الأثنين 2022/03/28

عن خلفيات الحرب الروسية في أوكرانيا وتأثيراتها المحتملة على المشهد في سوريا

 

نشر "مركز الحوار السوري" ورقة تحليلية حول أثر الحرب الروسية في أوكرانيا على الملف السوري، على الصعيد السياسي، وكذلك على الصعيد الميداني وفق خرائط السيطرة الحالية. 

 

وجاء في الورقة أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أعلن في 24 شباط الفائت انطلاق ما أسماها “عملية عسكرية خاصة” لحماية إقليم “دونباس” شرقي أوكرانيا، في تتويجٍ غير مفاجئ لمسار الأزمة المتفاقم بشكل متسارع بين البلدين منذ شهر تشرين الثاني من عام 2021، وفي نهايةٍ شبه محتومة كذلك للصراع الجيوسياسي المشتعل منذ العام 2008م بين روسيا من جهة والولايات المتحدة وحلف الناتو من جهة أخرى، بسبب تعثُّر المساعي الدبلوماسية بين الطرفين، وعدم القدرة على الوصول إلى تفاهمات تراعي المخاوف الأمنية والجيوسياسية لروسيا، الناقمة أساساً على ما آلت إليها مكانة روسيا في النظام العالمي بعد تفكك الاتحاد السوفييتي وتقهقر روسيا داخلياً وخارجياً، وصعود الولايات المتحدة  وحلفائها في الناتو كقوى مهيمنة على مستوى العالم.

 

لا يمكن تناول الحرب الروسية في أوكرانيا بمعزل عن التوجهات الاستراتيجية والجيوسياسية التي تتبناها روسيا سياسياً وعسكرياً على الصعيد الدولي؛ فلا يمكن النظر إلى الحرب الروسية في أوكرانيا إلا من خلال منظور أوسع يربط تحركها هناك الآن بتدخلاتها العسكرية في كل من جورجيا والقرم وسوريا على التوالي، وبدرجة أقل ضمن أدوراها في ساحات أخرى مثل ليبيا وأذربيجان والدول الإفريقية؛ إذ يمكن تفسير كل تلك التحركات وربطها بتوجه روسي طموح يقوده بوتين منذ وصوله إلى الحكم يهدف إلى استعادة روسيا مكانتها كقوة عظمى في المشهد الدولي.

 

وأياً كانت النتائج التي ستؤول إليها الحرب في أوكرانيا -والتي من الصعب التنبؤ بها بشكل دقيق- فإنها مرتبطة بشكل وثيق بموقع روسيا ونفوذها في مناطق الصراع والتنافس الأخرى في العالم التي تشكل فيها روسياً طرفاً أساسياً، فضلاً عن التغيرات السياسية والاقتصادية على المشهد الدولي بشكل عام. ولعل المشهد في سوريا وطبيعة الاصطفاف والتنافس بين مختلف الأطراف الدولية المنخرطة في الصراع الدائر فيها يزيد من حجم التأثير المتوقع على مختلف التوازنات السياسية والعسكرية والاقتصادية والإنسانية القائمة؛ مما يؤكد أهمية الحديث عن تبعات الحرب الروسية في أوكرانيا وتأثيراتها على المشهد في سوريا.

 

تتناول هذه الدراسة التحليلية في قسمها الأول خلفيات الحرب الروسية في أوكرانيا والمحركات التي أسهمت في اندلاعها وآثارها المترتبة على مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والعسكرية دولياً، من خلال رسم صورة عامة تصف مواقف مختلف الفاعلين والأطراف الدولية في هذه الأزمة، وفي الجزء الثاني من هذه الدراسة نتطرق إلى آثار هذه الحرب وتبعاتها على مختلف المستويات المتعلقة بالمشهد الحالي في سوريا، بما في ذلك طبيعة التوازنات والعلاقات القائمة بين مختلف الأطراف الدولية والإقليمية والمحلية في سوريا، مما يسهم في التأسيس لفهم أفضل لهذه الحرب وتبعاتها على المشهد السوري، وهو الأمر الذي يبدو مفتوحاً على سيناريوهات عديدة تحتاج الرصد والمتابعة والتحليل لمجريات الأحداث المستمرة والمتطورة بشكل يومي.

 

أولاً: خلفيات الحرب الأوكرانية وتداعياتها:

 

في الطريق إلى الحرب:

لم تكن الحشود العسكرية التي بدأت موسكو تدفع بها إلى الحدود الروسية الأوكرانية في منتصف نوفمبر من عام 2021 الفائت إلا انعكاساً ميدانياً للتوتر المتفاقم سياسياً بين روسيا من جهة والولايات المتحدة وحلفائها في حلف الناتو من جهة أخرى، ونقلة أخرى من النقلات التي قام بها بوتين على رقعة الجغرافيا في أوروبا والعالم في سبيل الوصول إلى روسيا القوية في مجالها الحيوي، والتي تضع اعتبارات الأمن القومي والجيوسياسي فوق كل شيء. فقد سبق له أن قام بغزو جورجيا تحت ذريعة حماية جمهوريتي “أوسيتيا وأبخازيا” الانفصاليتين؛ في مشابهةٍ للعملية القائمة اليوم في أوكرانيا بذاك السيناريو، وكذلك قام بالسيطرة على القرم في العام 2014م، إضافة إلى أن تدخله في سوريا وليبيا ينطلق من الرؤية ذاتها التي يطمح بوتين بالوصول إليها.

