الثلاثاء 2017/05/23

دير الزور أسقطت النظام مئة مرة

لم تكن صدفة ولم تأت من العدم أو الفراغ، لقد كانت الثورة في نفوس السوريين مسجونة في قفص الإخصاء الذي صنعه الخوف من الجلاد، كانت آلاف المظاهرات تسير ليلا بعد انطفاء الأنوار في مخيلة كل سوري، ولكن هذه المظاهرات كانت تبتعد كثيرا عن الحيطان، أجل الحيطان الملعونة التي طورها حافظ الأسد، وركب لها آذانا تسجل اسم كل من يشتم أو يسب أو يعترض ما خطط له في حكمه الذي ادعى أنه سيستمر إلى الأبد وفق ما أفادت به حناجر المؤيدين عامة والبعثيين خاصة، ويساندهم في هذه الإفادة حناجر بعض المرغمين على الهتاف أحيانا.

ذات درعا عفوا .. .. ذات أظافر أطفال قلعت في فروع الأمن .. اعتذر منكم مرة أخرى، فالتاريخ يأبى إلا أن يزل به القلم ولوحة مفاتيح الحاسوب، ذات جمعة شممت رائحة دواليب تحترق ودخانا متصاعدا من جهة الملعب البلدي بديرالزور، وكفضول أهل الدير جميعا ، كان فضولي، هرعت مسرعا، لم أستطع الوصول بسبب تراكم عناصر الأمن والشرطة والجيش الذين أحاطوا بالمنطقة لإلقاء القبض على من قاموا بإحراق سيارة للأمن العسكري أمام الملعب البلدي، عقب مباراة للفتوة وتشرين الذي كان قادما من محافظة تقع فيها مدينة القرداحة مسقط رأس "المفدى" ، ويدير ناديها شخص يدعى فواز الأسد، وكان من الواجب أن تخفض صوتك حين تذكر اسمه ولو لذكر صفته في إدارة ناديه، كان ذلك بتاريخ 18/03/2011 وعلمت ممن حضروا الواقعة، أن جمهور الفتوة استشاط غضبا من الحكم الذي ظلم الفتوة وحول فوزه لخسارة، كي يرضي بذلك فواز الأسد رئيس نادي تشرين.

وكالعادة .. نهضت دير الزور في اليوم الثاني وكأن شيئا لم يكن، بائعات اللبن كن يصحن في الصباح (روحن عاللبن روحن) كتراتيل أم وهدهدتها لأطفالها التي لاتفارقهم إلى الغرغرة، وسارت عجلة الأيام، ليصل التاريخ بمدينتي، ليوم الجمعة الواقع في الخامس والعشرين من آذار عام ألفين وأحد عشر، أسبوع واحد فصل إحراق سيارة الأمن العسكري عن جمعة وقف فيها ثائر ليصرخ في وجه خطيب أخذ يدعو لبشار الأسد، قائلا: أنت مداهن منافق، وسانده بعض الشباب في الخروج من المسجد بمشروع مظاهرة لم تكتمل وانتهت بضرب شبيحة النظام لهؤلاء الثوار وبيان على شاشة تلفزي ون النظام يعلن فيه أن أبناء ديرالزور "الشرفاء" تصدوا لمحاولة بعض "المخربين" زعزعة أمن البلاد، ولا أزال أذكر لقاء أجرته المذيعة مع "بسبوس" أحد قادة ميليشيا ما يسمى "الدفاع الوطني" حاليا بحي الجورة.

لم يكن ما حصل في جامع الصفا المقابل للملعب البلدي مشروعا لمظاهرة بل كان ثورة، أجل ... ثورة كان ينتظرها أبناء الفرات، لتعم المظاهرات في الجمعة التي تلتها أغلب شوارع المدينة، وليخرج الشبيحة بعصيهم التي كللوها بأعلام النظام، وتنال من أجساد من هتفوا بكلمة ، لايزال صداها يزلزل عرش بشار الأسد منذ سبع سنوات، ألا وهي (حرية) وهو مطلب لازمته السلمية حتى في أصعب الأوقات.

بعد أن اكتشف النظام أن العصي لم تعد تجدي، أخذ باستخدام الرصاص ليسقط شهداء ثورة ديرالزور الأوائل واحدا تلو الآخر، ولكن استشهاد "معاذ الركاض" في مظاهرات حي الجورة أو في وادي الذئاب كما يحلو للثوار تسميته بتاريخ 2011/06/03، كان مرحلة مفصلية في تاريخ الثورة بدير الزور، فقد شيعه إلى مثواه الأخير أكثر من مئة ألف ثائر في مظاهرة لم يكن لقوات النظام تواجد فيها، ما شجع الثوار على النزول بعد دفن الشهيد معاذ الركاض إلى شوارع المدينة في مظاهرة كسرت كل حواجز الخوف، وحطمت جبروت أمن "جامع جامع "الذي كان يد بشار الطولى في المدينة حينها قال الجميع بأن الأسد قد سقط.

