الثلاثاء 2019/08/13

هل تسلّم “قسد” شمال شرق سوريا للنظام إذا أنشئت المنطقة الآمنة؟


مركز الجسر للدراسات...


لننطلق من الأمور الثابتة في هذه الثلاثية: حزب العمال الكردستاني، ونظام الأسد، والدولة التركية.

أسّس "عبد الله أوجلان" المولود في منطقة أورفة جنوب شرق تركيا، حزبه في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 1978، تحت إيديولوجية ماركسيّة لينينيّة، بدعم من أصدقائه "السوفييت"، ومطالباً بحقوق الأكراد في تركيا وخصوصاً في الحصول على "وطن قومي" يجمعهم، عقب بدء نشاط الحزب بعامين، أدّت أحداث 12 أيلول/ سبتمبر1980، إلى هروب العديد من الأكراد ومن عناصر الحزب إلى سوريا، كان أوجلان قد سبقهم قبل فترة قصيرة إلى دمشق التي كان يدير تنظيمه منها، ومنها حوّل عناصر حزبه إلى بعض مخيمات اللجوء الفلسطينية في لبنان، ثم قام بفتح معسكرات تدريب في منطقة سهل البقاع اللبنانية التي كانت خاضعة لحكم نظام الأسد آنذاك.

 عقد الحزب مؤتمره الأول في سوريا في الفترة 15-25 تموز/ يوليو 1981، لكن وبناءً على طلب حافظ الأسد، خرج الحزب من سوريا واستقرّ في شمال العراق، وبعد المؤتمر الثاني للحزب والذي انعقد أيضاً في سوريا في عام 1984، بدأ التنظيم بعملياته المسلحة ضد أهداف عسكرية على الأراضي التركية.

 نهاية عام 1998 اضطر النظام تحت ضغوط تركية إلى الطلب من أوجلان مغادرة "ملجئه" في دمشق، وإغلاق بعض معسكرات تدريبه، لكن يبدو أن الحزب بقي على صلات وعلاقات وثيقة بنظام الأسد، وبرهن على ولائه لهذا النظام حين أظهر نفسه في موقف "محايد" بعد اندلاع الثورة السورية 2011، ويتحدث الناشطون الأكراد في منطقة الجزيرة عن عمالة التنظيم للنظام "من خلال السلاح الذي ظهر فجأة وإنشاء حواجز بمداخل المدن، ومن ثم تسليم المقرات الحكومية للحزب من قبل النظام وحتى الإشراف على نقل شبيحة الأسد للقامشلي".

مع أن الحزب لا يزال مصنفاً كمنظمة إرهابية في الولايات المتحدة، إلا أن هذه الأخيرة عملت على دعم المليشيات العسكرية PYD التابعة له في سوريا لمحاربة تنظيم الدولة، بعد توقف مشروع تسليح وتدريب الجيش الحر، وبالتالي ساعدت على استيلاء هذه المليشيات على كامل المساحات الواقعة شمال شرق الفرات تقريباً.

تركيا عام 1998 كانت توصلت إثر خلافها مع نظام الأسد بسبب نشاط الحزب إلى التوقيع على اتفاق أضنة، الذي تحمي بموجبه حدودها الجنوبية من أي خطر يشكله على أمنها القومي، لكن وبعد انهيار قوات النظام في تلك المناطق عاود الحزب نشر مليشياته على الحدود التركية، وهو ما أثار حفيظة أنقرة التي قامت بطرد عناصر الحزب من كامل حدودها شمال غرب الفرات في منطقتي درع الفرات، وغصن الزيتون، وهي عازمة الآن على فعل الشيء نفسه على حدودها شمال شرق الفرات، وتسعى قبل البدء بهجوم عسكري إلى محاولة التوصل لاتفاق مع الجانب الأمريكي، تضمن فيه الولايات المتحدة إبعاد ما يسمّى قوات سوريا الديمقراطية "قسد" إلى عمق يصل إلى 20-40 كم بعيداً عن الحدود التركية.

