في الوقت الذي أصبحت فيه المؤتمرات حول سوريا في جنيف وأستانا وسواها، محطات لاستنفاد الوقت، وتاريخاً يتذكر فيه السوريون التمييع الدولي المريب تجاه قضيتهم، تتوجه الأنظار اليوم إلى القدس، حيث يلتقي غداً الإثنين مسؤولو الأمن القومي الأمريكي والإسرائيلي والروسي، لإنجاز اختراق ما في الملف السوري، وسعياً لبلورة رؤية مشتركة تجاه قضايا المنطقة، وعلى رأسها إيران.
اللقاء الرسمي الأول الذي تشارك فيه تل أبيب حول سوريا. لعل في ذلك دلالة كبيرة على أن الطرف الغائب الحاضر في الملف السوري (إسرائيل)، وجد المرحلة التاريخية ملائمة للتدخل العلني في رسم مستقبل المنطقة، ولا سيما أن الدولتين العظميين أمريكا وروسيا، لم تستطيعا خلال سنوات الوصول إلى اتفاق حاسم، يرتّب الأوراق السورية المبعثرة.
لعل تبعثر الأوراق حول سوريا كان مصلحة إسرائيلية بحتة، فـ"تل أبيب" التي وجدت من مصلحتها رؤية جارتها مفككة، والتي فضلت الوصول إلى نموذج "الأسد الضعيف"، ترى اليوم أن وقت "التوسّط" بين موسكو وواشنطن قد حان لجمعهما على طاولة واحدة، خشية أن تذهب خيوط اللعبة بعيداً عنها لسبب أو لآخر. ولهذا كتب نتنياهو في تغريدة على حسابه الرسمي بموقع "تويتر"، أن اجتماع القدس "لقاء تاريخي غير مسبوق" و"قمة مهمة جدا من شأنها ضمان الاستقرار في الشرق الأوسط في فترة هائجة وحساسة"، وأشار إلى أن اللقاء الثلاثي "يجمع بين الدولتين العظميين في دولة إسرائيل وهذا يمثل ألف دليل على مكانة إسرائيل الحالية على الساحة الدولية".
لقاء الظروف المعقدة:
لقاء القدس يأتي غداً وسط مجموعة من التطورات داخل سوريا وخارجها، يبدو للوهلة الأولى أنها أحداث متفرقة، غير أنها في الواقع انعكاسات حتمية لما كان يُطبخ في سوريا خلال ثمانية أعوام.
أولاً.. صفقة القرن:
في الأثناء التي يتم فيها التحضير للّقاء الأمني الثلاثي في القدس، يتم التحضير كذلك للقاء ثانٍ في اليوميين التاليين ( 25-26- حزيران). حيث تجمع واشنطن بعض حلفائها في البحرين، لتنفيذ الخطوة الأولى من خطتها للسلام في الشرق الأوسط، والتي باتت معروفة إعلامياً باسم "صفقة القرن".
لا يمكن أن تكون "ورشة البحرين الاقتصادية" غائبة عن لقاء القدس، فواشنطن وتل أبيب تعلمان جيداً أن مشروع "صفقة القرن" غير قابل للتطبيق من دون ضمان موافقة روسيا التي باتت لاعباً رئيسياً في الفضاء المحيط بالكيان الإسرائيلي. وقد يتضمن اللقاء الثلاثي مساومة موسكو على بعض الامتيازات مقابل تسهيل تطبيق الخطة، أو على الأقل ضمان عدم عرقلتها في المدى المنظور.
ثانياً.. التوتر مع إيران:
يوم الخميس الماضي أسقطت إيران طائرة أمريكية مسيرة في مياه الخليج، في حادثة كسرت فيها طهران قواعد المواجهة المعهودة، فهي التي تصمت منذ شهور على ضربات إسرائيلية متكررة ضد مليشياتها ومواقع عسكرية تابعة لها في سوريا.
تل أبيب ومن خلفها الرياض وأبو ظبي قرعت طبول الحرب فوق رأس ترامب، الذي على الدم في عروقه وهدد بتلقين الإيرانيين درساً، إلا أنه سرعان ما تراجع عن ذلك خشية وقوع قتلى في رده الذي قال إنه لا يتناسب مع إسقاط طائرة ليس فيها جنود.
صحيح أن نتنياهو لم يعلق على إلغاء الضربة خلال مؤتمر صحفي جمعه ببولتون اليوم قبيل لقاء بينهما، إلا أن التراجع الأمريكي لا بد أنه فتح إشارات استفهام واسعة تنتظر تل أبيب الإجابة عنها من الجانب الأمريكي سريعاً.
يبدو أن واشنطن وجدت مواصلة الضغط الاقتصادي أكثر جدوى من عمل عسكري يشعل المنطقة المشتعلة أصلاً، وتوعد الرئيس الأمريكي في آخر تصريحاته بفرض حزمة عقوبات جديدة على إيران.