22-4-2011 كان "يوم الجمعة العظيمة" الذي لم ولن ينساه أهل مدينة ديرالزور ففي ذلك اليوم سقط تمثال "باسل الأسد" أو صنم "الجحش" أو "الحصان" في الساحة العامة بالمدينة، حينها وبعد أن تهاوى رمز وجود الأسد بالمدينة، قال الجميع بأن الأسد سقط، ولم تقف قوات النظام مكتوفة الأيدي بعد ما تعرضت له من إذلال وعلى مر الأيام الممتدة بين انطلاق الثورة وسقوط الصنم، فقد سقط الكثير من أبناء ديرالزور بين شهيد وجريح.

لتبقى الحال في المدينة الثائرة على حالها بين المظاهرات والقمع والقتل وتشييع الشهداء الذي طالما كان عرسا حقيقيا تدار فيه قهوة الموت في أرض الجود والكرم.

لم يكن من نظام الأسد ليتحمل تطورات الأمور بدير الزور التي أخذت منحى بدا لجميع الطيبين من أبناء مدينتي بعد تطور الأحداث فيها أن الأسد قد سقط، وذلك بعد أن نصبوا حواجز بدائية في كل حارات المدينة، وكان الحاجز يحوي ما في بيوت أهل الحارة من أغراض مهملة كانت ملقاة فوق الأسطحة أو سقيفات المنازل.

يحتاج كل حاجز وما حصل في من أحداث إلى آلاف الصفحات كي تصف ماجرى فيه من أمور لم يكن لأحد أن يسميها غير "بطولات" حقيقية فكان أغلب المناوبين على الحواجز يتسلحون ب "شنتيانة" أو عصاة وبأفضل الأحوال كانت "البمبكشن" بمثابة السلاح الأبرز تواجدا وظهورا ، ولكن الحواجز في حي الجبيلة كانت الأقوى فقد كنت ترى فيها بواريد روسية من نوع "كلاشنكوف".

تقطعت أوصال المدينة وبدأ الشباب الثائرين بتقسيم أوقات المناوبة على الحواجز التي وضعوها، ولم يعد هناك أي تواجد لعناصر النظام في المدينة، بل ضاق عليهم الخناق حتى إن الطعام لم يكن ليصلهم لولا وجود بعض "العواينية" وفق تصنيفات معظم الثوار.

استأسد النظام حينها، واستقوى بعد أن لاحت للناشطين على طريق "دمشق_تدمر_ديرالزور أرتال الدبابات المتجهة نحو مدينتي التي كانت على أبواب الاقتحام الأول واجتياحها من قبل عناصر الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري وبعض الميليشيات الطائفية، نزح حينها معظم سكان المدينة إلى القرى المجاورة للمدينة وأغلبهم فضل النزوح إلى مدينتي الحسكة والرقة، وبقي من بقي فيها ليشهد على همجية نظام الأسد في قمع الثورة والثوار بديرالزور، فقد جابت دباباته أحياء المدينة كاملة، وقامت خلالها بحملة اعتقالات وحرق للآليات، وغادرت الأحياء التي سرعان ماعاد إليها أهلها وعادت الحياة يها طبيعية.

قلت بعد هذه المرحلة المظاهرات التي كان الجميع يحن إليها نتيجة البطش الذي استخدمته قوات النظام في حملة الاقتحام الأولى، وبدأ النظام بإجبار الموظفين والطلاب على الخروج بمسيرات التأييد التي لم يكن يعلم أنها ستكون شرارة لانطلاق ثورة جديدة في ديرالزور، ففي إحدى مظاهرات التأييد التي كان النظام يجبر الأهالي على الخروج فيها، رفع الشهيد محمد الملا عيسى صوته في إحداها، مطالبا بإسقاط النظام، فلم يكن من العناصر إلا أن أردوه قتيلا، ليكون عرس تشييعه هو الحدث الأبرز بعد تلك الحملة، وكان موعدا لانطلاقة أخرى للمظاهرات التي تجوب شوارع مدينة ديرالزور، ولعلها بعد النضوج الثوري أصبحت أكثر تنظيما وتنسيقا بين أحياء المدينة الثائرة.

أمام الملعب البلدي كان تجمع المتظاهرين بعد المسير في شوارع المدينة، ولكن لبعد المكان قرر الثوار أن يحولوا مكان تجمعهم إلى دوار "المدلجي" الذي شهد أروع الهتافات والأغاني الثورية والخطابات ورفع المطالب الثورية، وكانت منصته ساحة لإعلان الانشقاقات من الموظفين والعسكريين، واستمرت الثورة بالتطور السلمي ، الذي بدأت ترافقه بعض الأعمال العسكرية التي كانت رد فعل على الاعتقالات والمداهمات والمضايقات التي كان يتعرض لها الثوار السلميين، وكان كل صوت انفجار يدوي في المدينة يعني انفجار دبابة أو سقوط قتلى للنظام، ويعني للثوار الطيبين أن الأسد قد سقط.

