الثلاثاء 2016/12/27

شهيد الفرات.. لا يزال حياً

من الصعب أن أكتب.. ومن غير المنطق أن يكتب جاهل عن عارف أو مفضول عن فاضل، وأيضاً فإن اللغة قد لا تسعفني في الوصول إلى غايتي، إذ أرى نفسي عاجزة عن صوغ الكلمات التي أجدها فقيرةً وشحيحة جداً كي تعبّر عن مقدام صال وجال وأثخن بأعدائه أيَّـما إثخان، إلا أنني سأروي ما شهدته عيناي من شابٍّ معطاء في العلم والإنفاق والإباء والجود والذود عن أهالي مدينته، كريم المُحيّا دوَّامِ الابتسامة على من يلقاه.. رجلٌ بألف رجل، لا تخرج من فيه إلا الكلمة الطيبة والقول الحسن.. اعتاد الموعظة والنصح والإرشاد والدعوة إلى الحق ومصارعة الباطل وأهله، ناهض النظام وقارعه قبل حتى أن تندلع الثورة السورية.

أربع سنوات مرت على الذكرى الأولى لاستشهاد الشيخ إسماعيل العلوش "أبو عكرمة" أبرز مقاتلي ثوار مدينة دير الزور، درس العلوم الشرعية في كلية الإمام الأوزاعي بدمشق، وكان يسعى لنيل درجة الماجستير، وكان يجمع طلاب العلم في مجالس علم بمنزله، ما جعل النظام وأجهزته الأمنية يتتبعونه، واعتُقل مرةً واحدة في رمضان عام 2007 ، إلا أنه خرج بعد فترة وجيزة.

أذكر جيداً عندما زرته بعد الإفراج عنه كيف حدّثنا عن مجريات التحقيق معه من قبل ضباط النظام، وكيف تمكّن من تضليلهم وأرغمهم على إخلاء سبيله من خلال شدة ذكائه وفطنته، كان لا يتركُ صلاةً في مسجد، ومن أبرز المواقف التي سمعتها من لسانه، قوله إننا ثابتون وماضون في طريق الاستقامة رغم ما يطالنا ، فقد ذكرَ أنه وبعد أن خرج من السجن متعباً ووصل بيته وعانق والده و والدته، سمع صوت الأذان فأصرّ أنْ يترك تلك اللحظات المؤنسة مع والديه، ليذهب إلى ما هو خير منهما.. لقاءِ الله عز وجل.

برع في إتقان القرآن الكريم وعلوم الحديث طوال تلك الفترة، وأحسَنَ في لمِّ ثُلةٍ خيرةٍ من الشباب حوله، ثلةٌ كانت من أوائل من لبّى النداء وانتفضت في وجه حكم الأسد في المدينة الثائرة دير الزور، حيث إنه ساهم في تنظيم المظاهرات السلمية إضافة إلى نشرها على الإنترنت، وقام حينها بتأسيس "شبكة الناطق".

أصرَّ النظام على قتلِ السوريين وإطلاق الرصاص على صدور المتظاهرين، آخذاً الثورة إلى المنحى المسلح، فكان الشيخ إسماعيل الذي لقب نفسه في الثورة بألقاب عدة منها أبو مسلم وأبو أيمن، من أوائل الفاعلين في القتال وتسليح الثوار، فأسس كتائب الأنصار، حباً منه بالصحابة ومحاولة لجعلها تنهج نهجهم المبارك، وقد عُيِّنَ القائد العام للواء الفرقان بعد أن نال الثقة المطلقة من معظم الفصائل.
أسهم في تحرير معظم أحياء المدينة و رفض الخروج منها، رغم القصف العنيف الذي يطالها، وآثر القتال وبث الروح المعنوية لدى كتائب الجيش الحر، وكان يناهض الفكر المتشدد ، ومن الحريصين على أن تتحرر المدينة بيد أبنائها، وكان يسعى لأن تكون مدينة دير الزور من أكثر المدن السورية تنظيمًا ثورياً، لم يترك جبهةً إلا ووضع بصمته الخاصة عليها، كانت كلمته تقع في النفس موقعا عظيمًا، وتُرغمك حتى لو كنت معارضًا له على القبول بما يطرح والتسليم التام لقوله.

قاتل في معركة شرسة في 27 / 12 / 2012 قرب حي كنامات الذي يقطن فيه، لتعانق دماؤه في تلك الليلة نهر الفرات، مستشهداً في معركة أبدى فيها استبسالاً وإقداماً عظيماً.. ولتطاله رصاصةٌ استقرت في الصدر، وليستقر معها مطلبه بالموت في ساحات القتال.

لم يكن مقاتلاً ولا إعلامياً فحسب، بل عمل أيضاً في المجال الإغاثي وإمداد الفقراء و المحتاجين من أبناء مدينته، فأمدَّ الأهالي في المدينة بالمواد الغذائية والطبية، وهكذا كانت له أياد عدة.. يدٌ تقاتل وتنتصر، وأخرى تصور وتُوثق الجرائم ، وأخرى تطعم وتسقي وتجبر الكسر، ويصحبها لسان يحضُّ ويشد الهمم ويرفع العزيمة، لتكتمل الصورة الإنسانية بأسمى معانيها في هذا الشاب الحَييّ، وعلى الرغم من كل ذلك لم تكن صورته تتصدر الشاشات بل كان يحرص أشدَّ الحرص على العمل في الخفاء، وعدم المجاهرة بما يقوم به، بل إن الكثيرين لم يعرفوه إلا بعد أن استشهد.

لقد اختار الله للشيخ الميتة الحسنة في الوقت الحسن الذي كانت فيه الكلمة واحدة والصف واحد، فلا شقاق ولا اقتتال داخلياً بين الفصائل، بل إنه جمع الصف ووحّد البندقية ضد عدو واحد، فهنيئاً له تلك الميتة، وأيُّ اعتزازٍ وفخر ستعتز به مدينة دير الزور التي ارتوت أرضها بدماء هذا الرجل، ذي الصفات والمحاسن والشيم الرجولية العملاقة.

لا أزال كلما قرأت حديث النبي صلى الله عليه وسلم " لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي" أتذكر صورته أمام عيني وأسمع صدى صوته، فقد كان ذاك شعاره الدائم .. حقاً لقد كان كالغريب أو العابر سبيل. 

مات الشيخ نعم.. لكنَّ ذكراه لا تزال حاضرة في قلوب أبناء وثوار دير الزور المهجرين، الذين تترقب أعينهم بصيص أمل و انفراجةً تعيدهم إلى مدينتهم للدفاع عنها، وإكمال مسير ما بدؤوه بأنفسهم مع الشيخ "إسماعيل العلوش أبو عكرمة" في مقارعة النظام والسعي إلى الخلاص منه.