السبت 2016/11/26

أزيلوا تمثال “باسل الأسد” وحافظوا على “صنم أبيه” !

التوقيت ..22-4-2011 ، المكان ... ساحة الحرية في مدينة دير الزور ..الحدث .. مظاهرة كبرى في يوم "الجمعة العظيمة" التي توجه فيها المتظاهرون نحو تمثال "باسل الأسد" المعروف في المدينة بتمثال "الحصان".

لست أنسى ذلك اليوم الذي خرج فيه عشرات آلاف المتظاهرين في مدينة دير الزور.. كلُّ مجموعة خرجت من حيها، وبدأت الحشود الغاضبة بالتجمُّع في ساحة التظاهر بحي الشيخ ياسين، الساحةِ التي عُرِفت منذ بدء الثورة باسم "ساحة الحرية".

كان في دير الزور صَنَمان..واحد لحافظ الأسد والثاني لابنه باسل، يقفان منذ عقود يراقِبان حركة المارّة في حركاتهم وسكناتهم، بل إنهما يعدان أنفاس الشهيق والزفير، حتى بات أهل المدينة حالهم كحال كل السوريين، لا يرون في هذين الصنمين مجرد حجر أصمَّ لا ينطق ولا يتحرك، بل إنهما كانا يمثلان لدى الناس تجليات القبضة الأمنية والعسكرية ، التي حكمت بها عائلة الأسد سوريا ، عَبرَ الحديد والنار والقيود.

حدثني أحدُهم قبل الثورة كلاماً غاية في الخطورة ..جعلني حينذاك أشك في صحته العقلية، إذ قال الرجل فيما قال : إنه حين ينظر في عيون تمثال حافظ الأسد يرى العين تتحرك يمنة ويسرة، وتبادله نظرة مليئة بالغضب والحقد.. يمشي الناس أمام التمثالين، يضحكون، يحزنون في أعماقهم، يدخِّنون، يتناقشون، لكن أعماقهم محكومة بمدى قدرة هذه التماثيل على إحصاء كل ما يجري في محيطها.

في يومِ "الجمعة العظيمة" استذكَرَ الناسُ كلَّ هذه المعاني التي عايشوها سنواتٍ مع "التماثيل"، وكان النظام يومئذٍ قد جهز المئاتِ من عناصر الأمن والشرطة، والمئات كذلك من "شبيحة" الفرق الحزبية الذين كانوا يتبرعون ويضحون بعطلة الجمعة كي ينقذوا الوطن من "هذه المؤامرة الكونية"، جمع النظام كل هذه البشر، ليمنع المتظاهرين من الوصول إلى تمثال باسل الأسد، لكنَّ جموعَ الغاضبين واجهتِ الرصاصَ والعِصِيَّ والسلاح الأبيض، واستطاعت الوصول فعلاً إلى "صنم الحصان وفارسه"، وأسقطته أرضاً وسحبته بالحبال، في مشهدٍ تاريخيٍّ أحس أهالي المدينة يومَه أنهم أسقطوا عبودية أربعين عاماً، ولم يُسقِطوا مجرد تمثال.

ظهر أمامهم فشل النظام في إدارة شؤونهم حتى أمام "التمثال المخلوع"، إذ اكتشفوا بعد عقود أن المحافظ القديم "صلاح كناج" لم يصنع التمثال الذي كلَّفَ آنذاك 3 مـلايين و700 ألف ليرة، من مادة البرونز، ليعرفوا متأخِّرين أن الصنم مصنوع من الخشب والقطن ومطلي بمادة البنزور، ما تسبب باشتعاله بشكل سريع .

