الأثنين 2018/10/22

واشنطن بوست: أسطورة الدكتاتور الحداثي


بقلم: روبرت كاغن

المصدر: واشنطن بوست

ترجمة: مركز الجسر للدراسات


تولّد فكرة الحاكم المستبد المصلح، الكثير من الانبهار في صفوف العديد من الأميركيين، فكرة الرجل القوي الذي يمكنه "تحديث" وقيادة بلاده نحو التقدم بعيدا عن الماضي.

مَثّل "محمد بن سلمان" هذا الأمل.. أمل بدأ في التلاشي إثر عملية الاغتيال التي أمر بها في حق الصحفي والكاتب في قسم الآراء العالمية بصحيفة "واشنطن بوست" جمال خاشقجي في تركيا.

اعتبر الأمريكيون، الذين تعاطفوا مع محمد بن سلمان، أنه رمز للتغيير من خلال سعيه إلى إصلاح اقتصاد البلاد الذي يعتمد على النفط والتوفيق بين الإسلام والحداثة. فإذا كان ذلك يتطلب فرض حكم ديكتاتوري أكبر، ويستلزم ليس فقط سجن زملائه في العائلة المالكة ولكن أيضا نشطاء في مجال حقوق المرأة، والشخصيات الدينية المعتدلة وحتى الاقتصاديين الشباب الذين يشككون في برنامجه لـ"رؤية السعودي 2030"، فليكن ذلك.

وحدها "ثورة من الأعلى " قادرة على إصلاح مجتمع تقليدي ومتزمت كالسعودية. وكما يعلم الجميع أن صنع العجة يتطلب كسر البيض أولاً.

مسألة بن سلمان ليس بالأمر الجديد. ففي الفترة ما بين 1920 و1930، نظر العديد من الأمريكيين إلى كل من بينيتو موسوليني وجوزيف ستالين وحتى أدولف هتلر على أنهم كل ما قد تحتاجه بلدانهم لتصبح قوية. وخلال الحرب الباردة، مثّل كل من فرديناند ماركوس الفيليبيني، ومحمد رضا بهلوي في إيران، وبارك تشونغ هي زعيم كوريا الجنوبية آنذاك، وأوغستو بينوشيه في تشيلي، الدكتاتوريات المفضلة لدى الولايات المتحدة "لتحديث" تلك البلدان. في حين اكتسبت الديكتاتورية الصينية إعجاب العديد من الأمريكيين بتعاملها السلس مع اقتصاد البلاد خلال حقبة ما بعد الحرب الباردة.

ولتبرير كل هذا التعاطف مع الدكتاتور كانت هناك أوجه تباين حيال ما سمي بـ "نظرية التحديث". كان على المجتمعات النامية، كما جاء في التعليل، أن تمر عبر مرحلة استبدادية قبل أن تصبح ديمقراطيات، وذلك لأسباب اقتصادية وسياسية. ولا يمكن الوثوق سوى بالحكومات الاستبدادية في اتخاذ القرارات الاقتصادية الصحيحة، حيث لا تتأثر هذه الأخيرة بالضغوط الشعبية الناجمة عن التضخم وزيادة حجم الإنفاق.

وعلاوة على ذلك، يزعم هذا التفسير أن المجتمعات غير الغربية تفتقر إلى العديد من العناصر الأساسية اللازمة للحفاظ على الديمقراطية، سيادة القانون، وجود مؤسسات سياسية مستقرة، وجود طبقة وسطى، ومجتمع مدني فعال. إن فرض الديمقراطية على هذه المجتمعات قبل الأوان من شأنه أي يؤدي إلى "ديمقراطية غير ليبرالية" ويؤدي إلى ظهور التطرف.

إن دور "المستبد الإصلاحي" هو إعداد هذه المجتمعات للانتقال إلى الديمقراطية في نهاية المطاف من خلال إرساء أسس الليبرالية.

خلال سنة 1960، قال العالم السياسي، صموئيل ب. هنتنغتون، بأن ما تحتاجه المجتمعات الحديثة هو النظام وليس الحرية. وفي أواخر السبعينات، استندت جان كيرك باتريك إلى هذا القول من أجل الدفاع عن دعمها للدكتاتوريات اليمينية "الصديقة"، والنظرية التي يتبنونها، والتي ستؤدي إلى الديموقراطية في نهاية المطاف، في حال دعمت الولايات المتحدة هذه الدكتاتوريات ضد خصومها، مؤكدة أن عدم تقديم الدعم سيفسح المجال أمام الحكومات الشيوعية الراديكالية للظهور.

