الأحد 2018/05/06

سياسة الوقت المستقطع عند ترامب

لا يوجد مدرب كرة قدم واحد على وجه الأرض يضع خطته للفوز على خصومه بهدف يحرزه في الوقت المستقطع من المباراة، سيكون هذا ضربا من الحماقة، إن لم يكن نوعاً من الجنون. أنت لا تملك السيطرة الكاملة على الأحداث التي تجري في الملعب، مهما كان خصمك ضعيفاً.. أنت فشلت في هزيمته طوال الوقت.

بالمقابل متعة هدف الوقت المستقطع خصوصاً في المناسبات الكبرى لا تعدلها متعة، والجماهير والمعلّقون والمحللون والنقّاد والصحافة والإعلام تغفر وتنسى كل فشل الوقت الأصلي، إن لم تحوّل هذا الفشل والنصر المتأخر إلى الذكاء والدهاء الذي يتمتع به المدرب صاحب الهدف السحري. نقطة السحر فيه المفاجأة التي تذهل الجميع، وتقلب الأوضاع رأساً على عقب، المنتصر يحسم الأمر تماماً، وليس هناك أي أمل للخاسر.

عالم السياسة يشبه عالم الكرة من وجوه كثيرة في وضع الخطط والاستراتيجيات والاحتمالات، ولا يختلف عنه في محاولة تجنّب الدخول في مأزق أزمة الوقت المستقطع. المخاطر السياسية تفوق كثيراً مخاطر خسارة أو ربح مباراة، السياسة تتغير فيها حكومات، وتصعد أو تنهار اقتصادات، ويعاد بسببها رسم خارطات.

وكمدربي كرة القدم لا تجد رئيساً يتجرأ على المراهنة على الوقت الضائع، وحده الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" يتجرأ على هذا ويفعله، هو أولاً يملك القوة اللازمة لوضع الهدف في المكان والزمان المحددين تماماً، وثانياً لا أحد يعرف خياراته بدقة، الجميع يدخل في باب التحليل والتوقّع حتى أقرب الناس إليه، بالأمس القريب وبعد لقاءات مطوّلة في الولايات المتحدة حول الاتفاق النووي مع إيران، قال الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" للصحفيين "لا أعرف ما الذي سيقرره الرئيس الأميركي يوم 12 مايو"، ومثل ذلك المستشارة الألمانية "آنجيلا ميركل"، العالم كله يرتقب موعد 12 مايو القادم ليعلم قرار ترامب من الاتفاق النووي ، لا يمكن التكهن بقراره ولو قبل 24 ساعة. هكذا فعل مع نظام الأسد عندما قصفه مرتين بعد الاعتداءات المتكررة للأسد على الشعب السوري بالأسلحة الكيماوية المحرمة دولياً، لكن أين سيضرب ومتى وحجم الضربة.. كل هذا يمكن معرفته فقط بعد التنفيذ، وترامب واضح في سياسته لا يخفيها، قال أول أمس الجمعة "إنه تمّ تحديد مكان وزمان اللقاء مع زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون" وقال " سيتم إعلان ذلك "قريبا جدا".

أيضاً كأمثلة على قراراته الداخلية المفاجئة نجد أنه وبعد أسبوع فقط من توليه السلطة، ودون سابق إنذار، أصدر قراراً بمنع دخول القادمين من سبع دول غالبية سكانها من المسلمين لمدة 90 يوما، إضافة إلى حظر مدته 120 يوما على دخول جميع اللاجئين. وأقال بشكل مفاجئ مدير مكتب التحقيقات الفدرالي (اف بي آي) جيمس كومي الذي كان يحقق في كون فريق حملة الرئيس الانتخابية تعاون مع روسيا في محاولته هزيمة المنافسة الرئاسية الديمقراطية هيلاري كلينتون. ثم انسحب من اتفاقية باريس للمناخ، ثم وقّع على مرسومٍ تفرض بموجبه الولايات المتحدة رسوماً جمركية على واردات الحديد والألمنيوم، من معظم دول العالم.

فيما تعتبر سياسة الوقت المستقطع نقطة ضعف كبيرة، فإنها تشكّل العلامة الفارقة في مكاسب الولايات المتحدة الواسعة من قرارات ترامب، الغموض الشديد الذي يلفّ مواقفه يجعل المتوجّسين والخائفين منها، سواء منهم المتضررون أو المنتفعون، أو الذين يريدون إيقافها أو إنفاذها، كل هؤلاء ستكسب منهم الولايات المتحدة، فمثلاً من يريد ضرب نظام الأسد، أو استمرار انتشار القوات الأمريكية شمال شرق سوريا لتحجيم النفوذ الإيراني، سيكون مستعداً لتغطية نفقات العمليات القتالية فترامب توقّف عن الإنفاق المجاني لحماية مصالح الآخرين، وكوريا الشمالية التي تريد إيقاف التهديدات الأمريكية ستكون مستعدة للدخول في مفاوضات للتخلّي عن أسلحتها النووية، ترامب يكتفي بإعلان نيته اتخاذ قرار ما، ويترك سلسلة الإجراءات والارتدادات تأخذ مجراها، ويكتفي بمراقبتها، كثير من العواقب التي يخشاها المحللون السياسيون والعسكريون لقراراته ستكون قد اتضحت قبل التنفيذ، وهو ما يعطيه قوة أكبر فيما سيفعله حقيقة. لا يكاد يوجد رئيس آخر يمتلك هذه الميزة، لذا هو يستثمرها إلى أقصى حد.

اقتصادياً تنهار عملات دول بمجرد أن تتلقى تهديداً من ترامب، وتنتعش عملات واقتصادات أخرى، وترتفع أسعار النفط، ويسجل الدولار مكاسب قوية أمام العملات الأخرى.

الحالة السورية النهائية تدخل في صلب سياسة الوقت المستقطع التي ينتهجها ترامب، وهو سيترك الجميع يتخبطون في حلول جزئية ومؤقتة، المسارات جنيف وأستانا وسوتشي، ومناطق خفض التصعيد، أو مناطق النفوذ المؤقتة، أو دخول قوات عربية، جميعها تحقق مكاسب اقتصادية (تجارية) للولايات المتحدة، وترامب سيحدد الوقت الذي يضع فيه الحل (الهدف) الحاسم.

الخلاصة أنه لا يوجد سياسة أمريكية تجاه سوريا الآن لا نظاماً ولا رئيساً ولا شعباً، لم يأت أوان ذلك بعد.