الجمعة 2019/01/04

معادلة السنوات الثماني الماضية في سوريا

مضى قرابة ثماني سنوات على بدء الثورة السورية، فرض فيها المجتمع الدولي على السوريين معادلة واحدة:

الأسد أو الإرهاب

قاد الغرب هذه المعادلة لتسويقها على الشعب السوري بمختلف مكوناته: أنّ بقاء الأسد في السلطة، أفضل من حدوث فراغ يملؤه تنظيمات إرهابية يمكن أن تصل للسلطة بديلاً عن الأسد، لا شك أن الغرب في هذه المعادلة كان قد وضع مصالحه وأمن بلاده قبل وفوق مصالح السوريين الذين كانوا يعانون من إرهاب الدولة أضعاف ما كان الغرب يخشاه من الإرهاب الذي يحتمل أن يأتيه إلى عقر داره، الإرهاب الذي مارسه النظام أودى بحياة مئات الآلاف، ومثلهم من المعتقلين والمختفين قسرياً، إضافة إلى ملايين اللاجئين والنازحين، إرهاب حقيقي وقع على أكثر من نصف سكان البلاد.

بعد ثماني سنوات من فوبيا الإرهاب الإسلامي القادم من سوريا إلى أوروبا تشير الدراسات إلى أن الهجمات الإرهابية التي ضربت أوروبا هي ضمن حدود الجريمة المعتادة التي لا تحتاج إلى إجراءات أمنية مضاعفة أو استثنائية للتعامل معها.

على الطرف الآخر من هذه المعادلة كان يتربّع النظام وحلفاؤه، فالنظام بدأ بترويجها مبكراً جداً، بل من الأيام الأولى للاحتجاجات السلمية، وبحجة وجود إرهابيين بين صفوف المتظاهرين السلميين أنزل أجهزته الأمنية، وجيشه النظامي ليمعن في القتل والاعتقال والتعذيب وجرائم الاغتصاب التي كانت إحدى أسوأ الظواهر التي تسببت بفرار كثير من السوريين خارج البلاد.

لننظر كيف تصرّف طرفا هذه المعادلة خلال السنوات الثماني الماضية!

الولايات المتحدة التي قادت تحالفاً ضم الأوربيين وبعض العرب لشنّ حملة لمكافحة الإرهاب عبر ضربات جوية، ما لبثت أن أتبعتها بإرسال قوات برية، وأنشأت قواعد عسكرية على مساحات واسعة، لكن هذا التحالف كان يعلن دائماً أنه تدخّل حصرياً لمكافحة الإرهاب، بما يعني عملياً أنه تدخّل إلى جانب الأسد لقتال أعدائه المصنفين على قوائم الإرهاب في الأمم المتحدة مثل تنظيم الدولة وجبهة النصرة والمجموعات المرتبطة بها.

حلفاء الأسد لهم تصنيف آخر للإرهاب يشمل جميع الفصائل المسلحة، وعلى هذا الأساس دخل الجيش الروسي وبنى قواعد عسكرية لقواته، ودخل الحرس الثوري الإيراني، وحزب الله اللبناني إضافة لعشرات مجموعات الميليشيات الشيعية الطائفية، والمرتزقة الروس والشيشان، هؤلاء جميعاً أيضاً كانوا يقاتلون أعداء الأسد السعيد بهذه الخدمات التي تقدم له تحت ذريعة مكافحة الإرهاب.

الأنكى من ذلك أن التنظيمات الموسومة بالإرهاب على لوائح الأمم المتحدة هي كذلك لم يكن الأسد عدوها الأول، بل كانت الفصائل التابعة للجيش الحر هي عدوها الأول، وركزت جلّ عملياتها على طرد الجيش الحر من الأراضي التي حررها من أيدي جيش النظام، وقامت بالاستيلاء عليها، لكنها تركت الكثير منها لاحقاً، ليتم تسليمها للنظام من جديد، الأدهى من هذا كله كان الاقتتال الداخلي الذي حصل بين الفصائل نفسها مثل الاقتتال بين جيش الإسلام، وفيلق الرحمن في الغوطة الشرقية، وهو أمر تكرر في معظم المناطق الأخرى وكان سبباً في سقوط بعضها، لكن ما يهمنا هنا أن ذلك كان بمثابة قتال إلى جانب قوات الأسد ضد أعدائه.

ليس ذلك فقط بل إن الولايات المتحدة عندما أطلقت برنامج التسليح والتدريب للجيش الحر، كان شرطها الرئيسي أن تكافح الإرهاب فقط، وألا تقاتل جيش الأسد، أو تتعرض له بحال من الأحوال، وسرت هذه الشروط إلى الغرف العسكرية التي أنشئت لدعم الجيش الحر، إلى أن أوقف برنامج التسليح والتدريب، وأغلقت الغرف العسكرية بسبب عدم التزام الجيش الحر بهذه الشروط، ومطالبته بالسماح له بقتال النظام إلى جانب مكافحة الإرهاب، وهو الأمر الذي لم تستجب له الولايات المتحدة وشركاؤها. كان هذا أيضاً من الخدمات التي كانت تقدمها الدول للنظام في أن مكافحة الإرهاب مقدمة على إزاحة الأسد من السلطة، لا بل تطور الأمر ليصبح الأسد شريكا للمجتمع الدولي في مكافحة الإرهاب وعادت الدول للتنسيق معه على مستوى أجهزة الاستخبارات، وصار تبادل الزيارات بين رجال استخبارات النظام ونظرائهم من الدول الأخرى أمراً شائعاً.