من اللافت للنظر قوة هذه الحجج، على الرغم من معظمها هراء. لقد فهمت كيرك باتريك الأمر بشكل عكسي تماما. الحكومات الشيوعية هي التي قامت بإصلاحات أدت إلى تفككها وبالتالي تحولها إلى حكومات ديمقراطية، بغض النظر عن ضعفها. في حين ظل الاستبداد قائما في الشرق الأوسط وأماكن أخرى من العالم، ما عدا البلدان التي قامت الولايات المتحدة بسحب دعمها منها، كما هو الحال في الفلبين وكوريا الجنوبية وتشيلي، والتي أصبحت الأنظمة فيها أنظمة ديمقراطية.

هذا بالإضافة إلى أن الديكتاتوريات لاتحسّن مستوى النمو الاقتصادي وهو أمر مثبت على أرض الواقع. ولا يمكن ربط النمو الاقتصادي بالديمقراطية في كل الأحوال. فلقد اعتقدنا لأكثر من ربع قرن بأن النمو الاقتصادي الصيني، الذي أوجد طبقة وسطى كبيرة، سيؤدي حتمًا إلى مزيد من الانفتاح السياسي، ومع ذلك، فقد حصل عكس ما كان متوقّعاً، في الوقت الذي يقوم فيه الزعيم الصيني، شي جين بينغ، بالاستحواذ على كل السلط، تحاول الحكومة التوصل إلى طرق أكثر شمولية للسيطرة على الحياة السياسية والاجتماعية.

أما بالنسبة إلى "المستبد الداعي للتحرر"، فقد تبيّن أنه مخلوق نادر بالفعل. لا يرغب المستبدون، كما هو معروف، في وضع أسس زوالهم. فلا يسمحون بإنشاء المؤسسات السياسية المستقلة، كما لا يعززون سيادة القانون، ولا يسمحون بوجود مجتمع مدني فعال ومنتج، لأن ذلك من شأنه أن يهدد سلطتهم. وبدلا من ذلك، يسعون إلى تدمير المؤسسات والقوى المعارضة التي قد تشكل في يوم من الأيام تحديا لحكمهم الديكتاتوري. لماذا نتوقع خلاف ذلك؟

ومع ذلك، فإننا نتوقع عكس ذلك وذلك لأسباب عديدة. فالبعض عنصري بكل بساطة. مثل العديد من الإمبرياليين في القرن التاسع عشر، فإننا نفترض فقط أن بعض الناس ليسوا مستعدين للديمقراطية، أو أن تقاليدهم الدينية أو التاريخية تجعلهم غير مستعدين للعيش داخل نظام ديموقراطي. بالإضافة إلى عدم رضانا عن الفوضى التي أنتجتها ديمقراطيتنا. هناك توق شديد للرجل القوي الذي يستطيع أن يتفادى كل الهراء السياسي وأن يقوم بإنجاز ما يتوجب عليه، توق يستغله الرئيس ترامب اليوم بشكل جيد.

هذا بالإضافة إلى خوفنا مما قد تؤول إليه الديمقراطية في البلدان الأخرى. خلال الحرب الباردة، كانت هناك مطالب بتحقيق المزيد من العدالة الاقتصادية والاجتماعية على حساب الاستثمارات الأمريكية.  أما اليوم، فإن هناك مطالب بجعل المجتمع والنظام سياسي أكثر انسجاما مع التعاليم الإسلامية. إننا نخشى من اختيارات الناس في حال خُيّروا، لذلك نحن نفضل "الثورة من الأعلى".

وبطبيعة الحال، هناك مصالحنا الاستراتيجية، حينها كنا نسعى إلى تشكيل تحالفات والحصول على حلفاء ضد الاتحاد السوفياتي. أما اليوم، فإننا نسعى إلى تشكيل حلفاء ضد إيران. إلا أن ما اكتشفناه خلال الحرب الباردة، سنكتشفه مرة أخرى على الأغلب، وهو أن هؤلاء الحلفاء المفترضين ليسوا مثلما أردنا. قد تؤدي أساليبهم في التعامل مع خصومهم إلى خلق معارضة أكثر راديكالية وتطرفا وعندها تصبح مسألة حدوث ثورة أمرا محتملا وليس العكس.

قد نصل في نهاية المطاف إلى النتيجة التي كنا نأمل تجنُّبها في كل من مصر والسعودية، وتصبح بذلك الأسلحة التي بعناهم إياها في أيدي المتطرفين الذين كان من المفترض محاربتهم بها.

يتساءل اليوم أنصار ولي العهد السعودي في الولايات المتحدة، كيف يمكن أن يكون بهذا الغباء في حال ثبت تورطه بمقتل خاشقجي. لكن من هم الحمقى الحقيقيون هنا؟   إننا نعيش اليوم في فلسفة تخدم مصالحنا الخاصة، لتنقلب علينا فيما بعد.