلب الشرقية والتي يبلغ عددها 23 منطقة. وهو الأمر الذي دفع بمحافظة حلب حينها للادعاء بأن سبب الهبوط يعود إلى أن تلك المباني مخالفة بالأصل، وأن البعض منها تم تشييده على أرض رطبة تحتها مياه. لكنها عادت وعدّلت موقفها في وقتٍ لاحق، مع كشف لجان السلامة العامة في محافظة حلب، أن عدد الأبنية المتضررة والمتصدعة والآيلة للسقوط في أي وقت يُقدّر بنحو 3 آلاف مبنى.

وبعد حوادث هبوط الأبنية، اعتبرت "لجنة السلامة العامة" في مجلس محافظة حلب التابع للنظام على لسان رئيسها محمد صفو، أن هناك احتمالية لتكرار حوادث انهيار الأبنية، حسبما أفاد لوسائل إعلام محلية.

في كل صباح، خلال ذهابه إلى العمل، يقف أبو أحمد لبعض

دقائق لتفقّد الشقوق الموجودة في أسفل المبنى الذي يعيش فيه في حي الصاخور. خلال دقائق صباحية من التأمّل يحاول أبو أحمد التأكّد من أن الشقوق لم تتوسّع عما كانت عليه في الوقت السابق، حتّى بدأت تشك زوجته بأنه أصبح يعاني "وسواساً قهرياً" جراء التدقيق المستمر في هذه الفتحات. كل ما يأمله الخمسيني الذي يعمل في ورشةٍ لفرش السيارات، هو ألّا ينهار هذا المبنى على أسرته ويودي بحياة أولاده، ويقول لـ "العربي الجديد": "في كل مرّة أسمع فيها عن حادثة هبوط جديدة في محيط المنطقة التي أعيش فيها، أشعر بأن الخطر ازداد أكثر وأهرع نحو الشقوق الموجودة في أسفل المبنى الذي أعيش فيه لأتفقّدها، حتى أصبحت أراها في منامي".

عندما سمع أبو أحمد بأول حادثة انهيار بناء في حلب، تجوّل داخل المبنى بحثاً عن أي بوادر لهبوطه ليفاجأ بوجود شقوق واضحة داخله. وتواصل مع موظفين في المحافظة من أجل الكشف عن البناء، وجاء موظّف ونظر للشقوق من دون إجراء أي دراسة هندسية للبناء، وأخبره بأنّه "قد يسقط وقد لا يسقط" من دون أن يعطيه أي درجة مخاطر. وقال له: "إذا كنت فعلاً خائفا من هبوط المبنى فعليك الخروج منه"، ولكن أبو أحمد لم يخرج بسبب عدم توفّر مأوى بديل. ويضيف الرجل: "في محيط منطقتي وفي مناطق أخرى يوجد الكثير من الأبنية المتصدّعة والمتشقّقة، ولكن سكّانها يغامرون بأرواحهم ويبقون فيها بسبب عدم وجود بديل له".

ليس لدى أبو أحمد أي خيارات بديلة، فهو لا يملك أي مأوى آخر، والخروج من منزله الوحيد يعني البقاء في الشارع بلا مأوى مع زوجته وأولاده، وهو ما يلزمه البقاء في المنزل على الرغم من كل مخاوفه.

العوز يفتك بالمدنيين

يعاني المدنيون في مناطق النظام من ارتفاع مستوى الفقر والعوز، إذ يصطف الآلاف يومياً في "طوابير الذل" لتحصيل ربطة خبز أو بعض الليترات من مازوت التدفئة أو عبوات الغاز المنزلي للاستخدام، وذلك مقابل انهيار العملة المحلّية وانخفاض الدخل مع الارتفاع الفاحش لأسعار السلع الأساسية. ولكن المدنيين في الأحياء الشرقية لمدينة حلب يعيشون معاناةٍ مضاعفة، فلا دخل فيها ولا أعمال، كما أن الخدمات في غالبها معطّلة ولم يتم تجهيزها.

