الأربعاء 2017/02/08

خطورة دستور الاحتلال الروسي على الشعب السوري

إن لحظة تسليم الروس دستورهم للمعارضة، أيقظت الثورة، ونبهت الثوار، لأهمية وخطورة (الدستور) في حياة الثورات.

الدستور الحاضر الغائب في الثورة السورية منذ انطلاقتها، هو غائب عند الثوار ولم يأخذ استحقاقه لديهم، والحاضر في الأجندات الخارجية، سواء أكانت منظمات أو مراكز دراسات، ولا أدل على ذلك من معهد كارتر الذي كرس الندوات والورشات لهذا الأمر، وغيره من المراكز، إلا أن وصل الأمر لذروة القيادة الروسية.

هذا الاهتمام يثير لدينا العديد من الأسئلة، ما العلاقة بين الثورة والدستور؟ وهل يمكن قبول الدستور الروسي شكلاً؟ هل الدولة السورية حديثة عهد بالدساتير ليتم مساعدتها في هذا الجانب؟

أولاً-الثورة والدستور

الثورة وإن كانت في العلن سياسية، وعلى السطح تكثر الدراسات السياسية عنها، إلا أنها في العمق ظاهرة قانونية، لأنه مهما كانت المتغيرات السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية عميقة، إن لم تترافق بثورة قانونية (دستورية) تؤطرها مجموعة من القواعد الدستورية الجديدة فلا قيمة لها.

لذلك يميل الفقه الدستوري الى تعريف الثورة على أنها حركة اجتماعية مفاجئة تتحقق بقوة الشعب، من غير مراعاة الأشكال القانونية الموضوعة، وتستهدف إقامة نظام قانوني محل نظام قانوني أخر.

من هذا المنطلق برر الفقيه (Esmen) قيام الثورات بقوله (إن الشعب إذا سدت في وجهه الطرق المشروعة لإلغاء الدستور، فإن له الحق في اللجوء الى الثورة لتحقيق ذلك)

لذلك فإن الثورات التي تصنع الدساتير، هي التي تكون دائمة، ولا تنتهي، ولا تصنع نهايتها؛ لإن نهاية الثورة تأسيس الحرية.

وتأسيس الحرية لا يتم بدون دستور تصنعه الثورة، وتضع به مبادئها القانونية، ونسقها الفلسفي، الذي يتكون من سلسلة من القيم والمبادئ وقواعد السلوك.

أما الثورات التي لا تستطيع إنتاج دستور، وتكتفي بإن تنتج حكومة ما (دستورية) جديدة تضمن عددا من الحريات، مستندة على دستور من خارج مبادئ الثورة، لا بل من خارج حدود الدولة، حتماً ستنتهي تلك الثورة بمجرد إقرارها تلك الحكومة.

وبالتالي سيكون ذاك الدستور نهاية لها، عكس الأولى يشكل بداية لتخليد أثرها القانوني.

لأن سرقة الثورات تتم عندما لا يجدد العقد الاجتماعي بين الحاكم والشعب بالطريقة التي خرج الثوار لأجلها، إذًا عملية سرقة الثورات تتم عندما لا يصنع الثوار دستورهم وفق ما أرادوا.

وعندما تغيب إرادة الثوار في صناعة الدستور، ستظهر حتماً إرادة أعداء الثورة والثوار في ذلك الأمر.

من هنا يكون صنع الدستور هو أنبل ما تأتي به الثورات من أفعال، لأن الدستور هو الحصيلة النهائية للثورة، كما أنه نهاية الثورة.

فالدستور الذي ينبثق من ضمير شعب ثائر بشكل حقيقي، هو الضامن بأنّ الثورة لن تسرق ممن قام بها، وآمن بمبادئها.

إذًا العلاقة بين الثورة والدستور علاقة تبادلية، الثورة قامت على دستور فاسد لتلغيه، وتنتهي الثورة حتماً بولادة دستور يضمن فلسفتها وقيمها ومبادئها.

ثانياً : الدستور من الناحية الشكلية
إن تبجح الروس في إنتاج دستور لسوريا، تذكرني بقصة الأعمى بطل فيلم (الكيت كات) الذي قاد أعمى آخر ليفسحه، وانتهى بهم المطاف غرقاً في النيل يطلبون النجدة.

