الجمعة 2016/10/21

لأول مرة منذ عقود.. الأوقاف التركية تعين إماما لمسجد «آيا صوفيا» في إسطنبول

عينت دائرة الأوقاف التركية لأول مرة منذ عقود، إماما لمسجد متحف «آيا صوفيا» ليصدح بالأذان 5 مرات يوميا عبر مآذنه الأربعة.

و«آيا صوفيا» صرح ديني تركي مهيب؛ يعظمه سكان البلاد من المسلمين والمسيحيين على السواء.

وبعد أن كان أضخم كاتدرائية للمسيحيين الأرثوذكس طوال 900 عام، أصبح أحد أعظم مساجد المسلمين على مدى نحو 5 قرون، ثم صار متحفا فنيا منذ 1934 بقرار سياسي، وتعتبره منظمة «اليونسكو» من الآثار التاريخية المنتمية إلى الثروة الثقافية العالمية.

ويقال إن اسم «آيا صوفيا» يعني باللغة اليونانية «الحكمة المقدسة»، وقد شيد صرحها عند مدخل مضيق البوسفور في القسم الأوروبي من مدينة إسطنبول بتركيا، ويعرف موقعها اليوم بـ«منطقة السلطان أحمد».

وأقيمت «آيا صوفيا» عام 537 بأمر من الإمبراطور البيزنطي «يوستينيانوس الأول» (527-565) -الذي امتد حكمه من إسبانيا إلى منطقة الشرق الأوسط- لتكون صرحا دينيا لا نظير له في العالم المسيحي، وعنوانا لقوة الدولة الرومانية الشرقية.

وظلت تمثل الكنسية الرسمية للدولة المسيحية البيزنطية وجوهرة عاصمتها القسطنطينية رغم تهدمها واحتراقها أكثر من مرة، إلى أن فتح السلطان العثماني «محمد الثاني» (الشهير بمحمد الفاتح) المدينة عام 1453 فغير اسمها إلى «إسطنبول»، ودخل هذه الكنيسة فصلى فيها أول جمعة بعد الفتح، وجعلها مسجدا كبيرا يرمز -في الاتجاه المعاكس- لقوة الدولة العثمانية وسيطرتها.

ومنذ ذلك الوقت أصبحت «آيا صوفيا» جامعا إسلاميا عظيما يحظى برمزية كبيرة لدى الأتراك، إلى أن منع زعيمهم العسكري «مصطفى كمال أتاتورك» -الذي أنهى حكم الخلافة العثمانية عام 1923 وأعلن قيام جمهورية علمانية بدلا عنها- إقامة الشعائر الدينية فيه عام 1931، ثم حوله في 1935 إلى متحف فني يضم كنوزا أثرية إسلامية ومسيحية.

وفي يوم 27 مايو/آيار 2012 أدى آلاف المسلمين الصلاة أمام مبناه احتجاجا على قانون حظر إقامة الشعائر الدينية فيه، وذلك بمناسبة الذكرى الـ559 لانتصار السلطان «محمد الفاتح» وفتحه القسطنطينية، وهتف المحتجون: «اكسروا السلاسل.. وافتحوا مسجد آيا صوفيا.. المسجد الأسير».

وفي 2013 نشرت مجلة أكاديمية تركية بحثا للمؤرخ التركي «يوسف هالاجوغلو» واثنين من الباحثين قالوا فيه إنه لا يمكن استمرار جعل «آيا صوفيا» متحفا، لأن تحويلها إلى متحف تم بطريقة «غير شرعية» عبر تزوير توقيع «أتاتورك» على القرار المتعلق بالموضوع.

لكن الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان» رد على هؤلاء المطالبين -حين كان رئيسا للوزراء عام 2013- بأنه لن يفكر في تغيير وضع «آيا صوفيا» ما دام هناك صرح إسلامي عظيم آخر في إسطنبول شبه خاو من المصلين وهو مسجد السلطان أحمد الذي يرجع بناؤه إلى القرن 17 الميلادي، لافتا إلى أن المدينة فيها أكثر من ثلاثة آلاف مسجد.

