السبت 2018/12/29

الحسابات الأمريكية الخاطئة في شمال شرق سوريا

تسليم المنطقة الشرقية لنظام الأسد، وعودة بسط سلطته عليها، وعودة نشر قواته على الحدود الجنوبية لتركيا، مع منح المليشيات الكردية التي تقاتل تنظيم الدولة فيها حكماً ذاتياً، لا يتعدى أن يكون لهم خلاله سوى صلاحية إدارة شؤونهم المحلية، بشيء يشبه تطبيق قانون الإدارة المحلية رقم 107!!

لا تختلف المواقف السياسية داخل الولايات المتحدة سواء أولئك المؤيدين لقرار ترامب سحب جنوده من سوريا، أو أولئك المعارضين له حول وجوب الوصول إلى هذه الصفقة، واعتبارها الحل الأمثل والمناسب لمستقبل سياسات الولايات المتحدة الاستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط خصوصاً، وفي باقي مناطق العالم التي تريد الولايات المتحدة المحافظة على نفوذها فيها عموماً.

ما هي الحسابات التي يبني عليها هؤلاء موقفهم؟

أولاً: عملية مكافحة الإرهاب:

بنت الولايات المتحدة قرار دخول قواتها إلى الأراضي السورية على مكافحة الإرهاب المتمثل بتنظيم الدولة، والذي اتخذ من مدينة الرقة عاصمة للخلافة، وهي بنت قرار خروج قواتها كذلك على نهاية الحرب على التنظيم، ولذلك فإن الفراغ الذي تتركه قد يتسبب بفوضى تسمح بعودة ظهور التنظيم، وهنا سيقع اللوم على ترامب في قرار سحب القوات الأمريكية المتسرّع، أو أنه سيضطر لإعادتهم إلى سوريا لمكافحة الإرهاب من جديد، وهو ما لا يريده ترامب قطعاً، إذن يجب أن توكل المهمة إلى أطراف أخرى تعمل على ذلك، الأمر الذي بدون قرارات دولية لا يمكن فعله إلا بقوات الدولة التي ينتشر التنظيم على أراضيها، أي قوات نظام الأسد، وبذلك تكون الولايات المتحدة قد رمت الكرة في ملعب النظام وحلفائه الروس والإيرانيين، ليتكبّدوا مشاقّ هذه العملية، وهم ما فتئوا جميعاً يعتبرون وجود القوات الأمريكية غير شرعي ويطالبون بخروجها.

الولايات المتحدة كانت قد أعلنت قبل سنوات أن مكافحة الإرهاب تكلف ما يزيد عن 500 مليار دولار، وترامب ليس من الصنف الذي يقبل تحمّل هذه التكاليف لوحده، ويرى أنه أنفق ما فيه الكفاية وعلى دول المنطقة بالذات تحمّل الباقي.

الحسابات الأمريكية الخاطئة هنا تصبّ في أن الولايات المتحدة بموقعها الجغرافي ما وراء البحار بمنأى عن خطر الإرهاب، وأنه يكفيها تحصين حدودها المباشرة، واتخاذ إجراءات من قبيل منع رعايا بعض الدول من دخول أراضيها، هذا الجزء فيه نوع من الصواب، لكن المصالح الأمريكية منتشرة في معظم دول العالم، وهي التي تؤمّن لها هذه المكانة المتقدمة دوليا، وهي حين تتخلى عن مساعدة دول العالم في مكافحة الإرهاب فإنها تعرّض مصالحها هذه للخطر، وبالتالي فهي تخاطر بمكانتها الدولية كدولة عظمى، أو كقطب وحيد الآن في العالم ليس لها منافس.

ثانياً: تحجيم نفوذ إيران:

السبب الثاني المعلن للتدخل الأمريكي شمال شرق سوريا هو تحجيم النفوذ الإيراني، وقطع الممر البري الواصل بين طهران وسواحل المتوسط، أي حليف طهران حزب الله اللبناني، وما يشكّله ذلك من تهديد لأمن إسرائيل.

حسابات الولايات المتحدة هنا أن تسليم المنطقة الشرقية للنظام هو الطريقة الوحيدة لإبعاد إيران عنها، وترى أنه مع عودة قوات النظام، وعودة مؤسسات الدولة لتقديم الخدمات العامة، وبدء عودة السكان الأصليين إلى مدنهم وقراهم التي فرّوا منها بسبب الحرب، سيتقلّص النفوذ الإيراني إن كان العسكري أو الإيديولوجي الذي ينشر التشيّع في المنطقة مستغلاً حاجة الناس لأبسط مقومات العيش، ومحاولا تغيير التركيبة الديموغرافية لكسب ولائها لنظام الملالي في طهران، وعندما يبسط النظام سيطرته هناك ستعود الأمور إلى ما كانت عليه سابقاً، في منطقة لم يكن فيها للتشيّع أو للوجود الإيراني أثر تعوّل عليه إيران، عدا عن بعض الحسينيات التي بنتها في دير الزور والمشاهد التي شيّدتها في الرقة، لكنها في النهاية بقيت منطقة سنّية، ويصعب على إيران كسبها بشكل من الأشكال.

الولايات المتحدة تقع هنا في الخطأ نفسه الذي وقعت فيه في العراق، هذا كله لن يحدث، إيران تغلغلت في بنية نظام الأسد، بل وتتحكم في مفاصل حساسة فيه أهمها الجيش والأمن والاقتصاد، ولا يمكن للنظام أن يقلّص أو يتخلّص من الأخطبوط الإيراني الذي يلتف حول عنقه، في النهاية سيكون الأمر شبيها بالحكومة العراقية التي تقع تحت سيطرة شبه مطلقة من نظام إيران وأتباعه في العراق.

