الأحد 2018/09/02

لماذا يخشى النظام فتح معركة إدلب؟

كلما اتسعت المساحة التي يسيطر عليها النظام، ضاقت فرص انتصاره النهائية!!

ستكون هذه واحدة من المفارقات في الحرب السورية، وبالطبع لن تكون آخرها، والمثال القائم حالياً هو معركة إدلب المفترضة، والنظام يدرك هذه المعادلة بمفهومها الدقيق محلياً ودولياً.

الحل في سوريا يعني أولاً وقبل كل شيء بالنسبة لدول العالم وبالذات دول الجوار، عودة ملايين اللاجئين السوريين إلى بلدهم، وثانياً بنفس أهمية الأمر الأول قضية أمن ومصالح دول الجوار، ثم الأمن الإقليمي والدولي المتضمن "مكافحة الإرهاب"، ثم التفاهمات حول المصالح الدولية المتشابكة والمعقّدة التي يمكن التوصُّلُ إليها عبر إمساك هذه الدول ببعض أجزاء الملف السوري، والمساومة عليها لتحقيق مصالحها.

في الأمر الأول سيكون من المستحيل عملياً إقناع ملايين اللاجئين السوريين، أو إجبارهم على العودة إلى بلادهم في ظل استمرار النظام بشكله الذي تسبب بهذه الكارثة، واللاجئون سيعودون فقط في إحدى حالتين: إما بتغيير جذري وكلّي للنظام، أو بإحداث تغيير بنيوي كبير فيه يكون على رأس هذا التغيير إزاحة بشار الأسد، ومع وجود مثل هذا التغيير فسيبقى رفض اللاجئين للعودة مفهوماً قبل إحداث تغيير في المنظومة الدستورية والقانونية في البلاد، والتأكد من تطبيقها واحترامها من قبل الحكم الجديد، لا أن يمكن التلاعب بها وتجاوزها كما واقع الحال الآن، بحيث يتهدد خطر الاضطهاد والانتقام اللاجئين العائدين.

عودة اللاجئين تتطلب عملية إعادة إعمار تقدّر بمئات مليارات الدولارات يعجز عنها النظام وحلفاؤه، والمجتمع الدولي يشترط حدوث هذا التغيير البنيوي في النظام ليساهم في إعادة الإعمار، كانت رسالة الرئيس الفرنسي "ماكرون" بالنيابة عن الأوربيين واضحة تماماً حين قال: "نحن نرى جيدا ما يريده البعض بمجرد الانتهاء من محاربة تنظيم الدولة، تسهيل ما لا يمكن تسميته بالعودة للوضع الطبيعي. يبقى بشار الأسد في السلطة، واللاجئون من الأردن ولبنان وتركيا يعودون، والأوروبيون وآخرون يقومون بالإعمار"، لا بل إن الرئيس الفرنسي اعترف بخطئه "حين لم يضع عزل بشار الأسد شرطاً مسبقاً لنشاطهم الدبلوماسي والإنساني"، وختم بتصوره عن "الحل السياسي الشامل، الذي يمر بإصلاح دستوري، ووضع نظام انتخابي، يسمح للسوريين، بمن فيهم أولئك الذين فرّوا من نظام بشار الأسد لاختيار قائدهم".

في الأمر الثاني: أمن ومصالح دول الجوار، الأردن ولبنان مهتمتان بإعادة اللاجئين، والأردن لن تُقدِم على خطوة منفردة دون التوصل لحل دولي لهذه المعضلة، ويبقى خطر الإعادة القسرية قائماً في لبنان .. المحكوم من قبل مليشيا "حزب الله"، لكنها بلا شك ستواجه صعوبات قانونية ولوجستية عديدة تصل إلى حد إيقافها بالكلية، أو تنفيذها بالحد الذي يؤمّن الدعاية الإعلامية للنظام ولحزب الله في "نجاحهم" باستعادة استقرار سوريا.

يبقى الموقفان الأهم: تركيا وإسرائيل، الأخيرة ترفض أي حل لا يضمن خروج إيران من سوريا، وقطع الطريق البري بين طهران وجنوب لبنان، وتدمير جميع منشآت إنتاج الصواريخ التي تبنيها إيران في سوريا، وهي وافقت على إسقاط الجنوب السوري بهذا الشرط التي وضعته على روسيا.

إسرائيل ليس لديها مشكلة أن يستعيد النظام إدلب أو غيرها، لكن مشكلتها مع إيران وتحجيم نفوذها في سوريا.

