الأحد 2017/02/26

الجسر تطلع على مقترحات المبعوث الأممي “السرية” في جنيف٤… دي ميستورا يحكي ..ومجنون يسمع!

بدأت النسخة الرابعة من محادثات السلام السورية في جنيف يوم ٢٣شباط الجاري . وبعد شد وجذب وتأجيل استغرق ساعات ثلاثاً أعلن المندوب الأممي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا بدء الجولة التي أصرت المعارضة السورية على أن تكون مباشرةً وأن تناقش القضية التي جاءت لأجلها بناءً على وعد دي ميستورا نفسه ..الانتقال السياسي.

أحجية الانتقال السياسي:
بدأت أحجية الانتقال السياسي حول القضية السورية منذ أن أجمع مجلس الأمن على القرار ٢٢٥٤ في كانون الأول ٢٠١٥ والذي اتفقت دول مجلس الأمن فيه على تشكيل هيئة حكم انتقالي وإجراء انتخابات خلال ١٨شهراً..وتم السكوت على "عقدة العقد" التي خرج ملايين السوريين ذات ربيع لأجلها ..مصير بشار الأسد.

تركت مسألة "هيئة الحكم" نهباً لتفسيرات الأطراف الدولية كل يفسرها من زاوية في ظل عدم وجود محكمة تفسر القرارات الدولية على غرار ما حصل في "معاهدة دايتون" الخاصة بملف البوسنة والهرسك عام ١٩٩٥.

رغم أن الوفد الذي مثل الشعب السوري في جنيف ٣ (الذي عقد كذلك في شباط ٢٠١٦ بناء على توصيات القرار ٢٢٥٤) كان يفترض أنه يحوي بالتأكيد مستشارين قانونيين وخبراء بالقانون الدولي إلا أن أحداً منهم لم يطالب بتشكيل هيئة تفسر القرار بشكل لا لبس فيه.

ما حصل لاحقاً وكما كان متوقعاً أن القرار "الهُلاميَّ"  بات ألعوبة بيد حُماة نظام الأسد الذين استغلوا استثناء تنظيمي "الدولة والنصرة" من اتفاق وقف النار في المضي قدماً بطريق الحسم العسكري بينما طولبت فصائل المعارضة بالالتزام وسط اتفاق "شبه دولي" بقطع الدعم عنها. وبات كما هو متوقع أيضاً أن تتغير تفسيرات القرار تبعاً لتغير الوضع على الأرض بعد التدخل الروسي اللامحدود في دعم الأسد.

جنيف٤... دي ميستورا والمضي في "تمييع الملف" :
يمر حول كامل على جنيف ٣ استطاع فيه المزاج الدولي العام أن يفرض الشرح الذي أراده على الملف السوري بقيادة "عراب التمييع ودبلوماسي اللف والدوران" ستيفان دي ميستورا الذي قدم في اليوم الثاني لانطلاق جنيف ٤ ورقة اقتراحات لكل من وفدي النظام والمعارضة.

استطاعت قناة الجسر كغيرها من هذا الفضاء الإعلامي الواسع الذي لا يخفى فيه سر أن تطلع عبر مصادرها على بنود اقتراحات المبعوث الأممي والتي ركزت على ثلاثة نقاط رئيسية:

الحكم والدستور والانتخابات.
وتقدم هذه السطور أهم ما طرحه دي ميستورا في ورقة المقترحات التي قال إنه ينتظر الرد عليها من الوفدين. والتي إن أمعنا النظر فيها لن نجدها سوى إملاءات حصر المبعوث الأممي النقاش فيها متجاهلاً المطلب الرئيسي الذي قال وفد المعارضة إنه جاء لمناقشته.


١- يقول مقترح دي ميستورا إن المجموعةالأولى للنقاش تتعلق بقضية "الحكم" حيث ينص القرار ٢٢٥٤ على "حكم ذي مصداقية تشمل الجميع ولا يقوم على الطائفية" :
وهنا ينبغي التوقف عند عبارة "يشمل الجميع" التي تعد بلوغاً بالعموم إلى أقصى الغايات..فهل الجميع المقصود يشمل بشار الأسد ؟


٢- طلب دي ميستورا في المجموعتين الثانية والثالثة مناقشة قضايا تتعلق بالدستور والانتخابات ؛ قائلاً إن الدستور ينبغي أن يكون وفق جدول زمني وإن الانتخابات تتم وفقاً للدستور وتحت إشراف أممي "بالتوافق مع الحكم"
ولا يخفى هنا أن طرح هاتين القضيتين يعد إضعافاً مقصوداً وتمييعاً بلا حدود لقضية "الحكم" الأساسية.