ومع توالي المطالب بإعادة آيا صوفيا مسجدا؛ سمحت حكومة حزب «العدالة والتنمية» بفتح مسجد في الجزء الخلفي من المبنى، وكلفت أجمل مؤذني إسطنبول أصواتا برفع الأذان من مبنى يقع في ساحة «آيا صوفيا»، ليتردد الأذان عبر مكبرات الصوت في مآذنه.

ثم أصدرت رئاسة الشؤون الدينية التركية في يونيو/حزيران 2016 قرارا بتلاوة القرآن يوميا في آيا صوفيا خلال شهر رمضان المبارك لسنة 1437 هجرية، وأطلقت من داخله برنامجا دينيا خاصا بليلة القدر بعنوان «خير من ألف شهر»، رفع في نهايته المؤذن التركي الشيخ «فاتح قوجا» الأذان من نفس الموقع الذي رفع منه آخر مرة بـ«آيا صوفيا» قبل 85 عاما، وهي مدة تساوي تقريبا «ألف شهر».

وقد انتقدت دولة اليونان هذه الخطوات ورأت أن التصرف التركي يصل إلى حدود التعصب الديني، ويظهر انفصاما عن الواقع، وأن هذه التصرفات ليست متوافقة مع المجتمعات الديمقراطية والعلمانية، وتمثل إهانة لمشاعر الملايين من المسيحيين.

كما طالب البطريرك «برثلماوس» الزعيم الروحي لنحو ثلاثمائة مليون مسيحي أرثوذوكسي في أنحاء العالم بأن يظل موقع آيا صوفيا متحفا.

وأصدرت المفوضية الأمريكية للحرية الدينية في العالم -وهي هيئة استشارية شكلها «الكونغرس» من أعضاء في الحزبين الديمقراطي والجمهوري- بيانا قالت فيه إن إعادة آيا صوفيا مسجدا سيعرض وضع تركيا الدولي للخطر، وسيعيد إلى الأذهان إساءة معاملتها للمسيحيين خلال القرن الماضي.

لكن الأتراك يقولون إنه لا يحق لليونانيين الاعتراض على قراءة القرآن في آيا صوفيا بعدما هدموا الكثير من الآثار العثمانية التي بقيت في بلادهم التي كانت لقرون خاضعة لحكم العثمانيين، وأساؤوا استخدام آثار أخرى لدرجة أن أحد مساجد مدينة سالونيك حول إلى صالة سينما تعرض الأفلام الإباحية، كما أن أثينا من بين عواصم عالمية قليلة لا يسمح فيها ببناء المساجد.

وينظر إلى «آيا صوفيا» باعتبارها معلما أثريا عالميا يعكس تنوع الإرث الحضاري لمدينة إسطنبول التي تقع على نقطة تقاطع حضاري بين الشرق والغرب، وكانت على مر التاريخ عاصمة للإمبراطوريات الرومانية والبيزنطية والعثمانية، وقد أدرجتها منظمة «اليونيسكو» الأممية عام 1985 ضمن قائمتها لمواقع التراث العالمية.

لكنها تمثل رمزا ثقافيا عالميا له وزن خاص للمسيحيين الأرثوذكس في كل مكان، وهي مقصد سياحي ديني للملايين منهم لما تجسده من دلالة دينية وعاطفية.

وبالنسبة لليونانيين منهم خاصة فإنها رمز ذكرى قوية لفترة تاريخية تجسد آمالهم في مستقبل أفضل، لا بقصد التوسع والتمدد لكن من ناحية العزاء الديني المسيحي.

ومن الناحية الاقتصادية تأتي «آيا صوفيا» في المركز الثاني بين المتاحف التركية الأكثر جذبا للسياح؛ فقد استقطبت منهم عام 2012 نحو 3.3 ملايين زائر.

ومن أشهر الشخصيات الدينية المسيحية التي زارتها في العقود الخمسة الأخيرة بابا الفاتيكان الراحل «يوحنا بولس السادس» الذي أثار مفاجأة عندما جثا وصلى فيها خلال زيارته لتركيا عام 1967.

وفي مساء الخميس 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2006 زارها خليفته البابا السابق «بنديكت السادس عشر» ثم اتجه منها إلى زيارة المسجد الأزرق، متخطيا بذلك الجدل الكبير الذي أثير حول زيارته لهذين المكانين، ثم كرر زيارتها خلفه البابا «فرانشيسكو» يوم 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2014.