فوق ركام إحدى المدارس المدمّرة، كان بعض الأطفال يلعبون ويتقاذفون الأحجار، اثنان منهم كانا حفاة. وقال أحدهما: "أخطط لشراء حذاء قريباً، والدتي لا تملك ثمنه". الطفل عبد الفتاح، قُتل والده بالقصف على حلب عام 2014، فاضطرت والدته للنزوح إلى الجزء الغربي من المدينة مع أولادها الثلاثة. وعندما وصلت إلى غرب حلب كانت كل مراكز الإيواء التي أسّستها الحكومة مكتظة بالنازحين، فلم تجد أي طريقة للعيش، ونصبت خيمة على المتحلّق في مدينة حلب قرب دوار باسل الأسد واستقرّت هناك. وبعد أسابيع راقت فكرتها لكثيرٍ من النازحين الذين لم يكن لديهم مأوى، فامتلأ المتحلّق بالنازحين حينها. ولكنّه الآن فارغ بعد أن عاد غالبيتهم لمنازلهم.

وعن كيفية حصولهم على غذائهم اليومي، قال عبد الفتاح، إنه كان يأخذ شقيقيه كل صباح ويقفون في طابور طويل على فرن للخبز، فيشترون بضع ربطات خبز، ثم يبيعونها أمام الفرن بسعرٍ مضاعف للأشخاص الذين ليس لديهم وقتٌ للوقوف في الطابور الطويل.

تفتّتت أحلام عبد الفتاح وشقيقيه بعد صدور قرار ببيع الخبز عبر "البطاقة الذكية"، وحسب أفراد العائلة لم يعد هناك أي دخل للأسرة. وباتت والدته عاجزة حتّى عن تأمين الأغذية والحاجات الأساسية لأطفالها، ما اضطرها لسحب أولادها من المدرسة وإرسالهم للعمل في سوق الخضار لتأمين قوت الأسرة.

سطوة المليشيات

عندما يحل الظلام في شرق حلب، ينعكس ضوء القمر على ركام الأبنية المدمّرة، وتنعدم حركة المدنيين. الجميع يخاف هنا بعد أن تكرّرت حوادث السلب والتشليح ليلاً من قبل أشخاص يرتدون ألبسة عسكرية ويحملون أسلحةً معهم. ليس معروفاً بالتحديد لأي فصيل يتبعون، ولكن المليشيات المحلية التي شاركت في معركة حلب، تستردّ جزءاً من خسائرها بسرقة المدنيين واقتحام المنازل.

كانت الشابّة السورية سلوى تعلم ما وصل إليه الحال في هذه الأحياء، وعندما عادت مع أسرتها إلى حي الشعّار في حلب كانت تحرص على عدم التنقّل ليلاً، فسُرقت محفظتها في وضح النهار من قبل أحد العسكريين، خلال انتظارها على موقف الحافلة للذهاب إلى دوامها الجامعي صباحاً.

كانت الحقيبة تحتوي على هاتف الفتاة ونقودها ووثائقها الجامعية، ففقدت كل شيء، وتقول: "في أول مرّة عدت إلى الحي في عام 2017 شاهدتُ عسكريين يسرقون خزائن منزلية من المبنى المجاور لمبنانا، ومنذ تلك اللحظة أخاف الاقتراب منهم وأشعر بعدم الراحة عندما يتجوّلون ليلاً في أحيائنا". ازدادت مخاوف سلوى عندما سمعت بإحدى القصص التي مفادها أن عناصر مليشيات اقتحموا منزلاً بوجود سكّانه ليلاً ونهبوا معظم المحتويات الثمينة، فطلبت من والدها تركيب بابٍ حديدي إضافي لباب المنزل، تحرص في كل ليلة على إقفال كل منافذ المنزل قبل النوم.

هكذا يعيش السكّان في هذه الأحياء التي وُصمت على مدار السنوات  التي سبقت اندلاع الثورة، بأنّها أحياء الفقراء الذين لا يملكون أي شيء من صفة "أهالي حلب التجّار والأغنياء"، ثم عانت بعد الثورة من استمرار القصف، وبعدها من السطوة الأمنية وسوء الخدمات.