الأثنين 2016/08/29

أكراد سوريا … بيادق في عين العاصفة

لا يمكن فهمُ الأحداث التي تدور اليومَ في المناطق الكردية من الشمال السوري، ودورِها في محور الأحداث منذ تاريخ اندلاع الثورة السورية عام 2011 ، إذا لم نفهم السياقات التاريخية البعيدة لحال تلك المناطق ، منذ حُكمِ حزب البعث وحافظ الأسد ، إلى قبيل اندلاع الثورة. وفي سلسلة من المقالات التي ستصدُر على أجزاء ، يحاول الكاتب أن يسلّط الضوء على الظروف التاريخية للأكراد في سوريا ، منذ نشأة حزب العمال الكرستاني ،الذي نستطيع أن نقول بكل اطمئنان إنه شكَّل لكرد سوريا –كما لكرد تركيا- منعطفاً تاريخياً ، لا تزال آثاره تُلقي بظلالها على واقعهم حتى اللحظة.

فعبد الله أوجلان الذي يحب الأكراد أن يسمّوه (آبو) ، شكَّل لديهم أيقونة استثنائية في مسيرة ما يسمونه "النضال الثوري التحرري".

ثم تتناول الأجزاء التالية واقع أكراد سوريا في فترة حكم حافظ الأسد [ 1970-2000 ] ، وصولاً إلى عهد وريثه (بشار الأسد) ، انتهاءً بالفترة الحالية.

الجزء الأول
أوجلان وحافظ الأسد .. بين دمشق ومرمرة

مقدمة :  يرصد هذا الجزء العلاقة المصلحية التي قامت بين زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان ، وحافظ الأسد ، وكيف استخدم الأسد أوجلان ورقة ضغط ضد أنقرة ، لم يلبث أن تخلى عنها حين وقع تحت التهديد العسكري.

أوجلان وحافظ الأسد .. لقاء المصالح المشتركة :

أسَّس عبد الله أوجلان ورفاقُه حزب العمال الكردستاني ( pkk ) ، كتنظيم سرّي ذي توجُّه يساري (ماركسي لينيني ) في 27/11/1978 ، واختير أوجلان كأول زعيم لهذا التنظيم.

تبنى الحزبُ الناشئ الدفاع عن قضية الأكراد في تركيا ، رافعاً شعاراتٍ اشتراكيةً يدلّ عليها اسمُه (العمال) ، مؤسِّساً لقيام دولة كردية ، في كلٍّ من تركيا والعراق وسوريا وإيران .

ظل الحزب يمارس عمله السريَّ واجتماعاتِه واستقطابَ الأنصار في المدن الجنوبية الشرقية من البلاد نحوَ عامين من الزمن ، وبقي على هذه الصورة حتى عام 1980حيث اصطدم الحزب الوليدُ بالانقلاب العسكري عام 1980 ، إذ كان من أجندات قائد الانقلاب الجنرال " كنعان إيفرين" عمليةُ "تطهير" المناطق المتاخِمة لإيران وسوريا من الحركات والمنظمات اليسارية الماركسية.

فلم يعُدْ أمام كوادر "حزب العمال" ، ومنهم المؤسس أوجلان ، سوى الخروج من البلاد ، وكانت الوجهةُ القادمةُ .. سوريا.

وجد أوجلان ضالته في حكم نظام الأسد البعثي ، الذي وجد بدوره في أوجلان ورقةً سقطت عليه من السماء ، ولعل اتصالاتٍ جرت بين الجانبين قبل لجوء أوجلان إلى أحضان الأسد.

ولو أردنا معرفة الأسباب التي دعت إلى التقارب بين الجانبين ، فلا بد أن نسجِّل المعلومات التالية :

  1. يجمع بين الطرفين توجه فكري قومي ، يمكن أن نقول إنه يصل إلى درجة الغلوّ ، وإن اختلفت المادة القومية بينهما (عربية وكردية).
  2. كلاهما يتبنى النظرية اليسارية الاشتراكية التي كانت رائجةً آنذاك ، بفرعها الماركسي اللينيني.
  3. أما العمل الثالث من دواعي التقارب -ولعله العنصر الأهم من بين ما ذُكِر- فهو عِداءُ الجانبين لتركيا.

وللتوضيح أكثر ..لا بد أن نجلوَ أسباب العداء بين سوريا وتركيا في النقاط التالية :

1- العداء في أصله تاريخي يتمثل بمشكلة الحدود بين الدولتين ولواء الإسكندرون ، الذي كان نظام حافظ الأسد يسمّيه "سليباً" ، حتى وقتٍ قريب قام فيه الوريث بشار بإزالة مصطلح "سليب" ، بل إنه أزال اللواء من الخريطة السورية تماماً ( حصل هذا بعد التقارب الكبير بين بشار ورئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان ).

2- تُعَدُّ مشكلةُ المياه بين البلدين عائقاً حال دون علاقات طيبة بينهما فترة طويلة من الزمن ، إذ كان الأسد يعتقد أن حكام تركيا يحرمون سوريا من حقها من مياه الفرات بسبب إقامتهم السدود الكثيرة على مجراه.

