الثلاثاء 2020/05/05

الانهيار الاقتصادي في لبنان: الأسباب والحلول

أقرّت الحكومة اللبنانية الأسبوع الماضي خطة إصلاحية تقدمت على أساسها بطلب إلى «صندوق النقد الدولي» لمساعدة البلاد على الخروج من دوامة انهيار اقتصادي متسارع جعل قرابة نصف السكان تحت خط الفقر.

وأثارت الخطة ردود فعل متباينة بعضها سياسي المنطلق، وأدت إلى طرح اسئلة حول مدى قدرتها على حل مشاكل البلاد الاقتصادية من نوع: كيف وصل لبنان إلى هذه المرحلة وبات في مصاف الدول الأكثر مديونية في العالم؟ وهل مساعدة صندوق النقد كفيلة وحدها بإعادة دفع عجلة الاقتصاد في بلد صغير تثقل الانقسامات السياسية والطائفية كاهله؟

يذكر أن لبنان باشر بعد انتهاء الحرب الأهلية (1975-1990) إلى الاقتراض بكثافة لتمويل إعادة الاعمار. وأعاد بناء اقتصاد اعتمد بالدرجة الأولى على الخدمات والسياحة وجذب الاستثمارات الخارجية، وهي قطاعات مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالوضعين السياسي والأمني وتقلباتهما، محلياً واقليمياً.

في المقابل، لم تحصل إصلاحات بنيوية في الإدارة والمرافق العامة بسبب البيروقراطية والمحسوبيات ونظام المحاصصة الطائفية الذي تكرّس بعد الحرب باتفاق الطائف.

تراكم الدَين وزيادة أعبائه

تراكم الدين تدريجياً، وتصاعدت بالتالي أعباء خدمته بالفوائد المرتفعة، تزامناً مع انتفاخ فاتورة الإنفاق الحكومي. ورصدت الحكومات على مرّ السنوات اعتمادات مالية لإصلاح قطاع الكهرباء تعادل نحو نصف الدَين الخارجي، وفق تقديرات البنك الدولي. ويشكّل هذا القطاع أبرز مكامن الهدر، إذ لم تفلح الأموال التي انفقت على إصلاحه في تحسين أدائه أو تقلبص خسائره. وحتى البوم ما زال اللبنانيون يدفعون فاتورتي كهرباء، واحدة للدولة وثانية لأصحاب المولدات التي يستخدمونها لدى انقطاع التيار.

وازداد العجز في ميزان المدفوعات على مرّ سنوات من النمو المتباطئ، ووجود قطاع مصرفي متضخّم يمنح أسعار فائدة خيالية على الودائع. وهكذا تجاوز الديَن العام أكثر من 170 في المئة من إجمالي الناتج المحلي.

ومع تراجع الاحتياطات الأجنبية للمصرف المركزي الذي لطالما اعتُبر عرّاب استقرار الليرة منذ عام 1997، بدأت ملامح الانهيار المتسارع منذ عام تقريباً مع أزمة سيولة حادة وشح في الدولار. وفرضت المصارف منذ نهاية الصيف الماضي قيوداً على سحب الدولار وتحويل الأموال.

وتزامن ذلك مع انهيار الليرة التي لامس سعر صرفها مقابل الدولار عتبة الأربعة آلاف في السوق السوداء الشهر الحالي، بينما السعر الرسمي مثبت على 1507 ليرات.

ولعبت دوراً أساسياً في هذا التدهور الاقتصادي أزمات سياسية متتالية، تخللتها حروب واعتداءات واغتيالات خلّفت انقسامات وشللاً في المؤسسات الدستورية وأرخت بثقلها على آليات صنع القرار ووضع السياسات العامة وخطط التنمية.

وبعد اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري في 14 فبراير/شباط 2005، شهد لبنان انقساماً بين فريقين أحدهما معارض لنظام الأسد ومؤيد للمحكمة الدولية التي أنشئت للنظر في قضية الاغتيال وآخر مؤيد لنظام الأسد ومعارض للمحكمة.

وتبعت ذلك أربع سنوات من عدم الاستقرار السياسي مع تفجيرات واغتيالات، ثم حرب تموز 2006 بين إسرائيل وحزب الله. وفي العام 2008، شهدت البلاد أزمة سياسية حادة انعكست اشتباكات مسلحة في مناطق عدة.