 

كانت روسيا قد حذّرت مراراً الدول الغربية من الاستهانة بمطالبها الأمنية، وشدّدت كذلك في أكثر من موقف على ضرورة الالتزام بالوعود التي قطعها حلف الناتو بعدم التوسع شرقاً في الدول التي خرجت من عباءة الاتحاد السوفييتي؛ إلا أن كلاًّ من الولايات المتحدة وحلفاءها الأوروبيين في حلف الناتو لم يأخذوا بعين النظر تلك التحذيرات والمخاوف الروسية، بل على العكس من ذلك يمكن القول إن حلف الناتو استغل الفراغ والضعف الروسي في دول شرق أوروبا بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، وقام بضم عدد من الدول في عدة موجات توسعية لحلف الناتو في أوروبا بعد فترة الحرب الباردة.

 

يجادل منظّرو الواقعية في العلاقات الدولية بأن حلف الناتو والدول الغربية هي التي دفعت روسيا إلى اتخاذ الحرب وسيلة لتحقيق مطالبها الأمنية، ويذهب هؤلاء إلى أن الدول الغربية -وعلى رأسها الولايات المتحدة- تتحمل مسؤولية الحرب الدائرة في أوكرانيا حالياً، وأنها هي التي أخطأت حين أعلنت عن فتح الباب أمام كل من جورجيا وأوكرانيا للانضمام إلى حلف الناتو، مع علمها المسبق بما يحمله ذلك من استفزاز للجانب الروسي، وربما مع عدم وجود نية فعلية لذلك بسبب المعارضات الموجود من بعض دول الحلف كألمانيا وفرنسا؛ إذ اصطدمت مطالب الرئيس الأوكراني بضم بلاده إلى الحلف برفض متكرر من جميع الأطراف، مما جعله يشعر بخيبة الأمل، وأنه تُرك وبلاده وحيداً في مواجهة روسيا.

 

وأياً كانت التبريرات والأطر النظرية التي يوظّفها بوتين لتحقيق رؤيته للدور الروسي الذي يسعى إليه، سواءٌ أكانت قومية تتكئ على تراثها القيصري ضمن روسيا قيصرية أرثوذكسية، أو كانت تنطلق من منظور يركز على دور روسي أوسع ضمن نطاق العِرق السلافي، أو من خلال “النظرية الأوراسية” التي تنظر لروسيا في نطاق أوراسي  (أوروبي / آسيوي)؛ فإن بوتين يسعى في نهاية الأمر إلى فرض واقع دولي جديد، يجبر فيه الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة على التعامل مع بلاده على أنها دولة عظمى لها مصالحها الحيوية ومجالها الأمني والجيوسياسي الخاص، والذي يجب على بقية الدول احترامه وعدم تجاوزه والتمدد فيه، وفي سبيل ذلك يستقي بوتين من تلك الرؤى السابقة ما يناسب المرحلة والسياق؛ فالمصالح القومية فوق كل شيْ كما أسلفنا.

 

ولعل بوتين لم يتكبد كثيراً عناء البحث عن المبررات والذرائع التي سوّغت له إعلان لحظة الصفر والهجوم على أوكرانيا؛ فقد سبق إعلان الحرب بيومين اثنين اعتراف روسيا بجمهوريتَي “لوهانسك ودونيتسك” الانفصاليتين شرق أوكرانيا، وبعد عدّ حربه في أوكرانيا لحماية سكان هاتَين الجمهوريتَين من جرائم التطهير التي يقوم بها مَن أسماهم “النازيين الجدد” في أوكرانيا. وقد سهّل الخليط والتداخل الإثني والقومي في أوكرانيا على بوتين مهمة خلق الذرائع المسوغة للحرب؛ حيث تطغى على شرق أوكرانيا غالبية روسية، بينما يطغى على غربها غالبية أوكرانيا، وتمتزج القوميتان في مدن وسط أوكرانيا كما هو موضح في الشكل أدناه.

 

في تبعات الحرب وأبرز ردود الفعل عليها:

ليس غريباً التأكيد أن التدخل العسكري الروسي في سوريا والدعم المطلق الذي قدمته روسيا إلى نظام الأسد عسكرياً وسياسياً في المحافل الدولية قد شكّل جسراً موصلاً إلى القوة التي تتمتع بها روسيا اليوم، بالشكل الذي تكون فيه قادرة على أخذ زمام المبادرة، والقيام بخطوات عسكرية لتنفيذ المطالب السياسية والأمنية بالقوة إن لزم الأمر؛ فقد أدركت موسكو من التغاضي الأمريكي والدولي عن جرائمها بحق السوريين أن بإمكانها استخدام القوة العسكرية مجدداً لفرض الواقع الذي تريده، فضلاً عن أن التدخل العسكري الروسي في سوريا مثّل فرصة ذهبية لموسكو لتطوير أسلحتها واختبارها على أرض الواقع، كما أسهم في تطوير العديد من الاستراتيجيات والتكتيكات العسكرية وإعادة تأهيل وهيكلة جيشها الضخم بشكل أفضل، وحتى مع وجود بعض ردود الفعل الغربية على ضم موسكو شبه جزيرة القرم الأوكرانية من خلال العقوبات الاقتصادية؛ فإن تلك العقوبات لم تشكل رادعاً للروس في ظل محدودية تأثيرها والحاجة الغربية للغاز الروسي.

