الأحد 2018/05/27

إيران على خلاف كوريا الشمالية تسير نحو الأسوأ مع “نظرية المجنون”

"يجب أن يعرف أعداؤنا أنّ الجنون مسّنا، ولا يمكن التنبّؤ بما سنفعله بقوة تدمير فائقة للعادة تحت إمرتنا، وهكذا سوف يركعون لإرادتنا خائفين"، هذا ما أوصى به الرئيس الأمريكي السادس والثلاثون "ريتشارد نيكسون" وزير خارجيته "هنري كيسنجر" حين يفاوض الفيتناميين في سبعينات القرن الماضي.

ثنائي "نيكسون كيسنجر" أبعد ما يمكن أن يوصف بالجنون، الجنون وخصوصاً في عالم السياسة مفهوم نسبي، لا يستند إلى أي معيار موضوعي، هو فقط نمط تفكير أو سلوك يتعارض مع أنماط التفكير أو السلوك السائدة في زمان ومكان معينين، لذا هو "ظاهرة ترعب العقلاء" الذين يفكرون ضمن القواعد المتبعة عادة.

نيكسون كانت له سياستان متباينتان واحدة عرفت ب "مبدأ نيكسون"، وهي قائمة على "تركيز الديبلوماسية الأمريكية في آسيا على الأدوات الاقتصادية كبديل عن الأدوات العسكرية، وجعل الدول الآسيوية أكثر اعتماداً على نفسها في حل نزاعاتها، وتقييد التدخل الأمريكي وحصره في ردع التهديدات التي تمارسها إحدى القوى النووية، مع إمكانية ردع التهديدات التقليدية التي تحدث على نطاق ضخم لا طاقة لحلفاء أمريكا على مواجهتها". مع أن هذه السياسة مختلفة عن سياسات رؤساء سابقين، إلا أنها بقيت مألوفة فهي ضمن القواعد العامة للسياسة.

السياسة الثانية لنيكسون كانت في معالجة ملف "الحرب الفيتنامية" كانت أمريكا قد لقيت خسائر فادحة لا توازي أي مكسب يمكن أن تحصل عليه حال استمرار هذه الحرب العبثية، وفشلت كل خططها للخروج من هذا المستنقع، ولم يكن أمام نيكسون إلا "ادّعاء الجنون" الظاهرة التي "ترعب العقلاء" كما سبق، كانت نهاية المطاف توقيع اتفاقية مع الفيتناميين تنهي الحرب هناك.

"الثوار الكوريون الشماليون الشيوعيون" كحال أسلافهم الفيتناميين فهموا النظرية جيداً، وهم بين مدٍّ وجزرٍ، وتراشق إعلامي مع إدارة ترامب، سيتوصلون لاتفاق قريب معه، وسيتخلّون طواعية عن برنامجهم النووي مقابل حزمة مساعدات اقتصادية، ورفع اسمهم من دول محور الشر المارقة، وإعادة إدماجهم في المجتمع الدولي، وإحلال السلام بين الكوريتين، وقد يصل الأمر إلى توحيد شطري شبه الجزيرة الكورية، بعد سبعين عاماً من انفصالها، إيذاناً بنهاية دولة شيوعية حليفة لروسيا من الخارطة السياسية للعالم.

على غرار كيسنجر أوصل بومبيو "نظرية المجنون" لإيران في اثني عشر شرطاً، على عدد الأئمة الاثني عشر الذين يؤمن بهم ملالي إيران الشيعة، لعلّها كانت رسالة مبطّنة للإصلاحيين للخروج من عباءة الولي الفقيه، مع أنه في ثنايا خطابه كان قد استبعد حصول ذلك، بومبيو يتوقّع أن يتخلّص ثنائي النظام "خامنئي سليماني" من ثنائي الحكومة "روحاني ظريف"، ويأتي بشيء مماثل لما فعله ترامب حين تخلّص من تيلرسون، لدينا اليوم ثنائي "ترامب بومبيو".

ترامب الآن يقف في ساحة المعركة كديك نفش ريشه، أو كبطل عالمي لكمال الأجسام يستعرض عضلاته، ينتظر أن يراجع منافسه الإيراني الضئيل الحجم حساباته قبل الدخول في نزال خاسر يجعله عبرة على مرِّ الزمان.