26-4-2012 في هذا اليوم انتشر الثوار على حي الحميدية، وذلك في أول خطوة يظهر فيها السلاح ويظهر أبطال الجيش الحر في شوارع المدينة بشكل علني، فجن على إثرها جنون النظام وطوق حي الحميدية وبدأ بإطلاق الرصاص العشوائي وقتل في ذلك التاريخ 11 شهيدا كان معظمهم متظاهرين في الشوارع المحيطة لحي الحميدية وذلك في محاولة منهم لفك الحصار عن الجيش الحر الذي انسحب بعد أن رأى النظام ينتقم من المدنيين، وكثير من الطيبين في مدينتي حين رأوا الجيش الحر منتشر في شوارع الحميدية قالوا: أن الأسد قد سقط.

استمرت بعد ذلك التاريخ مظاهر انتشار السلاح في شوارع المدينة لتصبح أمرأ واقعا في أغلب الأحياء الثائرة، واستقدم النظام حينها تعزيزات عسكرية وبدأت أعمال القصف بقذائف المدفعية على حي الحميدية وذلك في الشهر السادس من عام 2012 ما دفع معظم سكان المدينة لترك مدينتهم والنزوح إلى الريف الذي وخلال ما شهدته المدينة من أحداث أخذ يتحرر قرية بعد أخرى، ولكن النظام صب جام غضبه على المدينة وقصفت الطائرات المروحية لأول مرة حي الحميدية في نهاية الشهر السادس من عام 2012 عندها أصبحت الحرب بين الثوار وقوات النظام علنية وقال معظم الطيبين في مدينتي: سقط الأسد، ول علهم قالوها هذه المرة بقوة فالثوار سيطروا على أكثر من حي رغم انتشار حواجز النظام في معظم الأحياء.

قافلة الشهداء استمرت بالمسير، وقافلة التهجير تلازمها، فمع انعدام أسباب الحياة خرج معظم سكان المدينة منها، وتم فرض حصار على الثوار من خلال إغلاق حاجز السياسية وعدم السماح بإدخال الطعام والدواء للأحياء التي يسيطر عليها الجيش الحر، وكانت هذه أصعب مرحلة من عمر الثورة في حياة الثوار الذين جاعوا ولم يستسلموا، ليأتي اليوم الذي يعتبر يوما مفصليا في حياة الثوار بدير الزور، وهو يوم تحرير فرع الأمن السياسي والسيطرة على جسر السياسية الشريان الوحيد للمدينة والذي أعاد الروح للثوار ووفر عليهم جهد وتعب نقل طعامهم وذخيرتهم عن طريق السفن والعبارات الم ئية، وبعد تحرير السياسية، سمعت كثيرا من الطيبين يقولون: سقط الأسد.

توالى تحرير المناطق واستمرت مدينتي بخلع ثوب العبودية وإنهاء مظاهر وجود الأسد فيها، رغم كل الدمار الذي حل فيها، ليصبح تواجد النظام في أحياء معدودة إضافة إلى المطار العسكري، نقطة ارتكاز النظام العسكرية، والذي طالما قال الثوار إن سقوطه يعني سقوط الأسد، وسقط على أسواره الكثير من الشبان الذين كانوا يمنون النفس بتحريره.

رغم كل ما دار بين الثوار من تخوين بعض القيادات لعدم تحريره كونه البقرة الحلوب التي يستجلبون من خلالها الدعم وزيادة غلتهم التي جنوها من سرقة الثورة، وكان هذا التطور خطيرا لما سبب من خلافات بين هذا الفصيل وذاك وانتشرت ظاهرة ا لتخوين التي كانت مبنية على حقائق أو شكوك، وفي الحالتين أثرت على الثورة والثوار.

نيسان 2014 كان الربيع يسود الأرض السورية، لكن مدينتي كانت على موعد مع تطور خطير لم يكن أكثر المتشائمين بالثورة يتصور حصوله، فقد سيطر تنظيم الدولة على الأحياء التي حررها الثوار ورووها بدمائهم، ولكني سمعت أحدهم يهمس في أذن آخر، هؤلاء صادقون وانتظر كي يثبتوا أقدامهم ، وسترى كيف سيسقط الأسد.

بين أول مرة قال فيها الطيبون "سقط الأسد" و همس ذلك الطيب بأذن صديقه "سيسقط الأسد" سالت دماء الثوار غزيرة، وتم تهجير معظم المدنيين قسريا وذلك نتيجة قصف نظام الأسد الجنوني على المدينة والتعسف والقصف وحصار المدنيين من قبل التنظيم.

المراحل المفصلية التي مرت بمدينتي خلال ثورتها تثبت للخارج قبل الداخل، حتمية سقوط الأسد وإن تأخر الحلم، بفعل مساندة الروم والفرس وبعض الأعراب. وسقوط الأسد لم ولن يكون حلما، وإن كان كذلك، فأنا واثق أنه ساقط لامحالة، لأنضم بقولي هذا إلى قائمة الطيبين الذين ينتظرون تلك اللحظة.