الآن وبعد ثماني سنوات من معادلة الأسد أو الإرهاب يعلن رئيس الولايات المتحدة نهاية مكافحة الإرهاب، وبدء سحب قواته من سوريا، لكن يأتي ذلك متزامناً مع ظهور المعادلة الثانية التي أوكل ترامب تنفيذها لدول المنطقة، وخاصة دول الخليج العربي "فاحشة الثراء" على حد تعبيره.

الأسد أو إيران

بدأت الآن هذه المعادلة الجديدة التي قد تطول إلى أكثر من ثماني سنوات بكثير، الفوارق ضخمة جداً بين إيران كدولة وبين تنظيمات مسلحة فقدت الكثير من تماسكها وقوتها وعدد عناصرها، كما فقدت مساحات واسعة كانت تسيطر عليها في العراق وسوريا، وانحصرت في جيبين صغيرين في إدلب، وعلى الحدود العراقية على ضفاف نهر الفرات.

سيرافق إطلاق المعادلة الثانية كمٌّ كبير من التجييش الإعلامي ضد إيران وخطورة مشروعها الديني الإيديولوجي التوسعي وقضية تصدير ثورة الخميني ونشر المذهب الشيعي ومحاولات التغيير الديموغرافي، وقرب هيمنة نظام الملالي في طهران على رابع عاصمة عربية بعد بغداد وبيروت وصنعاء، ودورها التخريبي في إثارة القلاقل في دول الخليج العربي مثل السعودية والبحرين، وتحريك الأقليات الشيعية فيها ضد حكوماتها، وهناك المشروع النووي الإيراني المهدد للسلم العالمي، ووصول إيران عبر الممر البري إلى حدود إسرائيل، وشحنات الأسلحة المتكررة إلى حزب الله اللبناني، وأخيرا قضايا كبت الحريات والديمقراطية وانتهاكات حقوق الإنسان داخل إيران، كل هذا صحيح بلا شك، لكن ما علاقة ذلك ببقاء الأسد في السلطة، وهل يريد العالم حل كل مشاكله مع إيران على حساب الملف السوري، وهل يمكن ذلك؟

تشير بعض التقارير إلى أن "موسكو نجحت في إقناع دول مثل الإمارات العربية المتحدة بالمنطق القائل بأن نظاماً قوياً في دمشق سوف يصبح أقل اعتماداً على إيران وبالتالي أقل ارتباطاً به. وسوف يختار النظام بشكل طبيعي استعادة استقلاله كما كان قبل عام 2011 إذا تم تمكينه".

بدأت الإمارات في عام 2016 بقيادة مسار تطبيع العلاقات مع دمشق كجزء من خطة لإبعاد الأسد عن إيران. لكن إدارة ترامب كان لها رأي آخر، ووضعت استراتيجية عسكرية لتحجيم نفوذ إيران، ولكن مع قرار ترامب الأخير سحب قواته من سوريا طرحت الإمارات من جديد فكرة إعادة العلاقات مع الأسد، وجرِّ السعودية والبحرين لتحذو حذوها.

الذي يدفع الإمارات وهذا المحور العربي الذي يضم مصر إلى الدول الخليجية الثلاث باتجاه إعادة تأهيل الأسد عدة قضايا يقف على رأسها ما يسمى الثورة المضادة للربيع العربي التي انقلبت عليه في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن، وإعادة.

النظام العربي إلى ما كان عليه قبل هذه الأحداث، حيث ربط هذا المحور ثورات الربيع العربي بالإسلام السياسي المتمثل بجماعة الإخوان المسلمين، واختزلوا مطالب الشعوب العربية بالحرية والديمقراطية والتنمية الحقيقية بمحاولة استيلاء جماعة الإخوان المسلمين على السلطة.

الدافع الثاني هو الانقسام الخليجي الذي حدث، وتسبب بفرض الحصار على قطر، ثم ظهر تشكيل المحور القطري التركي مقابل المحور الأول الذي رفع من درجة توتر السعودية بالذات في موضوع زعامة العالم السني الذي بدأت الكفّة تميل فيه لصالح الزعيم التركي "رجب طيب أردوغان" الذي بدا مدافعاً بشكل أكبر عن قضايا العالم الإسلامي وخصوصا السنّي في المحافل الدولية مقارنة بأداء الملك السعودي لا سيما بعد استلام ولي العهد محمد بن سلمان لمقاليد الحكم فعلياً، وارتكابه العديد من الأخطاء السياسية، وتغييره لطابع الحكم الديني في المملكة، لذا يعمل المحور الخليجي على تقليص الدور التركي في سوريا ما أمكن، كجزء من خطة أوسع لتحجيم النفوذ التركي في المنطقة العربية والشرق أوسطية.