توجُّه الإيرانيين صوب الاتحاد الأوروبي لن ينفعهم، ولن يقدّم أو يؤخر، ساسة أوروبا يريدون حفظ ماء وجوههم لا أكثر، الشركات الأوربية بدأت بالفرار من إيران خوفاً من العقوبات الأمريكية، استمرارهم في السوق الإيرانية سيسبّب لهم خسائر فادحة حين تمنعهم الولايات المتحدة من أسواقها وأسواق حلفائها.

القضية في إيران معقّدة أكثر من كوريا الشمالية، هي مسألة وجودية للمؤسسة الدينية المتحكمة بالبلاد منذ نشأت الخمينية قبل أربعين عاماً، هذه المؤسسة الفاسدة صاحبة الأذرع العسكرية الإرهابية في العراق وسوريا ولبنان واليمن، إضافة للحرس الثوري في إيران، وصاحبة فرق الاغتيالات والتفجيرات التي تروّع بها خصومها في كل مكان في العالم، هذه المؤسسة ستتحدّى ترامب، هذا فقط سيجعل "جنونه" يدخل حيّز التنفيذ، ويتشدد في فرض شروطه على النظام الإيراني، وخاصة أن اللوبي الصهيوني سيضغط عليه بقوة للمضي في "أقسى عقوبات في التاريخ" يصعب على إيران تحمّل تبعاتها، وتعود بها عقوداً إلى الوراء، فيما هي الآن لديها من المتاعب الاقتصادية والمالية ما يجعلها بالكاد تقف على قدميها.

إيران كدولة فارسية شيعية وحيدة ستفتقد لأي تعاطف من العالم الإسلامي السنّي ومن جيرانها العرب، على كلا الصعيدين لها مشاكل كبرى، وتاريخ من الاعتداءات والتدخل في شؤون غيرها، وخاصة بعد مشاركتها في جرائم الإبادة التي تجري ضد الشعب السوري.

المشهد السياسي في إيران يعبّر بالأصل عن خلافات عميقة داخل أجنحة النظام الإيراني، فقبل ثلاثة أشهر تقريباً انتقد روحاني في كلمة له أمام مهرجان الخوارزمي الدولي "الإنفاق الهائل للميزانية السنوية على مشروع "أسلمة العلوم"، الذي يصر المرشد الأعلى خامنئي على المضي قدما في تنفيذه، وقال: "إن الإنفاق على المؤسسات الدينية لم يساهم بشيء في تنمية البلاد، وأضاف: "ليس لدينا صناعة سيارة إسلامية ولا فيزياء أو كيمياء إسلامية"، ودعا إلى "التفاعل العلمي مع العالم وحرية البحث العلمي"، وقال: "إن الكثير من الأموال أنفقت على إضفاء الطابع الإسلامي على هذه العلوم، إلا أن الخوارزميات الجبرية والرياضيات لا يمكن تصنيفها بالإسلامية وغير الإسلامية من خلال إضفاء الصبغة الإسلامية عليها وبإنفاق هائل على هذه العلوم"، وتابع "العلم ليس مرتبطاً بالإيديولوجيا، ولدينا أجنحة في البلاد، لكننا لا نستطيع أن نقول العلوم الأساسية للأصوليين والعلوم الرياضية للإصلاحيين، العلم لا يعرف حدوداً حيث يريد البعض جعل الفيزياء والكيمياء إسلامية وقد أنفق الكثير من المال والوقت على هذا، الجبر هو الجبر، والرياضيات هي أيضاً الرياضيات". بالمقابل ينتقد خامنئي حكومة روحاني بسبب دعمها لخطة تعليم طرحتها الأمم المتحدة بوصفها "متأثرة بالغرب"، وقال: "هذا ليس مكانا سيُسمح فيه لأسلوب الحياة الغربي الخاطئ والفاسد والمدمّر بنشر تأثيره".

الإدارة الأمريكية تحرّض على نشوب هذا الصراع الداخلي بين الطرفين، سيكون هذا كفيلاً بانهيار كل المشاريع العدوانية والتوسعية الإيرانية، وعلى رأسها المشروع النووي، ستصبح إسرائيل والسعودية بمأمن أكثر.

يأمل نظام الملالي أن تأتي تهديدات ترامب بنتائج عكسية وتقرّب بين الطرفين، إن لم تستجب الحكومة سيطيحون بها، الحرس الثوري بدأ بإجبار الشارع الإيراني على الخروج في مسيرات تأييد للخامنئي، لكن الأمور في إيران يبدو أنها تسير نحو الأسوأ على خلاف كوريا الشمالية.