السبت 2018/11/24

سوريا.. العودة إلى نقطة الصفر؟


مركز الجسر للدراسات...


جيمس جيفري.. الممثل الخاص لوزير الخارجية الأمريكية في سوريا، وعلى خلاف أسلافه من المبعوثين الأمريكيين في السنوات الماضية يكثر من الظهور الإعلامي وإصدار البيانات وعقد المؤتمرات، لكن محاور جيفري في تصريحاته تتمحور حول مجموعة قضايا يربطها في حزمة سياسية، لكن ليس من بينها إشارة إلى عمل عسكري إلا بقايا معركة تشارف على نهايتها مع تنظيم الدولة على ضفاف الفرات، وبيد الميلشيات الكردية وكيل الولايات المتحدة في منطقة شمال شرق سوريا.

لننطلق من الأساس الراسخ الذي تبني عليه الولايات المتحدة سياستها في الشرق الأوسط: أمن إسرائيل، إسرائيل كانت هددت ببدء حرب كبرى في سوريا ما لم يتم سحب القوات الإيرانية بعيداً عن حدودها، وما لم يتم تحجيم النفوذ الإيراني إلى الدرجة التي لا يعود فيها مقلقاً لأمن إسرائيل.

كيف حدث أن تغيّر هذا التوجه الإسرائيلي أولاً، وغيّر معه سياسات الدول الأربع الأخرى التي لها قوات مسلحة نظامية على الأراضي السورية: الولايات المتحدة وروسيا وتركيا وإيران، هذه الجيوش الخمس التي يذكرها جيفري في سياق تحذيره من حدوث اشتباكات بينها تؤدي إلى حرب واسعة النطاق وباهظة التكاليف؟

قبل 3 سنوات تماماً في 24 تشرين ثاني/ نوفمبر 2015 أسقط سلاح الجو التركي مقاتلة روسية من طراز سوخوي 24، كان قد مضى أقل من شهرين على التدخل العسكري الروسي في سوريا 30 أيلول/سبتمبر 2015، ساقت هذه الحادثة إلى إنشاء تحالف جديد في المنطقة ضم روسيا وتركيا وإيران، وفتح الباب أمام مسار أستانا الذي توصلت الأطراف الثلاثة فيه إلى "اتفاق خفض التصعيد"، كذلك فتح الباب لعقد مؤتمر "الحوار الوطني السوري" في سوتشي الذي طالب في بيانه الختامي بتشكيل لجنة دستورية "بغرض صياغة إصلاح دستوري يُسهم في التسوية السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة وفقاً لقرار مجلس الأمن 2254".

18 أيلول/سبتمبر 2018 يجري إسقاط طائرة استطلاع روسية ثانية من طراز إيل20 قرب سواحل اللاذقية بصاروخ S200 روسي الصنع، أطلقته الدفاعات الجوية لنظام الأسد "عن طريق الخطأ"، كان يستهدف مقاتلات عسكرية إسرائيلية تحلّق في الأجواء السورية، قُتل جميع الجنود والضباط الروس الخمسة عشر الذين كانوا على متنها، ورفض على إثرها الرئيس الروسي بوتين استقبال رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، متهماً إياه بالتسبب بسقوط الطائرة.

روسيا تتحمل إسقاط طائرة لها عبر طائرة F16 أمريكية الصنع، يحدث ذلك عادة في المعارك، لكن أن تسقط طائرة روسية بصاروخ روسي لا يستطع التعرف عليها بين مقاتلات إسرائيلية تطير بالقرب منها، فهذا يعني عيباً خطيراً في كل منظومة السلاح الروسية ويعرّض سوقها للانهيار، هذا فارق جوهري في موقف الروس من تركيا وقبولها بالاعتذار عن إسقاط طائرتها، مقابل الغضب الشديد من إسرائيل، وخاصة مع تكرار أسراب الطائرات بدون طيار التي تهاجم قاعدة حميميم واتهامات الروس لجهات دولية تمتلك تقنيات متقدمة جداً بالوقوف وراءها.

يبدو أن الجميع قرّر فجأة أن هذه آخر طائرة تسقط في سوريا، وصار جيفري يتحدث عن ساحة معركة من أخطر ثلاث ساحات إلى جانب بحر الصين الجنوبي وكوريا الشمالية، يمكن أن تؤدي إلى اشتباكات بين القوى الدولية الكبرى.