من المتعارف عليه في دراسة القضايا القانونية، إذا ماردت القضية شكلاً، فلا يتم بحثها موضوعاً، من هنا لن نبحث دستور الاحتلال الروسي موضوعاً لإنه مردود شكلاً للأسباب التالية:

1-تطورت أساليب نشأة الدساتير مع تطور السيادة ومن يملكها، حيث ابتدأت مع الحكام، ليتشارك الحاكم مع الشعب، وانتهت الى الأمة أو الشعب الذي أصبح وحده مصدر كل السلطات ومستودعها.

فعندما كان الأمر بيد الحكام والسيادة لهم، فإن إنشاء الدساتير كان معلقاً على أرادتهم وحدهم ويصدر الدستور على شكل منحة من الحاكم، ولما انتقلت السيادة الى مفهوم الشراكة بين الحاكم والشعب صدر الدستور بطريقة العقد، وبانتقال السيادة الى الشعب نهائياً، أصبح إنشاء الدستور رهين أمره وأرادته وحدها ويولد الدستور عن طريق هيئة تأسيسية أصلية أو الاستفتاء.

هذه الطرق التي عرفتها البشرية لولادة الدساتير، والتي أجمع فقهاء الدستوريين عليها، ومنذ أن عرفت الدول الدساتير لم ينشأ دستور من خارج البلاد، ولا تقدم مقترحات من خارج الحدود.

إذًا دستور الاحتلال الروسي المولود بهذه الطريقة هو (مولود غير شرعي) ولا يؤيده من السوريين إلا من كان مثله.

2-إن دساتير (نظام البعث) السابقة في سوريا، والتي لم تساهم الأمة في وضعها، قد جاءت نتيجة نشاط الأقلية الممسكة بالسلطة في غيبة وعي الأمة، جعل تلك الدساتير مجرد واجهات لا تحقق الهدف الذي يجب أن يسعى الدستور الى تحقيقه. 

إذا كان ذلك حال دساتير وضعها قلة من السوريين، فما بالك في دستور تضعه دولة أخرى (روسيا) لتهيمن على قدرات ومقدرات وإرادة ذلك الشعب، هذا الدستور لن يستطيع أن يكون حتى واجهة أو غطاء لنشاط أي سلطة يتم إنشاؤها بموجبه، على العكس سيكون دليلاً واضحاً في عيون السوريين على أن تلك السلطة لا تملك لا الشرعية ولا المشروعية.

3-إن العملية الدستورية لا تتم بطريقة صحيحة ومجدية، إلا عندما تدرك الأمة ضرورة إعادة بناء الأمة وتساهم مساهمة فعلية في هذا البناء، وأن أي مساهمة شكلية أو صورية سينتج دستورا صوريّا لا يحقق غرضه.

والمقترح الروسي لا يحرم السوريين المشاركة المجدية والصحيحة فحسب، بل إنه يحرمهم حتى المشاركة الشكلية أو الصورية التي كانت توفرها لهم أنظمة الاستبداد، وعلى ذلك لن تكون لهذا الدستور في ضمير الجماعة أي قيمة ؛لأن الدساتير يجب أن تكون من إنتاج البنى المجتمعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، لا أن تستجلب مقترحات خارجية وخارجة عن تكوين تلك البنى.

4-أثبتت التجارب التاريخية إن الدساتير التي تصنعها الحكومات المحلية ويصغها الخبراء لم تدم طويلاً، لأن هناك فرق بين دستور فرضته حكومة على شعب، وبين دستور الذي بموجبه الشعب كون حكومته.

فالدساتير التي انتجتها حكومات أوربية بعد الحرب العالمية الأولى واستندت على الدستور الأمريكي، لم تنتج ما هو مطلوب منها، فسقطت أو عدلت، لأن الشعب لم يصنع دستور، بل صنعته حكومة يجب أن يصنعها دستور.

فالدستور وفق ما قال توماس بين (هو ليس فعل حكومة، بل فعل شعب يكون حكومة) إذا كان هذا حال الدساتير المعلبة عندما تصنعها حكومات محلية، فكيف سيكون الحال مع دستور قادم من سلطة تجهل قيمة الدستور في بلادها، بالتأكيد النتيجة ستكون أعظم وبالاً وأكثر ضرراً.

5-الدستور بمعناه الشكلي، هو وثيقة مكتوبة توضع بمقتضى إجراءات خاصة معقدة، ولا يمكن تعديلها غالباً إلا بإتباع إجراءات معقدة، وتحتوي هذه الوثيقة على قواعد لها قيمة قانونية أسمى من جميع القواعد القانونية الأخرى في الدولة.
إذاً السمو الشكلي للدستور يستمد وجوده من الإجراءات الخاصة بوضعه، والتي تستلزم وجود سلطة تأسيسية تكون مهمتها وضع الدستور، ذلك إن الدستور يجب أن يكون ثمرة إرادة صاحب السيادة.
فإذا انتفت تلك الإجراءات، يتساوى بالقيمة مع القوانين إذا أتبع ذات الإجراءات في صدور القوانين.