 

صرّحت الدول الغربية منذ بداية الأزمة أنها لن تتدخل عسكرياً ضد روسيا في أوكرانيا، وأوضحت كذلك قيادة حلف الناتو أن الحلف لن يتدخل إلا في حال تعرض بلد من بلدانه إلى عدوان خارجي تبعاً لميثاقه، وقد عوّلت روسيا على هذا الموقف كثيراً، إضافة إلى توقعها أن علاقاتها الاقتصادية المركبة مع دول الاتحاد الأوروبي واعتماد الأخيرة على واردات النفط والغاز الروسيين بشكل كبير سيجعل فرض مقاطعة اقتصادية كاملة لها أمراً صعباً للغاية، في ظل انكفاء جميع الدول على أنفسها والتركيز على معالجة المشاكل الاقتصادية الداخلية وتطبيق سياسات التعافي من أثر الركود والتراجع الذي خلّفته جائحة كورونا، ومن الواضح أن موسكو سعت إلى استغلال التباين الظاهر في المواقف بين الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية لتوسيع هوّة الخلاف هذه بينهم، كما حاول بوتين في تصريحاته تأليب الشعوب الغربية على حكوماتها من خلال تحميل تلك الحكومات مسؤولية ارتفاع أسعار الطاقة وتراجع الاقتصاد جرّاء العقوبات الاقتصادية على روسيا.

 

وعلى الرغم من ذلك، وبعيداً عن مناقشة جدوى العقوبات الاقتصادية وفاعليتها في تغيير سياسات الدول وأنظمة الحكم فيها؛ إلا أن الموقف الدولي من الحرب الروسية في أوكرانيا والتصعيد الخطابي والإدانات الشديدة التي وجهتها الدول الغربية لروسيا تمّت ترجمتها عملياً إلى عقوبات اقتصادية شاملة وقاسية، وصلت إلى حد إقصاء البنوك الروسية من نظام سويفت المالي العالمي، وقيام عدد من الدول -على رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا- إما بقطع واردات النفط الروسي بشكل كامل أو الدعوة إلى قطعه أو التخفيف منه والبحث عن مصادر بديلة، إضافة إلى إغلاق المجال الجوي أمام الطائرات الروسية، وإجراءات أخرى شملت أنواعاً من المعاقبة في مجالات ثقافية ورياضية واجتماعية مختلفة؛ مما فتح الباب أمام مناقشات ومقارنات للسياسات الغربية في هذه الأزمة مع سياساتها في غيرها من الأزمات والدول الأخرى.

 

وبعكس السائد فلا يمكن القطع بحقيقة الأهداف التي سعت روسيا إلى تحقيقها من خلال حربها في أوكرانيا، غير تلك المعلنة التي سبق وأن أرسلتها موسكو مكتوبة إلى واشنطن وحلف الناتو، كما لا يمكن القطع بالكيفية التي أراد بها بوتين تحقيق هذه الأهداف وإنهاء الحرب. ومع ذلك فقد نشرت العديد من الصحف تصريحات لخبراء عسكريين غربيين تشير إلى أن موسكو كانت تخطط لهجوم سريع وخاطف تسيطر به على كييف وكبرى المدن الأخرى في أوكرانيا؛ إلا أنها أخطأت في تقدير حجم المقاومة وصلابة خطوط الدفاع الأوكرانية بحسب هؤلاء، كما أنها لم تكن تتوقع فيما يبدو أن تقوم الدول الأوروبية بتسليم القوات الأوكرانية دفعات متتالية من الأسلحة النوعية المضادة للطائرات والمدرعات، وهو ما أدانته روسيا وتحدثت عن مخاطره.

 

ميدانياً على الأرض تكبّدت القوات الروسية خسائر فادحة في الأرواح والمعدات بحسب التصريحات الرسمية الأوكرانية، كما أنها واجهت ثغرات لوجستية في عمليات الإمداد وخطوط الدعم؛ إلا أن كل ذلك لا يشير إلى توجهها نحو إيقاف العمليات العسكرية أو الانسحاب دون تحقيق الأهداف التي شنّت من أجلها هذه الحرب، بينما يبدو أن الحرب مع نهاية أسبوعها الرابع تتجه نحو “الجمود العسكري”، مع خفوت زخم الهجوم الروسي ووصوله إلى ذروته دون تحقيق النصر الكامل حتى الآن، والتحوُّل إلى الاستراتيجيات الروسية العسكرية المتبعة حالياً، والمتمثلة بمحاصرة المدن وتدمير البنى التحتية فيها والاستهداف المباشر للمدنيين والمستشفيات.

 

من جهة أخرى لا يُعد الانخراط الروسي بمسار المفاوضات وقَبول دعوات الوساطة المختلفة دليلاً على وجود رغبة جدّية لدى موسكو للاحتكام إلى المسار الدبلوماسي، بل يمكن القول إن من الدروس المستفادة من التدخل الروسي في سوريا أن موسكو تسعى دائماً لتغطية عملياتها العسكرية بغطاء دبلوماسي وذرائع سياسية متعددة، مهما بدت تلك الذرائع والأغطية واهية ومبتذلة.

 

أياً يكن مسار الأحداث الذي تتجه إليه الحرب في أوكرانيا فإن انعكاسات هذه الحرب وارتداداتها على المشهد في سوريا على مختلف الأصعدة هو أمرٌ ينبغي دراسته واستشرافه بشكل صحيح؛ فسواءٌ حققت روسيا مبتغاها واستطاعت إنهاء الحرب لصالحها، أو تحققت الأمنيات الغربية بتحويل أوكرانيا إلى مستنقع جديد تغرق فيه القوات الروسية وتنتهي به طموحات بوتين، أو دخل الصراع العسكري في مرحلة الجمود التي أشرنا إليها آنفاً؛ فإن كل تلك السيناريوهات ستؤثر بشكل كبير على وضع روسيا وثقلها في سوريا، وعلى مجمل الأحداث فيها، مع الأخذ بعين النظر أن جميع الفاعلين راغبون فيما يبدو بـ”تثبيت الوضع الراهن” في سوريا، والحيلولة دون مدّ تأثيرات الحرب في أوكرانيا إلى المشهد في سوريا.