ثالثاً: كسب تركيا، وكبح جماح دخولها شمال شرق سوريا:

صحيح أن قرار سحب القوات جاء إثر مكالمة هاتفية بين الرئيس التركي أردوغان مع نظيره الأمريكي، لكن التوقيت ليس مهماً أبداً، الانسحاب كان من وعود ترامب الانتخابية، تركيا تعتبر شمال شرق سوريا بؤرة لمنظمة إرهابية ثانية غير تنظيم الدولة، وأردوغان حين تعهد لترامب بالقضاء على الإرهاب في المنطقة كان يعني ميلشيات "ب ي د" الكردية الذراع السوري لحزب العمال الكردستاني، إلى جانب تنظيم الدولة، ولذا فإن

تسليم المنطقة للنظام سيرفع عن كاهل تركيا عبء التعهدات بالقضاء على تنظيم الدولة، كما إن السماح لقوات النظام بالانتشار على طول الحدود التركية الجنوبية سيزيل مخاوف تركيا من استمرار سيطرة المليشيات الكردية عليها، وما ينتج عنه من تهديد للأمن القومي التركي.

من جانب آخر ستكون الولايات المتحدة قد خطت خطوة كبيرة في استعادة الثقة مع تركيا حليفها التقليدي وعضو الناتو، وتقليل احتمالات انتقال هذا التحالف إلى الجانب الروسي، وبالطبع ستكون قضية التنازل التركي عن صفقة صواريخ S400 الروسية حاضرة فيما لو تم التفاهم على هذا السيناريو.

الولايات المتحدة تسقط من حساباتها هنا بالكامل القبائل العربية، وتفترض أنها ستستكين وتقبل بعودة النظام، لم يحدث ذلك في العراق، انقلبت العشائر العربية في الأنبار على الحكم الطائفي الذي أمعن في الانتقام منها، وهو ما سيحدث في سوريا، بالأمس انتقم النظام من أهالي الجنوب وهو سيفعل ذلك في المنطقة الشرقية، وستبدأ العشائر العربية بثورة جديدة ضد النظام الطائفي الذي سيبقى رهينة للنفوذ الشيعي الإيراني كما سلف في الفقرة السابقة.

رابعاً: منح الحكم الذاتي للأكراد:

قرار الانسحاب ليس موضوع أزمة ثقة مع المليشيات الكردية، لطالما تخّلت الولايات المتحدة عن المرتزقة الذين تستخدمهم في حروبها للتقليل من الخسائر في صفوف جنودها، بدأ هذه منذ أيام حرب فيتنام، إلى أفغانستان، إلى العراق، إلى سوريا، وأماكن أخرى كثيرة في العالم، لكن الخشية بدأت تطال دولاً اعتبرت نفسها تاريخياً من حلفاء الولايات المتحدة، أو من شركائها، وأن الولايات المتحدة ستدافع عنهم بشكل مؤكد حال وقوعهم في أزمات، أو حصول تهديدات عسكرية لأنظمتهم، يقف على رأس هؤلاء في المنطقة بعض دول الخليج مثل السعودية والإمارات والبحرين، الذين يشعرون بقلق فعلي من سياسة ترامب هذه، فالخطر الإيراني يعدّ تهديداً وجودياً لهذه الأنظمة، عدا عن احتمالات أزمة داخلية في السعودية في سياق الاحتجاجات على تصرفات ولي العهد، وخصوصا مع تصريحات ترامب في أن هذه الأنظمة لولا الحماية الأمريكية لما استطاعت البقاء إلى اليوم على كراسيّها.

ولذا يقول هؤلاء إن حفاظ الولايات المتحدة على دعم المليشيات الكردية، وعدم التخلّي عنهم، والإصرار على منحهم حكماً ذاتياً، سيرسل رسائل اطمئنان إلى الحلفاء الخليجيين في استمرار التحالف الأمريكي معهم، ويقطع الطريق على امتداد النفوذ الروسي لهذه المنطقة، وتقديم بوتين نفسه لهم كحليف موثوق به يمكن أن يدافع عنهم حتى النهاية كما فعل مع نظام الأسد في دمشق.

الخطأ الأمريكي الفادح هنا، أنه حتى لو رضيت تركيا بمثل هذا الحكم الذاتي المحدود للأكراد بجوارها، باعتبار انتفاء مخاطر التهديد الأمني لها، إلا أن الولايات المتحدة تسقط من حساباتها أيضاً أن القبائل العربية تعتبر الأكراد مثل النظام تقريباً، وقد عانوا من انتهاكات واسعة بحقهم على يد هذه المليشيات الكردية من تهجير قسري وهدم وتجريف قرى بأكملها، وحرق منازل ومحاصيل وسلب ممتلكات، جرائم عديدة وثّقتها منظمة العفو الدولية في تقاريرها، وبالتالي سيواجه هذا الحكم المحلي الكردي رفضاً كبيراً من السكان العرب الذين يشكّلون حقيقة أغلبية سكان هذه المناطق وليس كما يدّعي الأكراد أنهم الأغلبية فيها، وستكون النتيجة حرباً أهلية طاحنة وليس حكماً ذاتياً مستقراً.

هذه هي الحسابات الأمريكية وهي بلا شك ليست الطريق الصحيح للحل النهائي والسلام المستدام، وستبقى قضايا عالقة كثيرة، لعلّ على رأسها: هل سيعود ملايين اللاجئين السوريين في الخارج بمثل هذا السيناريو بوجود نظام الأسد؟