الأثنين 2018/05/14

الأمم المتحدة للمعارضة السورية: “صَلُّوا لعلّ السماء تمطر حلاًّ”.

لننظر ما الذي حصلنا عليه بعد ست سنوات من ظهور أول مسار تفاوضي في جنيف 6/30/ 2012، ثم المسار الثاني في أستانا 2016، ليلحق بهما سوتشي 2018.

بعد ثماني جولات ماراثونية كاملة في جنيف أنتج هذا المسار ورقة مبادئ واحدة من اثنتي عشرة نقطة اتفقت عليها المعارضة "فقط" مع الأمم المتحدة عبر وسيطها الخاص السيد "ستيفان دي مستورا"، ومن نافلة القول إن هذه الورقة هي تقريباً "وثيقة العهد الوطني" التي أنتجتها المعارضة في القاهرة بتاريخ 3/7/2012 بمعزل عن الأمم المتحدة بعد صدور بيان جنيف بثلاثة أيام فقط.

ما الذي يعنيه هذا؟

ببساطة: كان وجود الأمم المتحدة ومبعوثيها الخاصّين الثلاثة كعدمه، وأن الجولات الجنيفية الثماني انتهت حيث بدأت المعارضة، كانت جنيف كلعبة أطفال تتلهّى بها المعارضة وتسكت قليلاً عن البكاء والصراخ ريثما يتم تحضير وجبة الرضاعة الحقيقية في المطبخ الدولي.

لنزد هذه الحقيقة الصادمة وضوحاً أكثر: النظام فعلياً لم يشارك في كل جولات جنيف، وورقة المبادئ هي فقط نتيجة المفاوضات بين المعارضة والأمم المتحدة، النظام لم يضع فيها حرفاً، ولم يوافق عليها أصلاً، بل كانت له ورقة مبادئ منفصلة تتحدث عن إرهابيين يجب على المجتمع الدولي أن يساعد النظام في القضاء عليهم، وأن يتحمل داعمو هؤلاء الإرهابيين تكلفة إعادة إعمار البلاد.

مئات المفاوضين من جانب المعارضة تناوبوا على المشاركة في جنيف ينتمون إلى الائتلاف ثم هيئة المفاوضات ومنصات موسكو القاهرة أستانا حميميم والمجتمع المدني والاستشارية النسائية، والنظام يأتي دوماً بوفده المكوّن من عشرة أشخاص، وفيما تبدّلت قيادات المعارضة وكبراء مفاوضيها، حافظ النظام على الجعفري كبير وفده في المفاوضات، ومندوبه الدائم في مجلس الأمن.

سوتشي بنسختها الوحيدة حتى الآن تبنّت ورقة مبادئ جنيف الاثني عشر، وأوصت بتشكيل لجنة دستورية لا يزال النظام يرفض الانخراط فيها رغم أن المعارَضات التي شاركت في سوتشي قد جهّزت قوائم مرشحيها لهذه اللجنة لتسليمها للدول الضامنة.

أستانا في سباق جولاتها "العددي" مع جنيف، ستتفوّق عليها "عدديا" لأول مرة وتخوض جولتها التاسعة خلال اليومين القادمين، وهي تشبه جنيف من حيث تبدّل وفود المعارضة وقياداتها وكبراء مفاوضيها، مع ثبات وفد النظام بعناصره العشرة وكبيرهم الجعفري، كما تشبه جنيف في ورقة وحيدة تم العمل عليها هي "مناطق خفض التصعيد" التي بقيت حبراً على ورق، وها هو ريف حمص الشمالي يبدأ بتهجير أهله منه، ليؤكد أن اتفاقية خفض التصعيد كانت "مؤقتة" كما ذكر رؤساء الدول الضامنة الثلاث في لقائهم الأخير في تركيا.

أستانا في جولتها التاسعة لن تفتح ملف المعتقلين، هذا أحد أوهام المعارضة، ملف المعتقلين لن يفتح اليوم ولا غداً ولا في أي وقت آخر إلى أن يأتي الاتفاق النهائي حال إتيانه، فهذا الملف يحتاج إلى تفاهمات دولية كبرى حوله، فهو سينتقل فور فتحه إلى محكمة الجنايات الدولية في لاهاي، والنظام سيرفض فتحه في أستانا، الدول الثلاث لا تستطيع منحه الضمانات والحصانة من الملاحقة والمحاكمة، وهو سيؤخر ذلك إلى أن يتوصّل إلى صفقة دولية تحمي رئيس النظام وكبار رموزه من إنشاء محكمة دولية خاصة بهم، والاكتفاء بإجراءات المصالحة الوطنية، واعتبار ملف المعتقلين شأناً داخلياً لا دولياً.