 

ثانياً: ارتدادت الحرب في أوكرانيا على المشهد في سوريا:

بالنظر إلى الخريطة السورية والقوى الفاعلة فيها فإنه يمكن تقسيم الآثار المتوقعة للحرب على المشهد في سوريا على أساس مناطق النفوذ والتنسيق بين مختلف الفاعلين الدوليين والمحليين فيها، وعلى المشهد العام في سوريا وفق ما يلي:

 

المحور الأول- التطورات المحتملة على مناطق خفض التصعيد شمال سوريا والتنسيق التركي – الروسي:

 

تُعد مناطق النفوذ التركي في الشمال السوري، أو ما يُعرف بمناطق (درع الفرات- وغصن الزيتون – ونبع السلام)، وهي مناطق الباب وعفرين وجرابلس وأعزاز وصولاً إلى تل أبيض ورأس العين، وكذلك مناطق الانتشار التركي في إدلب ساحة تصعيد متكرر من قبل الروس عند تضارب مصالحهم مع مصالح أنقرة في ملفات خارج سوريا، وقد شهدنا هذا مثلاً في الأحداث التي كانت جارية في ليبيا، ثم في أذربيجان حين قامت الطائرات الروسية بشنّ ضربات جوية على موقع لفصيل “فيلق الشام” في جبل الدويلة بريف إدلب رداً على الدعم الذي قدمته أنقرة للقوات الأذربيجانية، وسط تقارير تحدثت عن نقل الفصيل مقاتلين تابعين له للقتال في إقليم قره باغ، وبالتالي فإن مناطق النفوذ والانتشار التركي تلك قد تكون معرضة للتصعيد الروسي إن تضاربت المواقف التركية مع المواقف الروسية بشكل كبير فيما يخص أوكرانيا.

 

وقد أطلقت روسيا رسائل تحذيرية فيما يبدو لأنقرة بالتزامن مع اجتياحها أوكرانيا حينما ألقت طائرات روسية قنابل صوتية على منطقة الباب شرقي حلب، لإيصال رسالة تذكير إلى تركيا بأن القوات الروسية ربما تقوم بضرب منطقة الباب وغيرها من المناطق التي تعدها أنقرة تحت نفوذها ويعيش فيها مئات الآلاف من السوريين، وهو ما يمكن أن يشكل ورقةَ ضغطٍ روسية كبيرة على الأتراك الذين يسعون لمنع موجة نزوح جديدة نحو الحدود الجنوبية للبلاد. وفي الوقت ذاته لا يُستبعد أن يكون التصعيد الروسي بأيادٍ غير روسية، كأن يكون عبر إطلاق يد قوات نظام الأسد بشكل أكبر، وحتى مليشيا “قوات سوريا الديمقراطية-قسد” التي تتمركز في منطقة تل رفعت شمالي حلب، حيث تُشكّل مصدر إزعاج للجانب التركي من خلال تكرار إطلاقها القذائف الصاروخية على المناطق المأهولة بالسكان في منطقتَي “غصن الزيتون” و”درع الفرات”، موقعةً عشرات الضحايا بين الفينة والأخرى، كما سقط قتلى وجرحى من الجنود الأتراك بشكل متكرر إثر قصف “قسد” القواعد التركية في ريف حلب انطلاقاً من تل رفعت.

 

وفي مناطق إدلب وريف حلب الغربي التي فيها انتشار كبير للجيش التركي لا يبدو الوضع أفضل حالاً من مناطق ريف حلب الشمالي والشرقي؛ فتلك المناطق ساحة متوقعة لأي تصعيدٍ روسي محتمَل، لاسيما وأن الروس منذ توقيع اتفاق موسكو في آذار 2020 يغضّون الطرف باستمرار عن خروقات نظام الأسد، وشاركوا عشرات المرات في عمليات قصف على مناطق إدلب ومناطق قريبة من القواعد العسكرية التركية، ولديهم ذرائع جاهزة في تبرير الخروقات أو نسف اتفاق موسكو بالكامل، كـوجود تنظيم “هيئة تحرير الشام-هتش”.

 

على الطرف المقابل يبدو أنه من المستبعد أن تستغل أنقرة الانشغال الروسي في أوكرانيا لتزيد من مساحة عملياتها أو نفوذها في الشمال السوري، ويرتبط هذا الأمر بمدى التورط والانشغال الروسي في الحرب الأوكرانية، وما إذا كان ذلك سيدفع موسكو  إلى أن تتنازل جزئياً عن بعض الأوراق التي تمسك بها في شمالي سوريا، كالاستمرار بدعم “قسد” في منطقتَي تل رفعت ومنبج ومنطقتَي عين عيسى شمالي الرقة وتل تمر شمالي الحسكة، وبالتالي فإن تلك المناطق ستكون أمام عدة احتمالات، أبرزها: الأول: أن تستثمر تركيا الحدث مع ازدياد تغاضي القوات الروسية عن  هجمات الطائرات التركية المسيرة ضد “قسد” وقادة “حزب العمال الكردستاني” في شمال شرقي سوريا؛ وهو الأرجح. والثاني: حصول هجوم تركي ضد تلك المناطق لأن تركيا بدت راغبة بشدة في السيطرة عليها، خاصة تل رفعت القريبة بشكل كبير من مناطق نفوذها في ريف حلب؛ ولكن ذلك لن يتم إلا إذا انشغلت روسيا بشكل كبير في أوكرانيا واستُنزفت هناك. والثالث: أن تقدّم تركيا لروسيا جملة من المكاسب والأوراق التي تستفيد منها روسيا في أوكرانيا، الأمر الذي يبدو مستبعداً حالياً.

