الثلاثاء 2018/12/25

هل سيختار الأكراد النظام الذي اضطهدهم؟

ستكون مفارقة تاريخية من الصعب فهمها، أن يختار قادة الأكراد الذين يسيطرون الآن على مناطق شمال شرق سوريا، وضع يدهم بيد نظام الأسد الذي اضطهدهم وحرمهم من أبسط حقوقهم على مدار حكم حزب البعث منذ ستينات القرن الماضي، عوض التفاهم مع المعارضة التي تنتشر على الجانب الآخر من شمال البلاد.

هذه المعارضة لم تَضطهد الأكراد يوماً ما، بل لطالما دعمت مطالبهم المشروعة، وضمّنتها في وثائقها منذ بدء الثورة على عائلة الأسد، كما ضمّت العديد من الأحزاب السياسية الكردية إلى صفوفها بدءاً من المجلس الوطني السوري الذي كان الرئيس الثاني له كردياً، مروراً بالائتلاف الذي يضع نائب رئيس كردياً بشكل دائم في قيادته، وانتهاء بهيئة التفاوض واللجنة الدستورية، واعتبرت المعارضة الأكراد في كل ذلك مكوِّناً بحد ذاته، وشارك معها في كل جولات المفاوضات التي انعقدت في جنيف برعاية الأمم المتحدة. فيما لم تكن باقي المكونات حتى تلك التي شكّلت مجالس وطنية على غرار المجلس الوطني الكردي، تعامَل بنفس الطريقة.

ليس ذلك فحسب بل إن الائتلاف الوطني السوري أدخل البشمركة الكردية السورية الموجودة حالياً في العراق كواحد من الفصائل الوطنية السورية المسلحة المنضوية في صفوفه اليوم.

إضافة إلى ذلك مالت المعارضة إلى الأخذ باللامركزية الإدارية في شكل الحكم القادم في البلاد، لإفساح المجال للأكراد للتمتع بأكبر قدر ممكن من الإدارة الذاتية المحلية في المناطق التي يشكلون فيها أغلبية، وتضمين ذلك في الدستور الجديد.

على الجانب الكردي الآخر وقف حزب العمال الكردستاني وحيداً حين شذّ عن الموقف الكردي العام في سوريا، وذهب باتجاه تأسيس ميليشيا عسكرية تابعة له عملت على الهيمنة على القرار الكردي سياسياً وفصله عن المعارضة الوطنية السورية، كما قامت بانتهاكات واسعة النطاق طالت الكرد والعرب في المناطق التي سيطرت عليها، ووثّقت المنظمات الدولية في تقاريرها الكثير من عمليات الانتقام والتطهير العرقي والتغيير الديموغرافي وجرائم الكراهية والاعتداء على الممتلكات وحرق القرى والمحاصيل وهدم المنازل وتجريفها، ارتكبتها هذه المليشيات وتسببت بعمليات نزوح ولجوء طالت مئات آلاف السكان المحليين في شمال شرق سوريا.

إعلان الرئيس الأمريكي ترامب قرار سحب قواته من سوريا يعني بشكل آخر تخلّيه عن حماية المليشيات الكردية التي دعمها في السيطرة على كامل منطقة شمال شرق الفرات تقريباً، والمليشيات بهذا الانسحاب الأمريكي وقعت تحت تهديدين رئيسيين لها:

التهديد الأول: من جانب تركيا التي تصنّف المليشيات الكردية أنها منظمة إرهابية، وترفض استمرار وجودها على حدودها الجنوبية، معتبرة ذلك تهديداً لأمنها القومي، وخطوة لتأسيس دولة كردية معادية للجمهورية التركية. والتعزيزات العسكرية التركية تنذر بقرب هجوم وشيك ينتظر استكمال انسحاب الجنود الأمريكيين ليشنّ معركة يطرد فيها مليشيات "ب ي د" من منبج أولاً، ثم من شرق الفرات ثانياً.

التهديد الثاني: من جانب النظام، الذي يطالب المليشيات الكردية بتسليمه كل المناطق الخاضعة لسيطرتها، وإلا فهو أيضاً يحشد حشوده بمساندة القوات الإيرانية والروسية لاجتياح المنطقة واستعادتها من يد "ب ي د".

أمام "مجلس سوريا الديموقراطية"، والمليشيات الكردية التابعة له ثلاثة خيارات:

الأول: إعلان الشراكة الفعلية والتحالف مع باقي المعارضة السياسية الوطنية الكردية والعربية وغيرها، ودمج مليشياتها مع فصائل الجيش الوطني السوري التي تقاتل غرب الفرات، واستكمال مسيرة تغيير نظام الأسد، واستعادة حقوق الشعب السوري المهدورة منذ خمسين عاماً خلت.

الثاني: الدخول في معركة مع القوات التركية، وهي معركة محسومة النتائج سلفاً، فدرس عفرين ليس بعيداً عن الأذهان، والمليشيات الكردية بدون الدعم الأمريكي ستنهار سريعاً، وستضطر إلى مغادرة سوريا بشكل نهائي لتعود إلى جبال قنديل، ومن هناك تستمر في مهاجمة تركيا كما كانت تفعل قبل انطلاق الثورة السورية.

الثالث: عقد صفقة مع النظام يتم بموجبها تسليم شمال شرق الفرات مقابل بعض الامتيازات التي سيطالب بها "مجلس سوريا الديموقراطية" كنوع من الإدارة الذاتية لهذه المنطقة.

ما الذي سيحدث شمال شرق الفرات؟

ليس من سببٍ يمنع المليشيات الكردية من الأخذ بالخيار الأول، الذي سيهدّئ أو يزيل مخاوف تركيا بالكامل من تهديد أمنها القومي، أو نشوء دولة كردية على حدودها الجنوبية، وهو أيضاً سيكون عامل تقوية للمليشيات الكردية أمام تهديدات النظام باجتياح المنطقة عسكرياً، فعدد القوات المدافعة عنها سيتجاوز مئة ألف مقاتل، وسيحصلون على دعم أمريكي تركي مشترك، كذلك سيتقبّل المجتمع الدولي هذه الخطوة برضا كبير؛ فهي ستساهم في بدء مرحلة تفاوضية حقيقية مع النظام حول عملية الانتقال السياسي المنصوص عليها في القرارات الدولية.

النظام لن يعطي "مجلس سوريا الديموقراطية" شيئاً مما يطالب به، والمجلس يعلم ذلك جيداً بعد الزيارتين اللتين قام بهما إلى دمشق، وهو لن يكون في حال أفضل مما حدث في الجنوب، سيتم تفكيك المليشيات واستيعابها كأفراد في قوات النظام، ومن المؤكد أن قياداتهم لن تسلَم من عمليات انتقام أو محاسبة على يد الأجهزة الأمنية التي ستبقى تنظر إليهم على أنهم عملاء قاتلوا إلى جانب "الاحتلال الأمريكي".

عقد صفقة مع المعارضة ومع تركيا بالطبع أسهل بكثير من عقد صفقة مع النظام، هذا من جانب، ومن جانب آخر هو السبيل الوحيد للمحافظة على وجودهم، وعلى المكاسب التي حققوها على الأرض خلال السنوات الماضية، إذا تم دمجُها في مشروع تحرير وطني متكامل. لا شك أنهم لا زالوا يدرسون خياراتهم، وسنسمع شيئاً عنها قريباً جداً.