إسرائيل التي كانت تهدد بشن حرب كبرى سكتت عن ذلك، المعطيات تبدّلت لديها في ثلاث نواح:

الأول: الموقف الروسي منها: والذي كانت تعوّل أن يساندها فيما لو تورطت في حرب مع القوات الإيرانية، ويبدو أنها اكتفت بسقوط الجنوب بيد نظام الأسد، مع تعهدات روسية بدفع القوات الإيرانية بعيداً عن الحدود الإسرائيلية لمسافة لا تقل عن 50 كم.

الثاني: الرئيس الأمريكي ترامب: الذي يظهر أن من سياسته عدم الدخول في أي معركة خارج الأراضي الأمريكية، إلا من ناحية بيع السلاح للأطراف المتحاربة، حروب فيتنام والصومال وأفغانستان والعراق لن تتكرر، الرجل يريد فقط كسب المال وإرضاء ناخبيه لا خسارة الدولارات في "دول فاشلة".

الثالث: مناوشات صغيرة في غزة هزت حكومة نتنياهو وكادت تطيح بها وتجبره على إجراء انتخابات مبكرة بعد استقالة وزير دفاعه، فكيف لو دخل معركة مفتوحة مع القوات الإيرانية وانضمت إليها مليشيا حزب الله اللبناني والمليشيات الشيعية التابعة لإيران؟.

تركيا بعد اتفاق خفض التصعيد الأخير في إدلب مع روسيا، أمّنت بسط سيطرتها على منطقة شمال غرب الفرات بكاملها تقريباً، وباتفاقها مع الولايات المتحدة حول منبج، وبعد طرد ميليشيا PYD من عفرين ضمنت عدم وجود تهديد كردي لأمنها القومي في تلك المنطقة، لكنها بقيت تتوعّد الميليشيات الكردية شرق الفرات بقرب اجتياحها ما لم تبتعد عن المناطق المحاذية للحدود التركية، ومن المتوقّع أن تصل الولايات المتحدة إلى تفاهم مع تركيا يضمن لها أمن حدودها، دون الحاجة إلى أي عمل عسكري ضد شركاء الولايات المتحدة الذين لا زالت تحتاجهم لقتال تنظيم الدولة.

أما إيران، فتتحدث الولايات المتحدة صراحة أنها لا تنوي أبداً الاشتباك العسكري معها في سوريا. معركة العقوبات الاقتصادية على أشدها بينهما، وإيران ليس لديها دافع للقتال ما دام جيفري لا يعمل على إزاحة الأسد من السلطة بل يطلب فقط "تغيير سلوكه تجاه شعبه".

إذن الجميع الآن يُثني على اتفاق وقف إطلاق النار في إدلب، ويطلب تمديده إلى أجل مفتوح، ويطلب توسيع نطاقه ليتحول إلى وقف إطلاق نار شامل على كامل مساحة البلاد.

كيف ستسير الأمور في المرحلة المقبلة؟

البداية من 28 تشرين ثاني/نوفمبر الجاري في جولة أستانا القادمة، سيتم التركيز على تثبيت وقف إطلاق النار وإزالة السقف الزمني المحدد له، وبذلك ستكون سوريا على الأرض قد تجزأت إلى ثلاثة مناطق نفوذ:

الأولى: جنوب ووسط وغرب البلاد بيد النظام وتحت نفوذ روسي إيراني مشترك.

الثانية: شمال غرب البلاد تحت النفوذ التركي.

الثالثة: شمال شرق البلاد تحت النفوذ الأمريكي.

في أستانا أيضاً قد تعطي روسيا الضوء الأخضر لانعقاد اللجنة الدستورية التي تم الاتفاق عليها في سوتشي ليتمكن المبعوث الخاص دي مستورا من توجيه الدعوات لها، وعقد أول جلسة وسط كانون أول/ ديسمبر القادم، وبها يختم مهمته حين يقدم تقريره نهاية العام لمجلس الأمن. هذا لو حدث لا يعني اقتراب حل سياسي في الأفق، تشكيل اللجنة الدستورية لا يعني إلا فتح عملية تفاوضية جديدة على غرار جنيف التي مضى على بدايتها ستة أعوام لم يتحقق فيها شيء يذكر.

وما لم يحدث ذلك فإن دي ميستورا سيغادر منصبه بعد أن "يترك أرضية واضحة ونظيفة لخلفه فيما يتعلق بها" حسب قوله، هل يعني هذا طي كل قرارات مجلس الأمن السابقة، والعودة إلى نقطة الصفر؟.. قد يكون ذلك.