 

وبالرغم من أن جميع الاحتمالات تبدو مفتوحة فيما يخص مناطق الشمال السوري؛ إلا أن كلا الجانبَين الروسي و التركي يسعى فيما يبدو إلى تجنب الصدام المباشر مع الآخر ميدانياً وسياسياً وإلى تثبيت الوضع الراهن هناك، وتحاول تركيا منذ بداية الحرب إمساك العصا من المنتصف وتفضّل عدم الانحياز إلى طرف على حساب الآخر، مع الحفاظ على الحد الأدنى من الموقف المبدئي الذي يرفض الغزو الروسي؛ فهي وإن كانت حليفاً في الناتو إلا أنها لا تريد الاصطفاف بشكلٍ كاملٍ إلى جانبه فيما يخص الأزمة الأوكرانية بسبب ارتباطها مع روسيا بملفات أخرى عديدة عسكرية واقتصادية، رغم وجود ضغوط غربية من قبل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية على تركيا للاصطفاف ضد موسكو والمشاركة في فرض العقوبات عليها.

 

وقد بذل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مساعيَ عديدة للوساطة، كاستضافة وزيرَي خارجية الطرفين الروسي والأوكراني، والقيام باتصالات ولقاءات دولية حول الأزمة، وكانت أنقرة قد اعترضت باعتدالٍ وحذرٍ على الغزو الروسي لأوكرانيا، وفي الوقت ذاته فإن الروس لم يُظهِروا انتقادات شديدة للأتراك على غرار الانتقادات التي يوجهونها للدول الغربية، كما صرّحت روسيا بأنها “تتفهّم” إغلاق تركيا مضائقها وفق اتفاقية “مونترو”.

 

وفي هذا الصدد كانت هناك محاولات من قبل أوكرانيا لحثّ تركيا على تأييدها بشكل أكبر؛ من خلال الإعلان المتكرر عن حجم الخسائر الروسية الكبيرة عبر طائرات “بيرقدار”، فضلاً عن الإشادات المستمرة من قبل الرئيس الأوكراني بنظيره التركي ومحاولة إظهار أنه يقف بجانب أوكرانيا وليس في صف روسيا؛ إلا أن تركيا كانت حذرة من تغيير موقفها عبر التأكيد على أنها ليست في صف أحد، وأن الدولة التي تشتري السلاح يصبح ملكاً لها.

 

على ضوء ذلك: فإنَّ تأثير أزمة أوكرانيا على ملف إدلب ومناطق النفوذ التركي في ريف حلب يبدو أنه سيكون مرتبطاً بمدى الحراك التركي وما إذا كانت أنقرة ستميل بشكلٍ كبيرٍ إلى صف أوكرانيا؛ ويبدو هذا الاحتمال مستبعَداً بسبب الارتباط الشديد بين موسكو وأنقرة في ملفات عديدة، وحاجة أحدهما إلى الآخر في التنسيق الدائم، علماً أن حاجة الأتراك تبدو أكبر؛ وهذا ما يدلل عليه الحراك التركي المتصاعد لإحلال السلام بين موسكو وكييف، ولا ينفصل ذلك عن الوضع الداخلي الذي تعيشه تركيا مع اقتراب موعد الانتخابات، والضغوط الاقتصادية مع تراجع الليرة التركية وارتفاع أسعار النفط عالمياً وما كان له من أثر واضح في حصول موجة غلاء في تركيا.

 

المحور الثاني- التطورات المحتملة على مناطق شمال شرق سوريا والتنافس الأمريكي – الروسي فيها:

في مناطق شمال شرق سوريا التي تسيطر عليها “قسد” المدعومة من قبل التحالف الدولي والولايات المتحدة كانت روسيا تحاول مؤخراً إيجاد موطئ قدم لها في تلك المناطق؛ فقد رصدت مصادر محلية استقدام القوات الروسية تعزيزات عسكرية إلى مطار القامشلي بهدف زيادة النفوذ الروسي في منطقة شمال شرقي سوريا، وذلك بالتزامن مع بدء العملية العسكرية في أوكرانيا، ليرد عليها التحالف الدولي بعد يوم واحد بتعزيزات مماثلة، وأعقب ذلك بأيام حصول صدامٍ مباشرٍ بين الأطراف المحلية المدعومة من قبل التحالف وروسيا، وتؤكد مصادر محلية أن القوات الأمريكية قبل أزمة أوكرانيا لم تكن تُبدي مثل ردة الفعل السابقة في تل تمر على اعتراض دورياتها من قبل مليشيات تتبع لنظام الأسد في محافظة الحسكة؛ إذ كانت الدوريات تغادر طريقها دون أي احتكاك بين “قسد” وقوات النظام، أي: إن ردة الفعل الأمريكية الجديدة يمكن اعتبارها رسالة غير مباشرة إلى الروس بإمكانية الضغط عليهم ميدانياً في سوريا عبر إزاحة النقاط التي انتشروا فيها مع قوات نظام الأسد بعد عملية “نبع السلام”.

 

المحور الثالث- التطورات المحتملة على التنسيق الروسي – “الإسرائيلي” في الملف السوري:

يمكن القول: إن روسيا مارست ما يمكن وصفه بـ “الابتزاز السياسي” ضد “إسرائيل” لثنيها عن الوقوف بجانب أوكرانيا أو تقديم الدعم العسكري لها؛ إذ أعلنت روسيا رفضها عمليات الاستيطان “الإسرائيلية” في منطقة الجولان وعدم الاعتراف بسيادة تل أبيب عليها، وذلك بعد ساعات من تصريح للخارجية “الإسرائيلية” أعلنت فيه دعمها وحدة الأراضي الأوكرانية، وهو ما يبدو أنه دفع “إسرائيل” إلى إعادة حساباتها والتراجع النسبي عن دعم أوكرانيا لعدم إغضاب روسيا. وفي هذا الصدد قالت صحيفة “هآريتس” الإسرائيلية: إن “إسرائيل” تحاول تجنب أي تصريحات أو أفعال قد تزعج روسيا، لدرجة أنه طُلب من كبار مسؤولي الدفاع عدم التعليق علناً على الوضع في أوكرانيا.