الدافع الثالث هو إيران، ومع أن الخلاف مع إيران يكاد يكون بسبب الحوثيين في اليمن بالنسبة للسعوديين والإماراتيين المتورطين في الحرب هناك، إلا أن هذا الخلاف سيتصدر المشهد في سوريا، ليكون هو الوسيلة والرافعة لتنفيذ الخطتين السابقتين.

كيف سيتم العمل في السنوات القادمة؟

سيتم العمل عبر ثلاث طرق رئيسية:

الأولى: الشق السياسي والدبلوماسي حيث ستعمل هذه الدول على إعادة نظام الأسد إلى جامعة الدول العربية، وفك العزلة العربية عنه أولاً، تمهيداً لإعادة تأهيله وفك العزلة الدولية عنه ثانياً، إعادة فتح السفارات كانت الخطوة الأولى التي سيتبعها عدد من الدول العربية، هذا الطريق الذي تظنه الإمارات قصيراً، يمكن أن يكون ذلك عربياً فقط بوسائل معروفة تتبعها الدول الخليجية النفطية لكسب التصويت داخل الجامعة العربية، لكنه لن يكون كذلك دولياً، وخصوصاً في الاتحاد الأوربي، فمن المتوقع أن يمر عبر مسارات بطيئة ومشروطة بإحداث تغييرات في سلوك النظام السوري بحيث يمكن عبرها على الأقل إقناع اللاجئين السوريين في أوربا بالعودة الطوعية إلى بلادهم

الثانية: الشق الاقتصادي عبر إعادة توجيه الأموال للنظام السوري كمساعدات إنسانية أولاً يتبعها رفع العقوبات الاقتصادية عنه، وبدء مشاريع إعادة الإعمار، سيكون هذا كله تحت عنوان تقوية اقتصاد النظام السوري ليصبح أقل اعتماداً على إيران كما سبق، ويسير باتجاه فك الارتباط معها والعودة إلى "الحضن العربي".

الثالثة: الشق العسكري، وهو الاحتمال الأقل في العمل عليه، وقد يقتصر على إرسال قوات رمزية عربية بالاتفاق مع النظام السوري إلى المناطق التي تنتشر فيها ميليشيات ب ي د الكردية، وبالتالي سحب ذريعة وجود القوات التركية على الأراضي السورية، والمطالبة بانسحابها بشكل كامل إلى ما وراء الحدود، وبالطبع ستساهم روسيا مساهمة كبيرة في هذا الأمر، فدخول تركيا كان عبر تفاهمات واتفاق مسار أستانا بين الدول الضامن الثلاث، وبالتالي ستعمل روسيا على إنهاء هذا الاتفاق لأسباب عديدة أهمها عدم وفاء تركيا بالتزاماتها في تفكيك جبهة النصرة في إدلب. وقد تكون بعض الدول بدأت بتحريك جبهة النصرة ضد فصائل الجيش الحر في دارة عزة وريف حلب الغربي عموماً لوضع تركيا تحت هذا الضغط واعترافها بعدم قدرتها على معالجة ملف التنظيمات المتطرفة في آخر منطقة خفض تصعيد بقيت من مسار أستانا بعدما استعاد النظام السيطرة على المناطق الثلاث الأخرى في وقت سابق من العام المنصرم، وهو ما يعني في النهاية عودة سيطرة.

النظام على كامل الشريط الحدودي مع تركيا، وافتراض هذه الدول أن تركيا ستقبل بذلك ما دام يضمن لها أمنها القومي، ويبعد نشوء كانتون أو دويلة كردية شمال سوريا.

إذن معادلة الأسد أو إيران قد تمتد إلى فترة أطول مما احتاجته معادلة الأسد أو الإرهاب، وهي ستأتي بنتائج ليست أفضل منها، فإيران من الصعب على النظام فك ارتباطه بها، فهي تغلغلت في بنيته العميقة، بل يُتصوّر أن تكون إيران المستفيد الأول من هذ الانعطاف العربي، وسيكون بمقدورها استخدام الأموال الخليجية لتعويض نفقاتها وخسائرها في سوريا، كما ستكون هي المستفيد الرئيسي من إضعاف الدور التركي حيث ستخلو لها الساحة تقريباً، وخصوصاً بعدم وجود مشاريع عربية حقيقية تستطيع إخراج المشروع الإيراني من المنطقة.

قد تنتهي هذه المعادلة كما انتهت سابقتها بإعلان "القضاء على إيران"  لا أكثر، مثلما أعلن ترامب "القضاء على الإرهاب"، وتدخل البلاد في المعادلة الثالثة بين الأسد وعدو جديد مفترض يهدد السلام العالمي، إلى أن يأتي دور المعادلة الوحيدة الصحيحة التي يرضى بها الشعب السوري: الأسد أو سوريا.