نعم .. أسقط متظاهرو دير الزور تمثال باسل الأسد، ذلك اليوم، وحاولوا في جُمْعاتٍ متتالية الوصول كذلك إلى "صنم" أبيه في حي الرشدية، ودفعوا في سبيل ذلك عشراتِ الشهداء، وآلافَ الشباب الذين اعتُقِلوا على خلفية تلك المحاولات، التي انتهت بأن أجبر الحاكم العسكري لدير الزور"جامع جامع" على إزالة صنم حافظ الأسد تحت جنح الظلام، بعد أن أتعب عناصره مدة شهور، في حماية التمثال، وبعد أن صرح أكثر من مرة أنه مستعد لقتل 200 ألف من أهالي دير الزور ، في سبيل حماية "تمثال أبو سليمان" ! ، في النهاية ..وقع "جامع جامع" تحت الضغوطات، ليستفيقَ الديريون صباح يوم ما، ويجدوا مدينتهم بلا أصنام.

بين إزالة صنم "باسل" في دير الزور والحسكة:

بعد أكثرَ من خمسة أعوام على وقوع تلك الأحداث في مدينة دير الزور وعشرات المدن السورية، تقوم مليشيات YPK في الحسكة مؤخراً ، بإزالة تمثال باسل الأسد وحصانه، الموجود في مدخل حي غويران شرق مدينة الحسكة.

وانتشرت في شبكات التواصل الاجتماعي صور تظهر إزالة التمثال، بعد نحو عامين من بدء المليشيات الكردية توسيع رقعة سيطرتها داخل الحسكة، ومنافسة قوات نظام الأسد في التمدد بالمدينة.

وكانت وسائل إعلام كردية نشرت قبل ذلك صوراً للتمثال الذي تضرر بسبب الاشتباكات العنيفة الأخيرة بين قوات "الأساييش" ومليشيات الدفاع الوطني في الحسكة، في شهر آب الماضي.

مرت حادثة إزالة التمثال بصمت، ودون أن يُريقَ نظام الأسد هناك أية دماء كالتي أراقها في سبيل الدفاع عن "أصنامه" في دير الزور، ودون أن يتدخل أركان نظام الأسد في الحسكة لإيقاف هذا المشهد، كما فعل "جامع جامع" من قبل في دير الزور.

لماذا بقي "صنم" حافظ الأسد في مكانه وسط الحسكة ؟:

يحاول زعيم مليشيات " PYD " صالح مسلم منذ بداية الثورة السورية ، أن يسوِّق حزبه وأذرعه العسكرية على أنه معارض لنظام الأسد، الذي ترك له منطقة الجزيرة السورية طوعاً ، منذ عام 2013 ، ولم يعد خافياً على ذي لُبّ ، مدى التعاون السياسي والعسكري والإداري بين الطرفين ، رغم وجود "تمثيليات" الخلاف بينهما بعض الأحيان.

وها هو تمثال "حافظ الأسد" يحافظ على موقعه في الساحة العامة وسط مدينة الحسكة، مجيباً على كل الأسئلة والشكوك حول موقف مليشيات " PYD " من نظام الأسد، ذلك الموقف الذي لا يبدو غامضاً إلا عند من انطلت عليه مسرحيات الاشتباك والخلاف.

مليشيات "صالح مسلم" لها في هذه القضية وجهة نظر "براغماتية" تقول إن وجود علاقة بين " PYD " ونظام الأسد ضرورية لحفظ مصالح المناطق التي تسيطر عليها المليشيات الكردية، في محافظة الحسكة، فمع سيطرة تلك المليشيات على معظم أحياء المدينة، ووجود أهم الدوائر الرسمية والكليات والمدارس والحواجز تحت قبضتها، لا ضير لدى "صالح مسلم" من بقاء وجود واهٍ لنظام الاسد في منطقة المربع الأمني بالحسكة، والذي يحوي صنم حافظ الأسد، مقابل أن يضمن لهم هذا النظام مصالح ثانية تتعلق بدفع رواتب الموظفين ، وتخديم بعض منشآت المدينة.

ليبقى لسان حال "صالح مسلم" في سوريا هو عدم وجود أعداء دائمين أو أصدقاء دائمين، إنما المهم هو وجود المصالح الدائمة، التي تتيح إزالة تمثال" باسل الأسد" كنوع من التناحر، وإبقاء تمثال "حافظ الأسد" كنوع من الاعتراف.