 

ومن الجدير ذكره في هذا السياق أن “إسرائيل” كانت قد رفضت قبل أيام من اندلاع الحرب في أوكرانيا طلب كييف تزويدها بمنظومة القبة الحديدية؛ وذلك حرصاً على علاقاتها مع روسيا، وبعد اندلاع الحرب اقتصر الدعم “الإسرائيلي” لأوكرانيا على بعض المساعدات الطبية وعلى الإدانة الجماعية للغزو الروسي، وهذا ما يمكن أن تتفهّمه روسيا، خصوصاً مع الضغوط الأمريكية التي مُورست عليها وعلى دول أخرى في الشرق الأوسط شريكة لروسيا وغير راغبة بانتقادها.

 

ويبدو أن منبع المخاوف “الإسرائيلية” تكمن بشكل أساسي في احتمالية تقييد حرية الطيران “الإسرائيلي” من العمل في الأجواء السورية، وقد ظهرت مؤشرات واضحة على ذلك من خلال عمليات القصف “الإسرائيلي” بصواريخ أرض – أرض التي بدت ملحوظة في الأيام الأولى من الغزو الروسي لأوكرانيا، بدلاً عن القصف بالطائرات. تلا ذلك حراك “إسرائيلي” ملحوظ للتنسيق مع روسيا، والحديث عن اجتماعات بين الجانبين من أجل التنسيق الأمني حول سوريا، وهي تبدو حاجة “إسرائيلية” أكثر منها روسية؛ لأن تل أبيب مضطرة للحفاظ على استخدام المجال الجوي التي تسيطر عليه روسيا في سوريا من أجل مواصلة شنّ الضربات الجوية ضد المليشيات الإيرانية، الأمر الذي أكد أهميته الجانب “الإسرائيلي”، وتحدثت وسائل إعلام “إسرائيلية” عن أن “إسرائيل” تلقت “تطمينات روسية” حول حرية العمل العسكري في استهداف مواقع إيران داخل سوريا، وربما كان هذا أحد الأسباب في عودة الطائرات “الإسرائيلية” من جديد إلى قصف أهداف للمليشيات الإيرانية في محيط دمشق.

 

وبالمجمل: يمكن القول إن “إسرائيل” مضطرة إلى التزام سياسة النأي بالنفس قدر المستطاع، بحيث لا تكون منحازة لطرف ضد آخر، في موقفٍ شبيهٍ بالموقف التركي وإن اختلفت الأسباب الداعية لذلك؛ انطلاقاً من حساباتٍ سياسيةٍ وعسكريةٍ توليها “تل أبيب” أهمية كبيرة لكونها تراها مهدِّدةً لأمنها واستراتيجيتها التي تعمل عليها.

 

المحور الرابع: التطورات المحتملة على المسار السياسي العام في سوريا:

في الوقت الذي تبدو فيه احتمالات الاحتكاك العسكري بين القوات الروسية والأمريكية في سوريا ضعيفة فإن ذلك لا ينطبق على المسار السياسي؛ إذ توعّدت الولايات المتحدة نظامَ الأسد بمحاسبته على جرائمه -في لهجة تصعيديةٍ حادةٍ-   مع بداية الحرب، مما أظهر أنّ واشنطن قد تتجه للضغط على روسيا من خلال التهديد بتصعيد إجراءاتها وعقوباتها ضد نظام الأسد، وقد تلا ذلك الوعيد عقد واشنطن اجتماعاً لمجموعة “أصدقاء الشعب السوري” في العاصمة الأمريكية، انتهى بإصدار بيان أكد الالتزام بتطبيق القرار 2254 وتحقيق نتائج ملموسة في الجولة السابعة للجنة الدستورية وإطلاق سراح المعتقلين، إضافة إلى ملاحقة الجرائم المرتكبة في سوريا.

 

 إضافة إلى ذلك فمن الممكن أن تدفع موسكو مجدداً باتجاه مسار التطبيع العربي مع نظام الأسد؛ فقد أكدت على لسان وزير خارجيتها “لافروف” من “أبو ظبي” ضرورة إعادة نظام الأسد إلى “الجامعة العربية”، وتُعد الإمارات قائدة مسار التطبيع العربي مع نظام الأسد، والتي قطعت كذلك أشواطاً جديدة في هذا المسار باستقبالها رأس نظام الأسد في الإمارات في أول زيارة إلى بلد عربي منذ اندلاع الثورة، الأمر الذي استدعى رد فعل أمريكياً يبدو غاضباً على الزيارة.

 

ورغم التصريحات الغاضبة والمعارضة الأمريكية لجهود إعادة تأهيل نظام الأسد يبدو أن غضّ الطرف والتساهل الذي مررت به الولايات المتحدة الأمريكية محاولات التطبيع العربية السابقة قد بدأت ثماره السلبية بالنضوج حالياً، وتُعد الخطوة الإماراتية الأخيرة وما سربته وسائل الإعلام “الإسرائيلي” عن حضور ملف التطبيع العربي على طاولة اللقاء المصري – الإماراتي – “الإسرائيلي” دلالة على نجاح موسكو نسبياً في إقناع الإمارات باستئناف مسار التطبيع العربي، والذي يبدو أن أبو ظبي تستثمره في مناكفة الولايات المتحدة الأمريكية والتقارب مع موسكو، مما يعني أن ملف التطبيع مع نظام الأسد سيكون ورقة تفاوضية يقوم كلا الطرفين الأمريكي والروسي باستثمارها للضغط على الطرف الآخر في ظل مشهد الحرب الحالي.

