الأثنين 2018/03/26

ماذا تخبّئ الولايات المتحدة لدير الزور؟

في الأسبوع الماضي عاد "تنظيم الدولة" للظهور من جديد في ريف دير الزور. نوع من الغموض يلفّ الوضع في "المحطة الثانية" حيث هاجم التنظيم حامية النظام المتمركزة فيها، للاستيلاء على هذا الموقع النفطي، كما إن التنظيم بين كرٍّ وفرٍّ مع المليشيات الكردية قرب ضفاف النهر على امتداد الريف الشرقي.

كانت الولايات المتحدة التي قادت التحالف الدولي قد أعلنت الانتصار على التنظيم، وطرده من كلٍّ من محافظتي دير الزور والرقة، لكنها رافقته بإعلان استمرار بقاء قواعدها العسكرية في المنطقة الشرقية لضمان عدم عودة التنظيم إليها. كان هذا مستنداً إلى تجربتها في العراق، حيث استرد تنظيم الدولة المناطق التي فقدها مرات عديدة، بل زاد من المساحات التي كان يسيطر عليها قبل بدء الحرب عليها.

الولايات المتحدة قاتلت تنظيم الدولة في العراق بطلب من حكومة بغداد، وهي تفتقر إلى الغطاء القانوني لاستمرار في وجودها في سوريا بعد إعلان القضاء على التنظيم، ذريعة مكافحة الإرهاب التي تدخّلت على أساسها انتهت، والروس يتحدثون بشكل علني عن عدم شرعية وجود القوات الأمريكية، والنظام يعتبرها قوات احتلال، لذا لا بدّ من عمليات لتنظيم الدولة بين الفينة والأخرى، ليكون هذا بمثابة الغطاء القانوني الذي يتيح للأمريكيين التوسّع في بناء قواعدهم العسكرية شمال شرق الفرات، وعلى طول الحدود العراقية، لمراقبة تحركات التنظيم، ولمنع تدفق المليشيات الشيعية، ولإفشال مشروع الطريق البري الواصل بين طهران وحزب الله جنوب لبنان.

الحدود الدولية مع العراق ستكون مُحكمة الإغلاق أمام الحرس الثوري الإيراني، وإلّا ستصبح إيران دولة مجاورة لإسرائيل، الأمر الذي يضغط به اليمين الإسرائيلي على كلٍّ من أمريكا وروسيا لمنعه، والتغييرات المتكررة في الإدارة الأمريكية؛ والموقف من إيران، وأمن إسرائيل أهم أسبابها، بل هما في أحدث الدراسات الأمريكية الخط الوحيد الثابت في سياسات ترامب. هذه الإدارة ستمضي بعيداً في عداء إيران إلى أن تنهي العمل بالاتفاق النووي، وهي بالنسبة لإسرائيل ستفعل ما لم تفعله إدارة أمريكية سابقة، يكفي أنها بدأت بنقل السفارة إلى القدس.

أمريكا لا تريد الدفع بعشرات الآلاف من جنودها كما فعلت في العراق، هي بحاجة إلى شركاء محليين يقاتلون التنظيم بالنيابة عنها، وهي وجدت ضالّتها في "قوات سوريا الديموقراطية"، المليشيات الانفصالية التابعة لحزب العمال الكردستاني، لكن تبقى الولايات المتحدة في سوريا أمام معضلات يجب عليها تخطّيها لتفادي ما حدث في العراق من عودة التنظيم. تتمثّل هذه المعضلات في:

أولاً: ضعف المليشيات الكردية: فهي بحاجة كبيرة للإسناد والتغطية الجوية من القوات الأمريكية، وبدونها تكون عاجزة عن التقدم، أو المحافظة على مواقعها، وقد أظهرت المعركة قرب حقل غاز "كونيكو" هذا الأمر بشكل فاضح.

ثانياً: قلّة عددها، فمساحة المنطقة واسعة جداً، 15000 مقاتل لن يكونوا كافين بشكل من الأشكال، ومن الصعوبة زيادة العدد، بل حدث انسحاب لجزء من هؤلاء المقاتلين بسبب معركة عفرين، وسيكون خيار مقاتلي PYD دائماً القتال قرب الحدود التركية حيث هي أراضي حلم "الدولة الكردية" التي يريدونها.