المليشيات الكردية تخشى أن تتخلى عنها الولايات المتحدة كما فعلت شمال غرب الفرات، وخسرت هناك عفرين ومناطق عديدة أخرى في ريف حلب، فكيف سيكون رد فعلها فيما لو اتفقت أنقرة وواشنطن على إبعاد PYD عن الحدود التركية شمال شرق الفرات، وهو ما يعني خسارتها للمنطقة التي تعتبرها كردية وأساس إقامة الإدارة الذاتية، أو الوطن القومي الكردي؟

PYD ستهدد أولاً بالعودة إلى حضن نظام الأسد والتحالف معه ضد تركيا، وهي فعلت ذلك مطلع هذا العام إثر إعلان قرار ترامب سحب قواته من سوريا حين أخبر مسؤول كردي سوري كبير واشنطن أنه إذا غادرت القوات الأمريكية ، "يمكن أن تكون قوات سوريا الديمقراطية جزءاً من الجيش السوري الجديد. هذا طريق بديل لنا" وهو مع صعوبة حدوثه بسبب الرفض الأمريكي المتوقّع له، فالولايات المتحدة لا تزال تريد منع النظام من الوصول إلى الموارد والثروات الموجودة في المنطقة، ومتابعة الضغط عليه اقتصادياً لفك ارتباطه بإيران، ولا تزال تريد تحجيم نفوذ إيران، ومنعها من إقامة ممر بري إلى شواطئ المتوسط. إلا أنه ليس مستبعداً تماماً، فها هي فصائل عديدة من الجيش الحر لها عداوة واضحة مع النظام، صارت جزءاً من قواته بعد توقيعها مصالحات معه، وهي الآن تقاتل في صفوفه على جبهات حماة وإدلب.

الورقة الثانية التي تهدد بها المليشيات هي ترك قتال تنظيم الدولة، أو المناطق التي كان يسيطر عليها في الرقة ودر الزور، والانسحاب نحو الشمال لحماية المناطق المحاذية للحدود التركية التي تعتبرها جزءاً من "روج آفا" الكردية، وهذا يعني إمكانية عودة التنظيم لبسط سيطرته على المناطق التي خسرها سابقاً.

الورقة الثالثة بيد المليشيات هي إطلاق سراح معتقلي تنظيم الدولة الذين يقارب عددهم ألف مقاتل معظمهم من الأجانب الذين رفضت دولهم استقبالهم.

في كلتا الورقتين الثانية والثالثة يعتبر ذلك انتكاسة وضربة موجعة للتحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب، وهو أمر أيضاً من الصعب السماح بحدوثه. لكنه ليس مستبعداً بالكلية إذا لم يبق أمام المليشيات شيء تخسره.

الخيار الثاني لدى PYD تكرار ما فعلته شمال غرب الفرات في مناشدة نظام الأسد إرسال قواته إلى المنطقة لحمايتها من "الغزو التركي" فعلوا ذلك في بيانهم مطلع عام 2018 إبّان معركة عفرين، وجاء فيه: "في الوقت الذي نؤكد بأننا سنستمر بالدفاع عن منطقة عفرين أمام الهجمات الخارجية المسعورة و سنتصدى لمحاولات الاحتلال التركي لعفرين، ندعو الدولة السورية للقيام بواجباتها السيادية اتجاه عفرين وحماية حدودها مع تركيا من هجمات المحتل التركي، حيث لم تقم بواجبها حتى الآن على الرغم من الإعلان عنه بشكل رسمي ونشر قواتها المسلحة السورية لتأمين حدود منطقة عفرين".

صرح يومها قيادي كردي لقناة الميادين، "أنهم اتفقوا مع النظام السوري على دخول قوات النظام إلى عفرين للدفاع عنها وحمايتها من العدوان التركي".

بالطبع النظام لم يمارس سيادته، ولم يرسل قواته، لكن اكتفى بالسماح للقوات الكردية بالمرور عبر الأراضي التي يسيطر عليها، وهو دليل على التعاون الوثيق والمستمر بينهما.

كذلك ناشدت المليشيات الكردية النظام بعد انسحابها من محيط منبج، فبحسب بيانهم قالوا: "نحن ندعو قوات الحكومة السورية لتأكيد سيطرتها على المناطق التي انسحبت قواتنا منها، ولا سيما منبج، وحماية هذه المناطق ضد الغزو التركي".

المليشيات الكردية لها عدوّان رئيسيان في المنطقة: العرب الذين يرفضون حكمها وقيادتها، وتركيا التي ترفض وجودها على حدودها، وهي مستعدة في سبيل عدم تسليم المنطقة للعرب، أو وجود تركي ولو على شكل دوريات مراقبة، أن تذهب حدّاً بعيداً يصل إلى تسليم النظام منطقة شمال شرق سوريا بكاملها دون مقابل، أو مقابل حكم ذاتي محدود.