 

وعلى صعيد آخر يبدو أن الحراك الأمريكي الأخير وإعادة الحديث عن الملف السوري شجّع الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة على محاولة استثمار ذلك؛ وهو ما تمثّل بزيارته العاصمة المصرية ولقاء أمين الجامعة العربية أحمد أبو الغيط ومطالبته بمنح مقعد سوريا للائتلاف الوطني، وترافق ذلك مع زيادة مطالب الائتلاف للقوى الغربية بدعم الجيش الوطني السوري وتسليحه بسلاح نوعي من أجل مواجهة روسيا في سوريا، الأمر الذي يبدو أنه مستبعد وغير مطروح على طاولة الإدارة الأمريكية؛ إذ لا تظهر أية رغبة لدى الغرب أو الروس في توسيع نطاق المواجهات رغم كل العقوبات السياسية والاقتصادية القاسية التي فُرضت على موسكو والحشد الدولي ضدها، لاسيما من قبل الجانب الأمريكي الساعي لاستنزاف روسيا وإجبارها على التفاوض، دون الانجرار إلى حربٍ قد يكون نطاقها أشمل، وسط تحذير روسي متكررٍ من حربٍ نووية ستكون مدمرة وشاملة إن اندلعت حرب عالمية ثالثة.

 

وعلى صعيد الاتفاق النووي الإيراني الذي تمتلك فيه روسيا تأثيراً واضحاً، وأصبحت مباحثاته مهددة بالتراجع بعد أن وصلت لمراحل متقدمة؛ فقد طالبت موسكو بضمانات مكتوبة توضح أن العقوبات المتعلقة بأوكرانيا لن تمنعها من التجارة على نطاق واسع مع طهران، ما يعني أن واشنطن والدول الأوروبية لا تريد إنهاء مسار التفاوض مع روسيا كي لا تتأثر كذلك مباحثات الاتفاق النووي، لاسيما وأن مسؤولين غربيين تحدثوا عن “دورٍ روسيٍّ بنّاءٍ بشكل عام في المحادثات” وصل أحياناً إلى “سحب إيران من مطالب غير معقولة، وإلى الضغط على طهران – علناً أحياناً أخرى – لعدم تأجيل المحادثات لفترة طويلة جداً”، الأمر الذي يبدو أنه تأثر بشكل واضح بسبب الحرب الروسية ضد أوكرانيا؛ حيث عمدت موسكو إلى تعطيل التوصل إلى الاتفاق رغم محاولة الإيرانيين انتهاز الوضع وتعجيل الاتفاق.

 

ومن جهة أخرى فإن “إسرائيل” تدرك مدى أهمية الدور الروسي في محادثات الاتفاق النووي وفي إتاحة الأجواء لها في سوريا؛ ولذا فهي لا ترغب في جعل روسيا تميل إلى إيران بشكل أكبر؛ ولعل هذا ما يفسر أسباب الزيارة المفاجئة التي قام بها رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت إلى روسيا، وبدا أنه يحاول لعب دور الوسيط بين كييف وموسكو، كما أن “إسرائيل” لا تتحمل إغضاب بوتين، لاسيما وأن موسكو تجلس على طاولة المفاوضات مع إيران بشأن برنامجها النووي، وبالتالي فإن حسابات الاتفاق النووي تدخل في المعادلة “الإسرائيلية”، وليس موضوع التنسيق الأمني بين “إسرائيل” وروسيا حول الضربات الجوية على سوريا فحسب، بل من الممكن أن يكون هناك تقاطُع في المصالح بين روسيا و”إسرائيل” في قضية الاتفاق النووي الإيراني؛ فثمّة بعض المؤشرات على أن روسيا غير راغبة في الموافقة على اتفاق جديد لا يراعي مصالحها في الوقت الحالي، خصوصاً مع العقوبات الغربية الجديدة عليها، وهو الأمر الذي يتقاطع مع توجهات في “إسرائيل” المتخوفة من إبرام الاتفاق الذي يطلق يد إيران مجدداً في المنطقة، وهذا سبب جدير بالاهتمام بالنسبة لـ “إسرائيل” في مساعيها للتوسط، بغضّ النظر عن قدرة رئيس وزرائها على تحقيق تلك الوساطة.

 

وبمعنى آخر: فإن الحرب الروسية على أوكرانيا قد نجد لها أصداءً واضحة على ملف الوجود الإيراني في سوريا ارتفاعاً أو انخفاضاً؛ حيث إن عرقلة الاتفاق النووي الإيراني التي تبدو مصلحة روسية – “إسرائيلية” حالياً يعني استمرار حالة الضغط والحصار الأمريكي على إيران، ولكن في الجهة المقابلة فإن إيران قد تسعى لملء الفراغ الروسي المحتمل في سوريا، فيما إذا خفضت روسيا شيئاً فشيئاً من نفوذها في سوريا على حساب انشغالها في أوكرانيا، وفيما إذا شعرت إيران أن روسيا تعرقل الاتفاق لمصالحها الخاصة.