٣- يطلب المبعوث الأممي من الوفدين الانخراط في عملية مستمرة وموسعة خلال الأسابيع والأشهر القادمة في عدة جولات من التفاوض.
ويظهر من خلال هذا الطلب أن جنيف٤ لا يبحث عن الحل بقدر ما يبحث عن تسويفه ومدِّه شهوراً وشهوراً ..بلا أفق أو جدول زمني واضح..وفي مقابل ذلك يأتي طلب آخر يقول فيه دي ميستورا إن قضية وقف إطلاق النار و"مكافحة الإرهاب" لن تناقش في جنيف ؛ وقرر أن أستانا هي المحفل المناسب لذلك..وهذا ما يعني أن عمليات النظام وروسيا وإيران مستمرة في ريف دمشق ودرعا وحمص بلا قرار ملزم ؛ وليس يُفهم استثناءُ وقف النار من المناقشات رغم وجود ممثلين عن الفصائل العسكرية في جنيف!

وهذا يعني كذلك عدم الخوض في مصير أكثر من ١٥٠ ألف معتقل لا تفتأ المنظمات الدولية والحقوقية تصدر حولهم تقارير موثقة لعل تقرير "المسلخ البشري في صيدنايا" لمنظمة العفو الدولية لن يكون آخرها ..بالإضافة إلى إهمال ملف عشرات المدن والبلدات التي يحاصرها نظام الأسد وحلفاؤه الطائفيون.
إن استبعاد الحديث عن ملفات وقف النار والقضايا الإنسانية يشكل أكبر طعنة يمكن لوفد المعارضة في جنيف ٤أن يتلقاها ..ناهيك عن السكوت المطلق عن مستقبل بشار الأسد.


٤- مضياً وراء التمييع وإغفال المهمات من القضايا.. يلحّ دي ميستورا على وجود وفد موحد للمعارضة مصرّاً على وجود تمثيل كامل للمرأة ..وذلك بعد الشد والجذب حول منصتي موسكو والقاهرة الموجودتين أصلاً في وفد المعارضة بعد ممارسة ضغوط على الهيئة العليا لإدراج هاتين المنصتين. وما يظهر جلياً أن "وفد الرياض" استجاب للضغوط بخصوص المنصتين بعد أن كانت مشاركتهما ضرباً من المستحيل في ظل تمثيلهما الجلي لمواقف النظام ..وهذا ما دعا رئيس وفد المعارضة "نصر الحريري" إلى أن يطلب منهما السير في أجندة وطنية تمثل الشعب السوري! وهذا يعني بشكل واضح أن الحريري يشك أصلا بهاتين المنصتين ويعترف بشكل مبطن أنهما لا يحملان أجندة الثورة.


٥- يتابع دي ميستورا مسلسل الاقتراحات "المضحكية المبكية" حين يقول إن التقدم في مجموعات الحكم والدستور والانتخابات ..يمكن أن يؤدي إلى النقاش في مجموعات جديدة يتعلق بعضها بإعادة الإعمار!الحديث عن إعادة الإعمار يأتي في الوقت الذي يشاهد فيه دي ميستورا طائرات الأسد وحليفه بوتين لا تزال تمعن في دكّ المدن والقرى السورية بالصواريخ الارتجاجية والقنابل الفوسفورية وأسلحة التدمير الشامل الأخرى التي اعترفت روسيا بكل وقاحة أنها تقوم بتجريب فعاليتها في "الحرب السورية"


٦- يفرد المبعوث الأممي في ورقة اقتراحاته "العجائبية" بنداً خاصاً للإصرار على "سرية الاجتماعات والوثائق والحوارات والاتصال" .

وفي الوقت الذي تحدثت فيه وكالة سبوتنيك الروسية عن جانب من تلك الاقتراحات"السرية" وأخذت عنها وسائل الإعلام العربية؛ استطعنا الوصول إلى تلك المقترحات ..لكننا لم نكتفِ بذلك ..بل قمنا فيما سلف بالإحاطة بها وتفكيك ما استطعنا تفكيكه ؛ ليس جرياً وراء سبق صحفي أو مجد إعلامي ..بل لأننا نعتبر هذه المعلومات حقاً من حقوق الشعب السوري المهدورة ؛ ولا يمكن بحال من الأحوال أن يبقى مصير هذا الشعب المنكوب رهناً بمفاوضين يجلسون في جنيف وراء جنيف يسمعون ويتشاورون ويقررون مصير شعبٍ لم يشهد التاريخ الحديث نكبةً تشبه ما حل به.

ما بدا لنا في مقترحات دي ميستورا لا يظهر  إلا تطبيقاً منهجياً للمثل العامي القائل "مجنون يحكي وعاقل يسمع" مع فارق بسيط بين المثالين هو أن المتكلم هنا ليس مجنوناً بل هو دبلوماسي محنك يتحدث سبع لغات ويحفظ بعض مفردات العامية السورية ؛ وعرف خلال توليه منصب المبعوث الأممي كيف يسحب البساط من تحت الشعب السوري ويضعه في إطار تعقيدات القانون الدولي والمؤتمرات والاقتراحات ؛ ولم يجد هذا المبعوث أمامه سوى معارضين أبعد ما يكونون "بعسكرييهم وسياسييهم" عن نبض الشارع السوري ..وهذا ما يسمح لنا أن نحرف المثل فنقول إن ما يحصل في جنيف الآن هو " دي ميستورا  يحكي ... ومجنون يسمع".