قسد في هذه النقطة بالذات تطمس عمداً جزئية مطالبة العرب وباقي مكونات المنطقة لها بالمشاركة في إدارتها بحسب نسب توزعهم الجغرافي والديموغرافي، وتصوّر القضية على أنها "احتلال تركي"، رغم أن الأتراك يداومون على التصريح بأن مطلبهم الوحيد يتمثل بتمكين أهل المنطقة الأصليين بمن فيهم الأكراد من إدارة شؤونهم، لا أن تتسلّط عليهم "قسد" جميعاً وتتفرّد بحكمهم، وكمثال على هذا التصرّف من قسد، فإنّ تركيا كانت تطالب بعودة الأمور إلى نصابها في مدينة منبج ذات الغالبية العربية، فيما مضت قسد تهدد بتسليمها للنظام متجاهلة أو رافضة تسليمها للعرب، أو القبول بمشاركتهم لها في إدارتها حسب نسبتهم الديموغرافية فيها، وتتابعت تصريحات قياديين فيها مهدّدين بتسليم منبج للنظام، ومن ذلك إعلان  "مجلس منبج العسكري في 12/7/2018عن رفضه إدارة الجانب التركي للمدينة والرغبة في تسليمها للنظام، مشيراً إلى أن مباحثات تجري مع النظام بخصوص هذا الملف"، ونقلت صحيفة الوطن التابعة للنظام عن قيادي في المجلس "أنّ المجلس و " الإدارة المدنية الديمقراطية" يرغبان في عودة النظام لاستلام ادارة منبج. وأن "مجلس منبج العسكري ومعظم سكان المدينة يعتبرون تركيا دولة احتلال تريد تشريد الأكراد السوريين من أراضيهم كما فعلت في عفرين"، وأن "مفاوضات بين مجلس منبج العسكري وممثلين عن الدولة السورية تجري بخصوص تسليم المدينة للحكومة السورية وأن موسكو على علم بذلك وستدخل على خط التفاوض مع تركيا لتلبية رغبة سكان منبج الرافضين للوجود التركي".

وبسبب علم قسد ضعف تبرير التهديد بتسليمها للنظام، بذريعة منع سيطرة تركيا عليها، حيث إن الذي سيدخل إلى منبج ليس القوات التركية، وإنما فصائل الجيش الحر السورية، فإنها انتقلت إلى اعتبار الفصائل عدواً لها أيضاً، والسبب هذه المرة أنها تتلقى دعماً من تركيا، ففي 3/3/2017 أعلن مجلس منبج العسكري "أنه سيسلّم القرى الواقعة في غرب ريف مدينة منبج الى الجيش السوري لمنع المعارضة المسلحة المدعومة من تركيا من السيطرة عليها".

 نهاية المطاف في موقف قسد من النظام ما ورد على لسان الناطقة باسمها جيهان أحمد في 28/12/2018 بحسب وكالة سبوتنيك : "نحن مع دخول الجيش السوري إلى منبج لكي نحافظ على سوريا، لأن تركيا عندما تضع أقدامها في أي مكان لا يمكن أن تخرج منه"، وأضافت أحمد: "نحن نعمل مع دمشق على سد الطريق أمام تركيا، وبعد ذلك نحل شؤوننا الداخلية مع النظام"، مشيرة إلى أنه: "نحن والنظام عائلة واحدة مثل أب وأولاده يحلون مشاكلهم الداخلية دون تدخل أحد". ولفتت أحمد إلى أن "هذا الاتفاق ينطبق على منطقة شرق الفرات"، مشددة أنه "ما يهمنا هو مصير الشعب". وفي تصريح سابق لها قبيل بيان لقيادة قوات النظام، قالت أحمد لـ"سبوتنيك":" نحن سوريون ولسنا أتراكاً، مشكلتنا مع النظام ونحلّها داخلياً، وأبوابنا مفتوحة للحوار ونحن لن نحارب النظام. نحن قتالنا فقط ضد تركيا وداعش".

إذن حسب المعطيات الحالية، واستناداً إلى سلوك قسد السابق، وطبيعة علاقتها التاريخية بنظام الأسد، فإن الاحتمال الأرجح ان تلجأ قسد إلى التفاوض مع النظام للتوصل لاتفاق تقوم بموجبه بتسليمه منطقة شمال شرق سوريا للنظام مقابل إدارة ذاتية محدودة الصلاحيات، فيما لو نجحت مباحثات أنقرة وواشنطن حول إنشاء منطقة آمنة بعمق يصل إلى 20-40 كم داخل الأراضي السورية.