أما الدستور الروسي فإنه وضع بإجراءات أقل ما يقال عنها إنها أقل من الإجراءات الشكلية لوضع القانون العادي، لا بل أقل من تلك التي تتبع لوضع قرار تنظيمي ؛لذلك هذا الدستور من الناحية الإجرائية لا يمكن أن يسمو على القوانين، لأنه أقل مرتبة منها، لا بل هو أقل مرتبة من القرارات التنظيمية التي تصدر بشكلها الصحيح إجرائياً.

إن أصدق ما يقال عن الدستور الروسي، هو ما قاله وليام موري في معرض تعليقه على دستور (جون لوك) الذي صنعه دون أخذ رأي الشعب فقال (إنه خلق من لا شيء، وسرعان ما تلاشى الى اللا شيء)

ثالثاً-السيادة والأباء المؤسسين للدولة السورية

من قبل بالدستور الروسي، ورضخ للواقع المذل، لإن هناك مادة فيه وافقت هواه -الديني أو المذهبي أو العرقي أو المناطقي-ونسي أن الجزء لا يصلح إن فسد الكل، يبرر خنوعه بإن السيادة منتهكة من كل الدول، والتكلم عن السيادة في ظل هذا الواقع كفر بواح، لماذا لم تئن جراح السيادة إلا عند الدستور الروسي؟

نترك التاريخ يجيب، ليبين لنا إن سورية مرت بلحظات تاريخية أحلك وأعقد مما تمر به الأن، ولاسيما أثناء الاحتلال الفرنسي في بداية القرن الماضي، حيث كانت البلاد محتلة، ومن الناحية الدستورية منقوصة السيادة.

ورغم ذلك تعامل الأباء المؤسسين للدولة السورية بمرونة سياسية، ترافقت مع ثبات قل نظيره عندما تمس السيادة، رغم إنهم يعلمون ماذا يعني انتداب، ربما كان لديهم التمسك بالسيادة هو رفض ونضال لوجود المحتل.

ففي عام 1928 من باب المرونة والواقعية السياسية، قبلوا أن يشكل المندوب السامي الفرنسي لجنة تأسيسية من سبعة وستين عضو لصياغة دستور للبلاد.

أنجزت اللجنة عملها في 1/8/1928 وأثناء مناقشة مواد الدستور أبلغ المفوض السامي الفرنسي أعضاء اللجنة اعتراضه على الماد التالية 73-74-75-110-112-وطلب إضافة مادة برقم 116.

فكان رد اللجنة دليل ثباتها عندما يمس أمر ما السيادة، بأغلبية واحد وستين صوتا رفض طلب فرنسا، فاضطر المفوض السامي أن يؤجل جلسات الجمعية، ليتبعه بعد ثلاثة أشهر قرار بحل اللجنة وأنهاء أعمالها.

وتعطل صدور الدستور لغاية 14/5/1930 حيث أصدره المفوض السامي بإرادة منفردة، بعد أن أضاف المادة 116 التي قابها السوريين بالاستياء والاستنكار.

وبعد انتخاب مجلس نيابي، وفي جلسة 27/11/1943 قرر المجلس النيابي بالأجماع اعتبار المادة 116 من الدستور السوري ملغية، وغير نافذة، لإنها أضيفت من سلطة أجنبية على الدستور الذي وضعته الجمعية التأسيسية.

السوريون وقبل مئة عام، وفي بداية نشوء دولتهم، وكانوا منقوصي السيادة وتحت الاحتلال، لم يقبلوا بمادة واحدة تضاف لدستورهم من غير السوريين.

لذلك لن يكون موقف الأحفاد أقل ثباتاً من موقف أجدادهم المؤسسين لدولتهم.

أما لجهة الدستور ومحاولة فرضه على أجندة المفاوضات، ما يجب التنبه له من قبل وفد المعارضة، أن يكون التفاوض على كيفية صياغة إعلان دستوري يسير السلطات في المرحلة الانتقالية، دون تحميله أكثر مما يحتمل سواء لجهة مبادئ الدولة أو شكلها أو شكل نظام الحكم في المستقبل.

وترك كل ذلك للدستور الدائم في نهاية المرحلة الانتقالية، لأن هذا حق لكل السوريين، وليس من حق جزء منهم.