3- السبب الثالث يتمثل فيما كان حافظ الأسد يُظهِره من عداءٍ لإسرائيل ، التي تقيم بدورها علاقات طيبة مع أنقرة ، وهذا ما جعل الأسد يروِّجُ أن تركيا عدوٌّ للقضية الفسطينية ، التي طالما تاجَرَ بها أمام شعبه وعامة الشعوب العربية.
هذه البنود هي التي جعلت أوجلان ، الحاقدَ على الدولة التركية ، ورقة مهمة عَرَف حافظ الأسد كيف يلعب بها بين عامي 1980 و 1998 ، مستخدماً سياسته التي عرفت بمفهوم "اللعب على حافة الهاوية".
يؤمّن الأسد لأوجلان القضايا اللوجستية من سلاح ومعسكرات تدريب ، ويستخدمه ورقةَ ضغط خارجية ، وداخلية كذلك ، إذِ استطاع حافظ الأسد عن طريق أوجلان أن يجعل أكراد سوريا يُذعنون لحكمه ودكتاتوريته ، رغم ما سنأتي على ذكره من الإقصاء والتهميش الذي مارسه الأسدُ عليهم.

وفي هذه النقطة الجوهرية يَظهر التناقض الكبير بين أفكار أوجلان النظرية في تركيا ، والواقع الذي استطاع إقناع أكراد سوريا به ، فهو اختار لهم الرضا بحكم الأسد والرضوخ له ، في الوقت الذي كان يدَّعي فيه أن حزبَه نشأ لحرية الأكراد ، وتحصيل حقوقهم القومية.

عُقِد مؤتمر حزب العمّال الكردستاني الأول في سوريا في الفترة بين 15-25 تموز 1981، وحضر المؤتمر نحو 60 عضواً من أعضاء التنظيم. ووجد حافظ الأسد بعد ذلك أن الأولى آنذاك ألا يقوم باستعداء تركيا عليه ما جعله يتفق وأوجلان على نقل مقرات الحزب إلى شمال العراق.

لكن الحقيقة أن أوجلان ظلَّ يُدير الحزب من دمشق ، حيث سهَّل له حافظ الأسد أن يُقيم في سهل البقاع اللبناني (الخاضع لسيطرة قواته وفق اتفاق الطائف) ، معسكراتٍ لتدريب عناصره.

ويُعَدُّ التاريخُ الفارق في حياة الحزب هو المؤتمر الثاني له في سوريا عام 1984، حين اتخذ الحزب قراراً ببدء عمليات مسلّحة ضدّ أهداف عسكرية تركية ولا سيما في مدن هكّاري وماردين جنوب البلاد.

ومع تصاعد عملياته العسكرية خلال ثلاثة أعوام بدعم مباشر من حافظ الأسد وروسيا ، أعلنت الحكومة التركية "حالة الطوارئ" في عام 1987.

حافظ الأسد يبيع أوجلان :

صبرت أنقرة طويلاً ليطفح كيلُ صبرِها على حافظ الأسد الذي كانت تعتبره العرابَ الأولَ لعدوِّها اللدود "عبد الله أوجلان" ..لتأتي اللحظة التي خيَّرت فيها الأسد بين تسليم أوجلان أو الدخول في حرب شاملة واحتلال دمشق ، وكان ذلك عام 1998 ، حين هدَّدَ رئيس الحكومة التركي آنذاك "مسعود يلماز" حافظ الأسد باقتلاع عينيه وكسر يديه واحتلال دمشق، إذا لم يسلّمه أوجلان.

تهديدات يلماز لم تكن مجردَ أقوال ، بل إنه حشد على حدود بلاده مع سوريا 10 آلاف جندي ومئات الآليات العسكرية. وهنا اختار حافظ الأسد أن يبيع الورقة التي لعب بها ثمانية عشرة عاماً ، الورقةَ الدمويةَ التي أزهقت أرواح عشرات آلاف المدنيّين في العمليات العسكرية التي قام بها ( pkk ) ، وشَهَرَ بوجه أوجلان "البطاقة الحمراء"، بعد أن رضخ مُرغَماً لاتفاق مع تركيا ، حظَرَ على الأسد اقترابَ مقاتلاته الحربية من الحدود التركية بمسافة 15 كيلو متراً ، وعدم تجمع حشود عسكرية سوريا في المناطق الحدودية بين الدولتين.

أوجلان في قبضة أنقرة :

غادر أوجلان إلى روسيا التي يبدو أنها لم تكن مستعدةً من أجله للدخول في إشكالات مع تركيا ، فتركها متوجهاً بجواز سفر مزوَّرٍ إلى إيطاليا، ثم إلى كينيا ، حيث لجأ إلى السفارة اليونانية في عاصمتها نيروبي ، ولم يَطُلِ الأمرُ حتى قبضَتِ القواتُ الأمنية هناك عليه في 15 شباط عام 1999 ، وسلّمته إلى أنقرة.

أدين أوجلان بتهمة "الخيانة العظمى" ، وحُكِمَ عليه بالإعدام في العام نفسِه ،ثم خُفف الحكم إلى السجن المؤبد في آب عام 2002 بعد أن ألغت تركيا حكمَ الإعدام على إثر دخولها في مفاوضات الاتحاد الأوربي. ولا يزال الزعيم الأول والأخير لحزب العمال الكردستاني قابعاً في سجن بجزيرة صغيرة في بحر مرمرة.

شكَّلَ تسليم أوجلان صدمة عقلية ونفسية لديه ولدى حزبه بشكل عام، لأن حافظ الأسد تخلى عنه بالرغم من خدمته له في تهديد الأمن التركي، ما جعله يدرك أنه كان بيدقاً رخيصاً لدى الأسد ، فلا هو حقق لأكراد تركيا ما نشدوه ، ولا استطاعت علاقته بالأسد أن تعيد لأكراد سوريا بعضاً يسيراً من حقوقهم.