ثالثاً: الأكراد متذمرون من خذلان الأمريكيين لهم في معركة عفرين، ويعتبرون ذلك خيانة لهم، وهم يخشون تخلّي أمريكا عنهم، ووقوعهم ضحية حسابات ومصالح دولية خصوصاً مع تركيا عضو الناتو، وحرص أمريكا على ترميم العلاقة معها، وعدم ذهابها بالكلية نحو التحالف مع روسيا.

رابعاً: PYD تقاتل في منطقة غريبة عنها، وليس لها فيها حاضنة شعبية، بل هي مكروهة، ومتهمة بارتكاب انتهاكات وجرائم حرب بحق السكان العرب، وباستمرار اعتماد الأمريكيين عليها ستنشأ "مظلومية عربية سنية" يستغلّها تنظيم الدولة كما فعل في العراق بسبب ممارسات مماثلة لمليشيا الحشد الشعبي الشيعية بحق السنة هناك.

خامساً: صحيح أن الأمريكيين أعلنوا نيتهم تشكيل "جيش الحدود"، وضم قوة عربية من أبناء القبائل إلى جانب PYD فيه، لكن التجارب أثبتت فشل أمريكا في استمالة العرب إلى صفوفها، وهي أوقفت برنامج "التدريب والتسليح" الذي عملت عليه فيما مضى، وهي لا تزال مترددة في تشكيل قوة عربية سنّية لخوفها من تعاطفها مع تنظيم الدولة في مرحلة لاحقة، وتحوّلها إلى قتال الأكراد والنظام، وترك التركيز على "مكافحة الإرهاب".

*ما هي خيارات أمريكا اليوم في دير الزور؟*

أسوأ خيارات أمريكا ما هو قائم اليوم، مليشيات كردية ضعيفة مكروهة، عدمها أقل ضرراً من وجودها، إذ ستظل منكفئة في نقاط ارتكاز عسكرية، لا تجد بين السكان المحليين من يقبل إدارتها لهذه المنطقة، الأمر مختلف عن الرقة ففيها بالأصل نسبة من الأكراد، بينما دير الزور عربية خالصة، في مثل هذه الحالة القواعد الأمريكية كافية لحماية المنطقة، كما هو حاصل في قاعدة "التنف" القريبة من الحدود العراقية.

خطوط أمريكا الكبرى تتمثل في:

1- الإبقاء على التحالف مع المليشيات الكردية، ووجودها كشريك، على الأقل لتفادي الخوف من مفاجآت بسبب عدم الاطمئنان التام من قوة عربية تسيطر على المنطقة، وتتساهل في التعامل مع تنظيم الدولة للقرابات العائلية، والصلات العشائرية التي تجمع بينهم وبين بعض المنتمين للتنظيم.

2- تحجيم نفوذ إيران، وقطع الطريق البري الذي يوصلها إلى شواطئ المتوسط، ويسهّل عليها نقل شحنات السلاح إلى عميلها "حسن نصر الله" في لبنان.

3- عدم السماح بسقوط هذه المنطقة بيد النظام، وتركها منطقة نفوذ مستقلة عنه، وورقة ضغط عليه لدفعه للانخراط في مفاوضات الحل السياسي.

*كيف ستصل أمريكا إلى هذا؟*

أمريكا توقن أن الأعمال العسكرية، لن تولّد حلّاً دائماً، وأنّ أيّ حلّ مؤقت سيكون قابلاً للانفجار، وقد يعيدهم إلى نقطة الصفر، يتساوى في ذلك الاعتماد على قواتهم وقواعدهم العسكرية لوحدها، وإن زادوا عددها وعدّتها، ووصلت إلى عشرات الآلاف، أو بشراكة قواتهم مع عسكريين آخرين، سواء كانوا عرباً أو كرداً، لذا عملت أمريكا ومنذ اللحظة الأولى لطرد تنظيم الدولة على إرسال الدبلوماسيين وخبراء السياسة والتنمية إلى المنطقة.

