الخميس 2018/11/15

نيويورك تايمز: السعودية تسيء استخدام مكة

بقلم: خالد أبو الفضل

المصدر: نيويورك تايمز

ترجمة: مركز الجسر للدراسات


في أعقاب مقتل جمال خاشقجي، استغلت السعودية منصة المسجد الحرام في مكة باستخدام أئمتها للإشادة والتقديس والدفاع عن الحُكّام وأفعالهم.

يستمد حكام السعودية جزءاً كبيراً من شرعيتهم وهيبتهم في العالم الإسلامي من خلال وصايتهم وخدمتهم للمسجد الحرام والكعبة المشرفة في مكة المكرمة والمسجد النبوي في المدينة المنورة. ويحمل الملك سلمان، كغيره من الحكام الذين تعاقبوا على الحكم، لقب "خادم الحرمين الشريفين".

على الرغم من أن اللقب الملكي ينمّ عن تواضع حامليه، إلا أن للعائلة المالكة تاريخاً طويلاً في استغلال منبر المسجد الحرام بمكة، وتسخير أئمتها للإشادة والتقديس والدفاع عن الحكام وأفعالهم.

في أعقاب مقتل الصحفي جمال خاشقجي، وفي الوقت الذي كانت فيه أصابع العالم توجه الاتهام لمحمد بن سلمان، استغلت العائلة المالكة في السعودية مرة أخرى المسجد الحرام للدفاع عن ولي العهد وتقديسه بطريقة تجعل الوصاية على مكة والمدينة مسيئة بصورة لم يسبق لها مثيل.

في 19 من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، ألقى الشيخ عبد الرحمن السُّدَيس، إمام المسجد الحرام وأعلى سلطة دينية في المملكة، خطبة الجمعة من نص مكتوب. تبث خطب الجمعة في المسجد الحرام بشكل مباشر على الشبكات التلفزيونية ومواقع التواصل الاجتماعي، ويتابعها ملايين المسلمين بقدر كبير من الاهتمام لما لها من أهمية أخلاقية ودينية كبيرة.

ألقى الإمام السديس خطبة مثيرة للقلق، منتهكاً بذلك قدسية المكانة التي يتبوؤها. وأشار إلى أحد الأحاديث النبوية القائل بـ "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها" موضحا أن مهمة المجدد تتجلى في التصدي للتحديات الفريدة لكل عصر.

شرع بعدها في تمجيد محمد بن سلمان واعتباره مِنّة إلهية للمسلمين، وألمح إلى أن ولي العهد هو المجدد الذي أرسله الله لإحياء العقيدة الإسلامية في عصرنا هذا، وقال في الخطبة "وإن مسيرة التجديد في هذه الأرض المباركة برعاية من ولاة أمرها الميامين، وحرصٍ واهتمامٍ من الشاب الطموح المُحدَّث المُلهَم، ولي عهد هذه البلاد المحروسة، ماضية في رؤيته التجديدية الصائبة ونظرته التحديثية الثاقبة رغم التهديدات والضغوطات...".

واستنادا إلى الجدل الذي أعقب اغتيال خاشقجي، حذّر السديس المسلمين من تصديق شائعات وتلميحات "وسائل الإعلام المُغرضة" والتي تهدف إلى التشكيك في "القائد المسلم العظيم". واصفا المؤامرات ضد ولي العهد بأنها تهدف إلى "تدمير الإسلام والمسلمين"، ومحذرا من إن "أي محاولات للتهديد وإجهاض التجديد محاولات يائسة، وستنعكس سلبا على الأمن والسلام والاستقرار العالمي".

ونبه إلى أن الهجمات ضد "هذه الأرض المباركة" هي استفزاز لمشاعر أكثر من مليار مسلم. استخدم الإمام السديس كلمة "المُحدَّثِ" و "المُلهَم" لوصف محمد بن سلمان. لقَّب الرسول محمد عمر بن الخطاب، أحد صحابته والخليفة الثاني للإسلام، "بالمُحدَّث" وبذلك فقد قارن الإمام السديس ضمنياً ولي العهد بالخليفة عمر.

قام السديس بالدعاء لمحمد بن سلمان ضد "المؤامرات الدولية" التي تحاك ضده من قبل أعداء الإسلام والمنافقين، وخلص إلى أنه من واجب المسلمين كافة أن يدعموا ويطيعوا "حماة حمى الدين، الملك وولي العهد الأمين".

لم يسبق لرجال الدين في السعودية أن استغلوا منبر الرسول محمد في المسجد الحرام لخدمة العائلة المالكة بهذه الوقاحة. كما لم يقم أي إمام من أئمة المسجد الحرام السابقين بوصف أي حاكم سعودي بالمجدِّد أو تجرَّأ على الإيحاء أو التلميح إلى ذلك من قبل.