 

المحور الخامس: أثر الحرب على الوضع الإنساني واللاجئين السوريين:

 فيما تُلوّح واشنطن بالتصعيد عبر التهديد بمحاسبة  الأسد يُرجَّح أنه ستكون لذلك انعكاساتٌ سلبيةٌ على بعض جوانب التنسيق الروسي الأمريكي الذي بلغ مراحل متقدمةً في الأشهر الماضية، عبر الاتفاق على تمديد وصول المساعدات الإنسانية لمنطقة شمال غربي سوريا من خلال معبر “باب الهوى” شمالي إدلب؛ حيث إنه من الممكن أن تردّ روسيا على الخطوة الأمريكية ضدها في سوريا بتخريب التوافقات بين الطرفين حول عموم الأنشطة الإنسانية في سوريا، الأمر الذي ستكون له آثارٌ سلبية بالدرجة الأولى على مناطق شمال غرب سوريا التي تعتمد على معبر “باب الهوى” في وصول المساعدات، إذ يتم كل عام تجديد قرار توصيل المساعدات من خلاله في مجلس الأمن الدولي، وهو ما قد تعرقله موسكو باستخدام الفيتو ضد هذا القرار.

 

من جانب آخر فقد تردد اسم السوريين كثيراً منذ بداية الحرب بوصفهم مقاتلين مرتزقة يقاتلون إلى جانب طرفَي النزاع؛ إذ اتهم كل جانب الطرف الآخر بتجنيد مقاتلين سوريين للقتال في صفه مقابل المال، وقد وصف الرئيس الأوكراني روسيا بتجنيد “قتلة سوريين لتدمير أوكرانيا”. ومع تصريح روسيا رسمياً بتجنيد مقاتلين سوريين من مناطق النظام راغبين بالقتال إلى جانب روسيا وحماية إقليم دونباس؛ فقد نُشرت أنباء عن قيام فصائل من الجيش الوطني بتجنيد مقاتلين سوريين للقتال إلى جانب أوكرانيا، وهو ما نفاه الجيش الوطني السوري. وبغضّ النظر عن دوافع الطرفين وعن الأحوال والظروف الاقتصادية الصعبة التي قد تدفع بعض السوريين للمشاركة في المعارك؛ فإن خطورة هذا الأمر تكمن بشكل أساسي في تكريس سمعة “الارتزاق” عن المقاتلين السوريين، وإعطاء صورة نمطية مغلوطة عن المقاتل السوري كمَن يقاتل من أجل المال في أي ساحة نزاع أو صراع، كما أنه يهدّد بإثارة مشاعر الكراهية والحقد ضد الأعداد الكبيرة من اللاجئين السوريين في أوروبا.

 

ومن جانب آخر فإن اندلاع الحرب أدى إلى حدوث موجة لجوء لأكثر من 10 ملايين نسمة داخل أوكرانيا وخارجها، ما استدعى اهتماماً أممياً وأوروبياً سريعاً، وتقديماً للمساعدات والإغاثات الإنسانية اللازمة؛ مما يعني تقلص الاهتمام المتراجع أساساً بمشاكل اللاجئين السوريين وحاجاتهم داخل سوريا وخارجها، فضلاً عن التغطية الإعلامية الغربية “المتحيزة” و”غير المهنية” أساساً التي رافقت موجة اللجوء الأوكرانية؛ ولكن بالمجمل فإن استمرار الحرب الأوكرانية يعني بشكل أو بآخر مزيداً من تراجع الاهتمام والدعم للاجئين السوريين حول العالم.

 

الخاتمة:

من المتوقع أن يكون للحرب الروسية في أوكرانيا تأثيرات على القضية السورية نتيجة تداخل الفاعلين الدوليين والإقليميين في الملفَين؛ وهذا ما يجعل سوريا ميداناً محتملاً بين تلك القوى لتبادل الرسائل. وقد أعادت الحرب الروسية في أوكرانيا فيما يبدو الملف السوري من جديد إلى الواجهة، بعكس ما كان متوقعاً؛ وذلك من خلال التذكير بجرائم روسيا في سوريا، والتأكيد أن التغاضي عن دورها في سوريا تسبّب بتماديها وتهديدها لأمن أوروبا، إضافة إلى اصطفاف نظام الأسد إلى جانب روسيا بشكل مطلق، وهو ما يمكن استثماره سياسياً. وقد بدأت بالفعل العديد من الصحف ومراكز الأبحاث ترصد أوجه الشبه بين التكتيكات العسكرية والهجومية التي تستخدمها روسيا في أوكرانيا اليوم وتلك التي استخدمتها في سوريا على مدار السنوات الماضية، مخلّفة مئات الضحايا من المدنيين؛ مما يشير إلى وجود فرصة لتكثيف جهود ربط الجرائم التي ارتكبتها روسيا في سوريا بالحرب التي تقوم بها في أوكرانيا، واستغلال المناخ الدولي المشحون حالياً ضد روسيا والراغب بمعاقبتها وإيقاف جرائمها.

 

من جانب آخر فإن انشغال روسيا في أوكرانيا واستنزاف مواردها الاقتصادية والعسكرية هناك، والاستمرار في محاصرتها وعزلها سياسياً سيعزّز فرصة تثبيت الوضع القائم في شمال غرب سوريا منذ اتفاق موسكو في آذار من عام 2020م، وبالتالي تعزيز عوامل التعافي الذي بدأت تظهر ملامحه، كما أن ثبات خطوط النزاع مع دخول اتفاق موسكو عامه الثالث يُعد فرصة لتعزيز الاستقرار النسبي والإصلاح داخل صفوف قوى الثورة والمعارضة على مختلف المستويات، والانطلاق في عملية بناء نموذج حوكمة رشيد في شمال غرب سوريا.

 

في الوقت ذاته قد تحاول إيران الاستفادة من الانشغال والاستنزاف الروسي في ملء الفراغ ومدّ نفوذها في مناطق سيطرة نظام الأسد، لاسيما إذا تمّت العودة إلى الاتفاق النووي؛ مما يعني تراجع العقوبات على إيران ومنحها مزيداً من الأموال التي يمكن أن تسخّرها لصالح نفوذها الإقليمي عامةً، وفي سوريا خاصةً.