أمريكا تشعر بالقلق من وجود مدينتي الميادين والبوكمال بيد النظام، ويساورها الشك في قدرته على حمايتها من هجمات التنظيم، لوجودها جنوب الفرات، وسهولة وصول التنظيم إليها، وهي تخشى أيضاً أن تكون المدينتان قاعدة إيرانية متقدمة داخل الأراضي السورية، وقريبة من تمركز قواتها شمال النهر، بالطبع هذا يختلف عن وضع مدينة دير الزور المحميّة بشكل جيد، والروس يريدونها بيدهم مقابل سقوط الرقة بيد الأمريكيين، ستمنحهم نوعاً من التوازن معهم هناك.

أمريكا تسعى لفتح مشروع إعادة استقرار (إعمار) كبير في المنطقة، وتعمل على إيجاد مانحين من دول الخليج، وإقناع شركاء أوربيين خلال مؤتمر بروكسل الثاني بشأن دعم مستقبل سوريا الذي سيقام نهاية نيسان/أبريل القادم، هذا المشروع سيساهم مساهمة كبيرة في تأمين الاحتياجات والخدمات الأساسية للسكان، ويشجّع النازحين واللاجئين على العودة إليها، ستكون مشاريع تنمية المنطقة صمام الأمان الأكبر لعدم قبول السكان بعودة تنظيم الدولة، وعودة القتال والتدمير والتهجير والخراب معها.

أمريكا ستضم إلى "جيش الحدود" 15000 مقاتل عربي من أبناء المنطقة، بحيث يتم تأمين أمن وسلامة السكان العائدين للعيش فيها، وللتعاون مع القوات الأمريكية في حمايتها من هجمات تنظيم الدولة، وعينها على مدينتي الميادين والبوكمال لضمها إلى منطقة نفوذ شمال شرق الفرات، ويمكن أن تغضّ الطرف عن التنظيم ليكرر هجومه على قوات النظام فيهما، وبسبب البعد الجغرافي، وانشغال النظام بالمناطق القريبة من العاصمة، قد تسقط المدينتان بيد تنظيم الدولة، ما يعطي الأمريكيين الحجة لعبور النهر والسيطرة عليهما. لهما كذلك أهمية إضافية بالعدد الكبير من السكان الذين يعيشون الآن فيها، والذين يمكن استيعابهم لاحقاً أيضاً.

الذي ينقص المشروع هو الإدارة المدنية له: السياسية والخدمية، في الشق السياسي الاتصالات تجري في الداخل، وفي أكثر من بلد عربي مثل السعودية والإمارات والأردن، لتشكيل واجهة سياسية رمزية من شيوخ القبائل، وفي الشق الخدمي سيعاد تفعيل المجالس المحلية التي كانت تقدم الخدمات للسكان قبل اجتياح التنظيم للمنطقة عام 2014.

أمريكا التي واجهت صعوبات في تنفيذ مشروع شبيه في الرقة بسبب الخلافات العالقة مع تركيا حول القبول بوجود PYD على حدودها، تجد الأمر أسهل في دير الزور، حيث الاعتراض التركي سيكون أقل بكثير، ولذا هي أيضاً تتجنّب الاتصال مع بقايا الجيش الحر، أو التشكيلات السياسية التي تدّعي تمثيل دير الزور، والموجودة على الأراضي التركية.

المشروع واضح أيضاً أنه يجري ترتيبه بعيداً عن متناول الحكومة السورية المؤقتة، أو الائتلاف، أو هيئة التفاوض، فبغياب العملية السياسية التفاوضية، سيبقى المشروع تحت النفوذ الأمريكي كجزء من منطقة نفوذ على كامل منطقة شمال شرق الفرات لمحافظات دير الزور والرقة والحسكة، وبالتوازي معه ستعمل تركيا والأردن على منطقتي النفوذ شمال غرب، وجنوب غرب البلاد، إلى أن تعود الأمم المتحدة لإحياء العملية السياسية من جديد، وتبدأ المفاوضات الحقيقية للوصول إلى تسوية واتفاقات للحل النهائي.