أين نحن الآن؟

منطق هذه اللحظة منطق عسكري وليس منطقا سياسياً، هذا هو الاعتقاد السائد اليوم في أروقة الأمم المتحدة، وحسب قول كبار الفريق الأممي الخاص بسوريا في اللقاء الذي جمعهم بقيادة المعارضة السورية في إحدى عواصم القرار الأوربية منذ أيام، فقد ترسّخ هذا الاعتقاد بعد الهجوم الكيماوي في الغوطة، والضربة الأمريكية البريطانية الفرنسية، الذي أعطى مفهوم أنه إذا لم يكن هناك استخدام للسلاح الكيماوي، فليس هناك إرادة لوقف العمل العسكري، وهو ما ظهر في استمرار القتال بعدها في الغوطة وفي مخيم اليرموك.

الأمر الثاني: الصراع في سوريا تعدى نطاق كونه صراعاً سياسياً داخلياً بين النظام ومعارضيه، التدخلات التي حصلت تجعل المشهد كأحجية يصعب حلّها، الولايات المتحدة وروسيا وتركيا وإيران وإسرائيل والسعودية والأردن ومصر ولبنان والعراق وقطر والإمارات وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، وتنظيم الدولة الإسلامية والقاعدة والميليشيات الكردية والشيعية والمرتزقة، في ظلّ هذا المشهد من الصعب توقّع حصول اتفاق في الأفق القريب أو البعيد، الصراع تحوّل إلى صراع "جيوسياسي" الاستقطاب الدولي يسير صاعداً حول هذه الرقعة الجغرافية من العالم، كأنه لم يبق رقعة أخرى يمكن أن تحمل جزءاً من هذا الصراع، أو أنهم يهربون من حصول مواجهات بينهم على أرض واحد منهم، فاختاروا جميعا سوريا ساحة لتصفية حساباتهم، وما كان يمكن لاتفاق ما أن يحدث بالأمس، صار عصيّاً اليوم، نحن في زمن ترامب وبولتون، وليس أوباما وكيري، وابن سلمان الذي يذهب في عداوة إيران إلى أبعد مدى. يرى الفريق الأممي في هذه النقطة أن جمع هؤلاء على طاولة واحدة يستحيل حدوثه اليوم.

ما الذي يمكن أن يحدث إذن؟

الأمر الأول المتوقع حدوثه حرب محدودة أو مفتوحة بين إيران وإسرائيل، ستحاول هذه الأخيرة إبقاءها داخل الأراضي السورية، وعدم فتح جبهة جنوب لبنان، إيران لن تجد حلفاء لها في هذه الحرب عكس إسرائيل التي ستلقى تأييداً ودعماً دولياً وإقليمياً، في كل الحالات هذه الحرب معهما كان حجمها ليست عاملاً نوعياً يؤثر في سير الأحداث في سوريا، وآخر نتائجه قد تكون ترجمة لتثبيت وقائع على الأرض هي قائمة بالفعل الآن، فإسرائيل ليس أطماع احتلال أجزاء من سوريا، فقط هي تريد منطقة عازلة يسيطر عليها "الجار الصالح" المتمثل بفصائل الجيش الحر حالياً، ريثما تعود إلى "الجار القديم الأصلح" المتمثل بنظام عائلة الأسد.