النقطة الحرجة في هذا الجانب هي تركيا، التي أسست مع روسيا وإيران مسار أستانا الذي توّج بالاتفاق على مناطق خفض التصعيد الأربع التي تعتبر إدلب آخر واحدة منها باقية في هذا الاتفاق.

ثمة مشكلتان رئيسيتان تواجهان تركيا حال اجتياح إدلب:

الأولــــــــــــى: اضطرار نحو ثلاثة ملايين سوري إلى النزوح عن ساحة المعركة، وهم بالتأكيد لن يتوجهوا جنوباً أو غرباً باتجاه مناطق النظام، فمعظمهم بالأصل نازحون من مناطق استولى عليها النظام سابقاً، أو ممن رفضوا المصالحات التي جرت معه، واختاروا الرحيل بعيداً عنه، إذن هؤلاء سيتوجهون شمالاً نحو الحدود التركية، هذه الموجة البشرية لو حدثت ستشكل عبئاً ثقيلاً على تركيا إن سمحت لها بعبور الحدود، أو إن أغلقت الحدود في وجهها كما فعلت الأردن في الجنوب.

المجتمع الدولي وخصوصا الاتحاد الأوروبي يساند تركيا ويقف إلى جانبها.

لكن ما هي الطريقة الأمثل لمنع حدوث ذلك؟

الحقيقة لا يوجد طريقة لمنع ذلك، إلا بمنع الهجوم على إدلب أساساً، وإلا فقد تجد هذه الموجة طريقها إلى أوروبا من جديد، ولا يمكن حينئذٍ لوم تركيا؛ فالاتفاقيات الدولية تلتزم بتقاسم أعباء اللاجئين.

في الحقيقة هنا بالذات يكمن الخطأ الفادح في تصريح الوسيط الأممي "دي مستورا" حين طالب بـــ"تيسير وجود ممر إنساني ذي مصداقية للسماح للسكان المدنيين بالجلاء مؤقتاً إلى منطقة أكثر أماناً، ولكن هذه المنطقة على الأرجح ستكون تحت سيطرة الحكومة". هذا الجزء هو الذي يعدّ تواطؤاً مع النظام وحلفائه الروس والإيرانيين، ليس فقط في إعطاء الضوء الأخضر لاجتياح إدلب، ولكن أيضاً في تعريض السكان المدنيين لعمليات الانتقام والإبادة على يد قوات النظام، والمليشيات الطائفية. كان على الوسيط الأممي أن يطالب بمنطقة حظر طيران، أو إنشاء ملاذات إنسانية آمنة تحت إشراف ورقابة أممية، لا أن يعرض تسليم هؤلاء السكان المدنيين للنظام الوحشي الذي فرّوا منه.

كذلك "دي مستورا" حين يعرض هذا العرض فهو يريد فتح الطريق من أوسع بواباته لإعادة اللاجئين من دول الشتات بذريعة هذه العملية الآمنة لعودتهم التي قام بها في إدلب، ستكون أضخم دعاية للنظام وحلفائه ولليمين المتطرف في أوروبا، ولحزب الله في لبنان للحضّ على بدء ترحيل اللاجئين.

الثانيــــــــــــــــــــة: المليشيات الكردية التي ستكون المستفيد الأول من الهجوم على إدلب، وهي تحضّر نفسها للمشاركة فيه إلى جانب النظام بحجة "تحرير" عفرين و"المناطق الكردية" من "تركيا وفصائل الجيش الحر"، وفقاً لما يقوله النظام أيضاً. المليشيات الكردية ستجد أولاً الوقت الكافي -بسبب انشغال النظام بمعارك إدلب التي قد يطول أمدها-لاستمرار مفاوضاتها مع الأسد وتقوية موقفها ومحاولة فرض شروطها في وجودها شمال شرق البلاد، والحصول على حكم ذاتي هناك، فالنظام سيكون في موقف تفاوضي أضعف لا محالة، وتركيا ترى في مثل هذا الاتفاق مع الأكراد خطراً على أمنها القومي الذي كان هو أكبر دوافعها للتدخل في الحرب السورية الدائرة على حدودها.