ثالثاً.. الامتحان الأمريكي التركي:
بالتزامن مع ما سبق، تحوم في الأجواء اليوم زوبعة من نوع آخر، تتعلق بحدث تاريخي حول شراء تركيا منظومة الصواريخ الدفاعية الروسية إس400، في صفقة تعدها واشنطن إسفيناً كبيراً في نعش "حلف شمال الأطلسي".
صحيح أن تركيا غير مشاركة بلقاء القدس، لكنها حاضرة ضمنياً من خلال نفوذها في الشمال السوري، من خلال سيطرتها على منطقتي "درع الفرات" و"غصن الزيتون" من جهة، ومن خلال شراكتها مع روسيا في اتفاق سوتشي حول إدلب من جهة أخرى.
واشنطن تعمل اليوم على إقناع أنقرة بالتراجع عن الصفقة تحت تأثير الترغيب والترهيب، وهي على الجانب الآخر تحاول إفهام الروس بأن المطلوب اختصار اللاعبين في الملف السوري لسهولة ترتيب الأوراق، فمن الطبيعي أن يتضمن اللقاء بحث ملف إدلب، الذي يتوقف الحسم فيه على ملفات أخرى في واقع الأمر.
صفقة طويلة الأمد أم اتفاق مؤقت؟
تدور مجمل التوقعات حول لقاء القدس في محور أساسي: طرد إيران من سوريا مقابل صفقة ما.
تقول التسريبات غير الرسمية إن الصفقة تتضمن إقناع موسكو بالتخلي عن شراكة إيران في سوريا، مقابل إبقاء بشار الأسد ومنح روسيا الامتيازات اللازمة لتثبيت أركانها ومصالحها في سوريا.
روسيا رفضت الحديث عن "صفقة" وقال بوتين صراحة إن "مواقفنا مع حلفائنا ومبادئنا لا تقبل الحديث عن صفقات". هي تصريحات للاستهلاك الإعلامي فقط، فروسيا لم تدفع المليارات في سوريا حتماً دفاعاً عن شخص بشار الأسد أو حلفائه الإيرانيين، هي في نهاية الأمر لاعب يبحث عن مكاسب، والمكاسب لا يمكن أن تأتي عبر الحروب، إنها تأتي عبر الصفقات!.
السؤال الآن.. هل تتوصل أطراف اللقاء في القدس إلى "صفقة طويلة الأمد" في سوريا والمنطقة، أم إنها ستكتفي بالوصول إلى اتفاقات مؤقتة؟
المنطق يشير إلى الخيار الثاني، فليس الملف السوري كما ذكرنا منفصلاً عن بقية ملفات المنطقة المعقدة، وهذا ما يستوجب أن تضع الأطراف الثلاثة عينها على اتفاقات مؤقتة يمكن أن تقود في نهاية المطاف إلى حل شامل، ولا سيما أن روسيا لا تدعم استراتيجية "الضغوط القصوى" التي تنهجها الولايات المتحدة ضد إيران، لعدة أسباب تحدث عنها مقال مطوّل في موقع "الجزيرة الإنكليزية":
1- فموسكو -قبل كل شيء- تعتبر طهران لاعباً مهماً في الشرق الأوسط وحصنا ضد الهيمنة الأمريكية. لذا فمن مصلحتها الحفاظ على المنطقة "متعددة الأقطاب".
2-وعلى الرغم من وجود خلافات في سوريا، تحتاج روسيا إلى إيران لإدارة الصراع هناك. كما يدرك الكرملين جيدا أن أي حديث عن انسحاب إيراني كامل من سوريا هو مجرد تمنّ. على مدى السنوات الثماني الماضية، توغل الإيرانيون بعمق في جسم النظام في سوريا وقواته المسلحة، ويستلزم القضاء عليهم إزالة النظام السياسي والعسكري برمته - وهو ما أمر ليست موسكو مستعدة للقيام به.
3- يتعاون البلدان أيضاً في منطقة بحر قزوين وآسيا الوسطى في مجموعة متنوعة من القضايا، بدءا من مجال الطاقة ووصولاً إلى المجال الأمني.
4- حاول الكرملين استبدال دعمه لإيران بعلاقات أفضل مع الغرب مرتين قبل اليوم وكان يفشل في كل مرة في الحصول على ما يريد؛ لذا فمن غير المرجح تكرار نفس الخطأ مرة ثالثة.
يتوقع أن يلتقي الرئيسان الأمريكي والروسي نهاية هذا الشهر على هامش قمة مجموعة العشرين في مدينة أوساكا باليابان، والمتوقع كذلك أن يتناول اللقاء – إن حصل بالفعل –، ما تم التوصل إليه من نقاط خلال لقاء القدس.
اقرأ المزيد