تتم قراءة الخطب في مكة المكرمة والمدينة المنورة من نص أُعِدّ وتمت الموافقة عليه مسبقاً من قِبل قوات الأمن السعودية. ففي الوقت الذي يعيِّن فيه الملك إماما للمسجد الحرام والمسجد النبوي في المدينة المنورة، فإن لكل إمام عددا من النوّاب الذين يتم تعيينهم للتناوب خلال فترات الصلوات المفروضة وإلقاء الخطب.

لعقود من الزمان، كانت الخطب التي تلقى في مكة المكرمة والمدينة المنورة دوغماتية ومتوقّعة. فقد كانت دائما ما تنتهي بالدعاء لأفراد العائلة المالكة، لكن الأئمة لم يُسندوا صفاتٍ مقدّسة للنظام الملكي، وأصرّوا على أن طاعة الحاكم مشروطة بطاعته لله ولا تتعدى هذا الحد.

لقد تغير الكثير منذ صعود محمد بن سلمان إلى السلطة، فقد سجن المئات من الأئمة السعوديين البارزين الذين أبدوا قدراً قليلاً من المعارضة - بمن فيهم فقهاء بارزون ومؤثرون مثل الشيخ صالح الطالب والشيخ بندر بن عزيز بليلة، وهم أئمة سابقون للمسجد الحرام. حاول المُدّعون السعوديون إلى فرض عقوبة الإعدام على سلمان العودة، وهو رجل دين بارز إصلاحي اعتقل في أيلول/ سبتمبر الماضي. وتزعُم بعض التقارير أن رجل دين بارزاً آخر، هو الشيخ سليمان الدويش، الذي اعتقل في نيسان / أبريل 2016، قد توفي في أحد السجون في السعودية على إثر تعرضه للتعذيب.

يبدو أن الأئمة الوحيدين الذين يُسمح لهم بأداء شعائر الصلوات وإلقاء الخطب في المسجد الحرام في مكة المكرمة والمسجد النبوي في المدينة المنورة هم أولئك الذين وافقوا على مجاراة ولي العهد. ذهب بعض العلماء السعوديين المؤثرين، كالشيخ عبد العزيز الريس، إلى حد قول إنه  ولو" كان الحاكم يزني على الهواء مباشرة على شاشة التلفزيون لمدة نصف ساعة كل يوم، فالمطلوب منك أن تؤلف الناس حوله، ولا تألّبهم عليه".

وضعت خطبة الإمام السديس الأخيرة المسلمين في منعطف محوري: إما قبول ادعاء أن ولي العهد مصلح للإسلام ومُلهَم والإيمان بذلك وتقبّل أقواله وأفعاله، أو أن تصبح عدواً للإسلام. عبّر علماء المسلمين عن غضبهم وازدرائهم للخطبة عبر وسائل التواصل. كما أدانت وسخرت العديد من البرامج الكوميدية والبرامج الحوارية على موقع "يوتيوب" من هذه الخطبة.

عندما يطلب إمام المسجد الحرام من المسلمين طاعة وتصديق رواية محمد بن سلمان المريبة حول قتل السيد خاشقجي؛ وقبول اختطافه وسجنه وتعذيبه للمنشقين، بما في ذلك سجن عدد من علماء الإسلام الموقّرين؛ وتجاهل حربه الوحشية والقاسية ضد اليمن، وتقويضه لأحلام الديمقراطية في العالم العربي، ودعمه للديكتاتورية القمعية في مصر، فإن هذا كله يجعل من المستحيل القبول بوصف الإمام لولي العهد بـ"المصلِح المُلهَم". إن ما يحدث لا يعدو أن يكون تدنيسا وانتهاكا لحرمة منبر الرسول في مكة.

وصاية المؤسسة الدينية والملَكية على كل من مكة والمدينة، مكّنت هؤلاء من الاستفادة من أموال النفط وتسخيرها لنشر تفسيراتهم الحرفية والصارمة للإسلام خارج حدود السعودية. يفضّل معظم المسلمين نهجا أكثر تساميا وتناغما مع الأخلاق السمحة للإسلام بعيدا عن النهج الذي يسوّق له محمد بن سلمان وحاشيته من رجال الدين المُذعِنين.

من خلال استخدام المسجد الحرام لتبرير الاستبداد والاضطهاد، وضع محمد بن سلمان أحقية السعودية في الوصاية على الأماكن المقدسة، في كل من مكة والمدينة، موضع شك.