الأمر الثاني المتوقّع وهو المهم، أنّ المعارضة بمختلف صنوفها سيكون لها مناطق جغرافية تسيطر عليها: شمال شرق، وشمال غرب، وجنوب غرب، والباقي مع النظام، لكن لن يتفرد أحد بحكم منطقته، لا المعارضة ولا النظام، سيكون القرار أمريكياً شمال شرق حيث تنتشر الميليشيات الكردية، وتركياً شمال غرب في مناطق درع الفرات، وغصن الزيتون، ومحافظة إدلب، وإسرائيلياً في الجيب الجنوبي الغربي، وسيكون القرار للروس والإيرانيين في المناطق التي ستترك للنظام، الحقيقة المرّة "أنه تقسيم مؤقت" للبلاد، في انتظار حدوث التفاهمات الدولية التي لن تأتي عبر أستانا وسوتشي بشكل أكيد، وقد تأتي عبر جنيف في قرار أممي جديد لمجلس الأمن، أو في تفسير للقرار 2254 يتلاءم مع "الواقعية السياسية" التي ستفرض نفسها يومئذٍ.

التفسير الجديد للقرار 2254 حسب الواقعية السياسية سيأتي بحل يشبه ما حصل في كل من أفغانستان والعراق، بالحفاظ على شكل الدولة الموحدة، وفرض سلطة أمر واقع، قد تكون بقيادة رئيس النظام الحالي فدول مثل فرنسا والسعودية تصرّحان بقبول هذا، أو بشخص جديد مثل كرزاي أفغانستان، أو جعفري العراق، سيكون هذا أفضل ما سيحصل عليه السوريون.

أسوأ ما يتوقعه الفريق الأممي أن يتعقّد الوضع في سوريا إلى درجة تشبه ما حصل في البلقان، فالبلاد مؤهلة عرقياً ودينياً وطائفياً ومذهبياً لحدوث هذا فيها، صحيح أنه لا أحد يريده فكلفته عالية جداً، فظهور أربع أو خمس دول على أنقاض سوريا الحالية كما حدث في يوغوسلافيا السابقة يقتضي إعادة رسم المصالح والخرائط السياسية والاقتصادية في المنطقة كلها.

بعيداً عن لغة النفاق والمجاملات التي يجب أن يتمتع بها الدبلوماسيون، والتي نسمع من خلالها عبارات مثل: أستانا مسار مهم ويمكن أن يساعد عملية السلام والمفاوضات في جنيف، فإن حقيقة موقف الأمم المتحدة بدون رتوش أنّ أستانا مسار فاشل بنسبة 100%، وأن محدودية دورها يأتي من أنها مقتصرة على ثلاث دول فقط، ومع أنها دول فاعلة في الملف السوري، إلا أن عدم وجود الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي، ودولة عربية على الأقل مثل السعودية، يجعل هذا المسار بلا محطة أخيرة يمكن أن يصل إليها، فالأطراف الأخرى خارج المسار قادرة على تخريبه عسكرياً بالسلاح الذي يمكن أن تضخّه لإبقاء الحرب مستعرة، أو بالمال الذي تملكه، وتمتنع عن ضخّه في أي عملية لإعادة الإعمار، الذي سيساهم في إعادة الاستقرار، والأمر الأهم من وجهة النظر الأممية أن هذا المسار يفتقد للشرعية الدولية التي بإمكانها وحدها أن تقول: هذا هو الحل في سوريا.

إذا كانت أستانا حسب رأي الأمم المتحدة فشلت في تثبيت خفض التصعيد، ولن تفتح ملف المعتقلين، ولن تأتي بحل سياسي، فلماذا تنعقد إذن؟

الجواب" أن أستانا تنعقد بسبب واحد، ولها دور واحد، ألّا تحصل مواجهات عسكرية بين الدول الضامنة الثلاث، يعني هو أمر لا يتعلّق بالسوريين، ولا بحل سياسي يقبل به المجتمع الدولي، أو حل عسكري يحسمه أحد الطرفين.

لتقريب هذه الصورة أكثر، نصف البلاد غير مشمولة في مسار أستانا، شمال شرق البلاد وجنوب غربها، وبادية يتجوّل فيها تنظيم الدولة ويضرب حين يشاء، كيف يمكن لمسار أستانا من خلال هذه الصورة أن يأتي بحلٍّ شامل أيّاً كان نوعه، حلُّ البلقان أقرب إلى مسار أستانا منه إلى مسار جنيف.

ما هي خيارات وفد المعارضة الذي سيسافر غداً إلى أستانا؟ . . . . . . . لا شيء!

كما تفعل الأمم المتحدة، لا شيء سوى انتظار التفاهمات الدولية، والصلاة -كما نصح الفريق الأممي- "لعلً السماء تمطر حلاًّ".