السبت 2017/05/27

جمهورية الواتس أب

لم تكن حياتنا قبل ثورة الاتصالات كما هي اليوم ، ولم تكن معارفنا كذلك ، ولم يكن انكماشنا وتقوقعنا حول ذواتنا كما هو اليوم ؛ لذلك نرى أنيناً وتبرماً من الأجهزة الهاتفية ؛ التي سرقتنا من عالم النهر والجبل والبساطة أو عالم الجدات والحكواتي ، وفي الوقت نفسه ، لم يكن العالم بين يدينا كما هو الآن ، ننتقل من مكان إلى آخر بلمسة زر، بل إن الأمر فاق ذلك ، حيث صارت المعرفة تدخل جهازك ، و يبدأ الفيديو بالعرض .. 

كانت معارفنا عن العالم الخارجي مزيجاً من مبالغات يرويها زائر لبلدان بعيدة، أو أحاديث يرويها ناقل عن ناقل، فتضيع كثير من التفاصيل، وتتضخم كثير من الحقائق ، لنصير أمام عالم سحراني ، وكأننا عبرنا إلى جبال الأنديز، وفُتحت أمامنا مغاليق أسرار الأزتك والمايا والأنكا.

وصلني هذا الفيديو عبر الواتس أب ؛ فتابعته عدة مرات، حتى ضجر من حولي لكثرة المشاهدة على الرغم من أنه لا يبلغ الدقيقة ،وقد أثار فيَّ الكثير من المعاني ،أولا :أنا أحب الأفارقة لخفة ظلهم ،ودماثة مستكنة في وجودهم الحضاري الطويل، وثاني الأسباب: هو لهجة أهل الحجاز ؛ التي استطعت التقاطها، وقد أعادني هذا الفيديو لذكرياتي مع كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ؛ حينما كان يتحدث عن الطرب عند أهل الحجاز ، وظلت أطياف المغنين الحجازيين ترافقني كمعبد بن وهب ، وابن عائشة ، وابن سريج ، وطويس الحجازي، والغريض، وعزة الميلاء وكلثم ، والرباب ، وقرأت في عذوبة صوت المؤدين آذان بلال الحبشي، ولطف الأنصار أهل المدينة المنورة ، الذين عاينت تجليهم الإنساني الرحب في زمان خلا عند زيارة الحرمين حجاً وعمرة. 

ويؤكد هذا الفيديو أن الدولة بشكلها الديكتاتوري قد انتهت ؛ ففي عصر الصورة والتقنية لن تستطيع صناعة الرأي العام ، تقديم الشكل الفني والرسالة التي تريدها .

لفقد أصبح كل إنسان قادراً عبر شاشة هاتفه المساهمة في تقديم ما يريد ؛ من خلال الشبكة العنكبوتية ، بعيدا عن بيروقراطية الدولة وقصديتها المشبوهة ، وبإحساس جمالي بسيط وفريد في آن معاً.

لقد انتهت الدولة بشكلها الفج ، ولن تستطيع أن تفرض عليك تعري هيفاء وهبي، وسقوط نانسي عجرم ، وتعفن شعبان عبد الرحيم من خلال فضائياتها ؛ التي تبتغي تعفين الوعي العربي سياسياً وثقافياً ، وسينتهي شكل الدولة ، الذي تتدخل فيه في علاقة الإنسان مع دجاجه ، وربما لن أكون مبالغاً إذا زعمت أن شكل الدولة الحالية بمفهوم الجنسية والحدود لن يكون خلال العشرين سنة القادمة ، وستتأسس العلاقة بين سكان الأرض من خلال مفاهيم جديدة بعد طفرة الاتصالات ،وسينتهي تماماً دور أجهزة المخابرات في تدجين الناس وصناعة المواطن الأحمق الوطني النبيل الذي يدافع عن الدكتاتور ويعيش سعيداً على تخوم المزابل والمقابر. 

كل عام وأنتم بخير؛ مدير الكروب وكل المضافين كما يقول الفيديو أدناه.