وتجدّد الانقسام عام 2011 على وقع النزاع في سوريا المجاورة، ووقعت اعتداءات وتفجيرات حتى العام 2013. وبقيت البلاد لعام ونصف العام دون رئيس، إثر انتهاء ولاية رئيس الجمهورية السابق ميشال سليمان في مايو/أيار 2014.

ويلخص مركز «كارنيغي» للشرق الأوسط في أحد منشوراته الأزمة الاقتصادية بأنها «في جوهرها أزمة حَوكمة مُنبثقة من نظام طائفي يعاني من خلل بُنيوي، ما حال دون صنع سياسات عقلانية وسمح بانتشار ثقافة الفساد والهدر».

ماذا عن الحلول المتاحة؟

أقرّت الحكومة في نهاية الشهر الماضي خطة إصلاحية وطلبت مساعدة «صندوق النقد الدولي». وتأمل بفضلها في الحصول على أكثر من 20 مليار دولار من المانحين والمقرضين الأجانب. وتقترح الخطة التقشفية الممتدة على خمس سنوات إصلاحات على مستويات عدة، بينها السياسة المالية وميزان المدفوعات والبنى التحتية، وإعادة هيكلة للديون والمصارف.

لكنها تلحظ إجراءات موجعة تطال المواطنين مباشرة على غرار تجميد التوظيف في القطاع العام، وخفض عدد المتعاقدين، وعدم إشغال آلاف الوظائف بعد تقاعد من يشغلها باستثناء المواقع الحساسة. وتعتمد تقدير سعر للصرف عند 3500 ليرة مقابل الدولار.

وتقدم الخطة «تشخيصاً» عن حقيقة الأزمة، إلا أنها «لا تعد متكاملة»، وفق ما يرى ناصر ياسين، مدير «معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية» في الجامعة الأمريكية في بيروت.

ويقول ياسين «هي محاولة حلّ للأزمة الشائكة عبر أدوات مالية ومحاسبية للحصول على الدعم الخارجي عبر صندوق النقد، بينما تفرض شروطاً قاسية على مستوى التقديمات الاجتماعية والإجراءات التقشفية».

وبالتالي، «ومع أخذها وصفة الصندوق كاملة، فإن الفئات الاجتماعية الفقيرة والطبقة الوسطى هي من ستدفع الثمن: مع توقع تضخم مرتفع وانكماش في الاقتصاد».

هل سيكون التنفيذ ممكناً؟

لا يبدي ياسين تفاؤلاً إزاء إمكانية تطبيق الخطة التي يرى أنها كانت تحتاج تشاوراً مع فئات واسعة، كونها «تعيد إنتاج الاقتصاد وتصميم الإدارة المالية للدولة» بعيداً عن الاقتصاد الحر الذي لطالما ميّز لبنان وشكّل عامل جذب للرساميل.

لكن فرنسا، التي لعبت دورا أساسيا خلال السنوات الماضية في حشد دعم من جهات مانحة للبنان، رحبّت بالخطة ودعت إلى تنفيذ فوري للإصلاحات.

ويجمع المحللون على أن تطبيق الخطة يجب أن يترافق مع عقلية جديدة في إدارة الدولة، بعيداً عن منطق الصفقات والمحسوبيات والتسويات القائمة منذ عقود.

ويقول محمود فاعور، الباحث في الشؤون المالية والمصرفية في جامعة دبلن الإيرلندية، أن تطبيق الاصلاحات الواردة في الخطة يعتمد «على مدى تعاون الطبقة السياسية عبر تشريعها في البرلمان»، مبدياً قلقه من أن تحول «المشاحنات السياسية» دون ذلك.

وتتطلّب بنود عدة في الخطة، مثل هيكلة الدَين وفرض ضرائب جديدة وقبول دعم مالي، موافقة البرلمان الذي دعا رئيس الجمهورية رؤساء الكتل فيه إلى اجتماع غداً الأربعاء لإطلاعهم على مضمون الخطة.

ورفضت جمعية المصارف وشخصيات سياسية معارضة، الخطة. ولا تتمتع الحكومة بحاضنة شعبية، ويقف متظاهرون غاضبون لها بالمرصاد، وتحظى بدعم قوى رئيسية أبرزها كتلة عون وحزب الله الذي تعدّه واشنطن منظمة إرهابية وحظرت برلين نشاطاته على أرضها قبل أيام. ويقول فاعور «يمكن للبنان أن يقف مجددا مع إصلاح متين يحظى بدعم دولي، لكن القلق الرئيسي هو ما إذا كانت السياسة الداخلية ستسمح بتنفيذ أي خطة ذات مصداقية».