في هذا السياق نرى كلا من الولايات المتحدة وروسيا في سباق للتفاهم مع تركيا، فالولايات المتحدة -وبطلب أوروبي- تريد من تركيا الوقوف إلى جانبها في منع عملية إدلب، واستغلال نفوذها لدى روسيا في ذلك، لكنها مضطرة من جانب آخر لإعطاء ضمانات لتركيا في عدم تهديد أمنها القومي بتحويل المنطقة الشرقية إلى "كانتون كردي" معادٍ لتركيا، وفيما تعمل روسيا مع النظام على تخريب المشروع الأمريكي الكردي، ومحاولة استعادة السيطرة على كامل البلاد، فإنها مضطرة أيضاً لتهدئة المخاوف التركية من ارتدادات عملية إدلب وخصوصاً في موضوع اللاجئين.

يبدو أن تركيا حسمت قرارها في منع اجتياح إدلب تحت أي ذريعة كانت، فالأمور ستخرج عن السيطرة، لن تكون حالة شبيهة بدرعا بشكل من الأشكال، فـ "لا إدلب أخرى" يمكن ترحيل المقاتلين والمدنيين إليها، وتركيا من الناحية الإنسانية ليست كالأردن في وارد إغلاق الحدود بوجه الهاربين من الحرب، وهي حال بدء المعركة لن تقف موقف المتفرج، وبالتحليل السياسي يمكن أن يكون لها العديد من الخيارات للتعامل مع هذا الهجوم.

قبل عرض الخيارات التركية.. من أين أتى هذا الاستنتاج؟

الجواب: من تصنيف تركيا لـ"هيئة تحرير الشام" أنها منظمة إرهابية!!

فيصعب تصور أنه بدء تخلّي تركيا عن الشمال باتفاق حدث مع روسيا يضمن مصالح تركيا، هذا بعيد جداً، الثقة لم تصل بين الدولتين إلى هذه الدرجة، وخصوصا أن تركيا لا تثق أبداً بالنظام، وبدرجة قريبة من ذلك بالإيرانيين، لكنها أعلنت التصنيف في هذا الوقت لتفويت الفرصة على النظام وحلفائه في اتهامها بحماية ورعاية منظمة مدرجة في قوائم الأمم المتحدة على قوائم الإرهاب.

الخيارات التركية في إدلب:

القوات التركية لن تدخل في مواجهة مباشرة مع قوات النظام البرية والمليشيات المساندة لها، حرب الجيوش النظامية لم يأت أوانُها بعد، لذا قد تعمل على سحب نقاط المراقبة جنوب وغرب إدلب تفادياً للصدام مع القوات المهاجِمة، وتكتفي بنقاط المراقبة الشمالية والشرقية، وتحوّلها إلى ما يشبه القواعد العسكرية الحقيقية، وتمدّها بالعناصر والعتاد اللازمين لذلك، وستكون هذه النقاط بمثابة الممرات الإنسانية للمدنيين الفارّين من الحرب.

ما وراء هذه النقاط سيكون منطقة مدنية 100% وهي ما يسمى مناطق درع الفرات وغصن الزيتون، وهي مؤهلة عملياً لاستقبال أعداد كبيرة من النازحين إليها، فتركيا تعمل منذ فترة على إعادة تأهيل البنى التحتية فيها، كما ساهمت في إنشاء هياكل إدارة محلية قادرة على رعاية وتقديم الخدمات الإنسانية للمقيمين فيها، على الجهة الداخلية لنقاط المراقبة أي فيما هو داخل في اتفاقية خفض التصعيد "سابقاً" سيكون الانتشار للهيئة فقط، ستعمل تركيا على سحب فصائل الجيش الحر منها، لتكون على خط التماس الفاصل بين نقاط المراقبة ومنطقة خفض التصعيد، وتعمل مع القوات التركية على وقف الخروقات لهذا الخط من جانب الهيئة في المرحلة فيما لو حدثت.

المهم في الأمر أن تتخذ تركيا قراراً حازماً بعدم القبول بتشكيل ما يشبه "الفيلق الخامس" في الشمال ليكافح "الإرهاب" كما حدث في درعا، أي لن تسمح بحدوث معارك بين الجيش الحر والهيئة، فـ"مكافحة الإرهاب" شأن دولي.

ما الذي يعنيه هذا؟

هذا يعني أن أمام النظام معركة مريرة وطويلة مع الهيئة وباقي التنظيمات التي ستختار قتال النظام، وستستنزف قوة النظام وموارده البشرية والمادية بشكل هائل، ستكون أول اختبار حقيقي لجيش النظام المتهالك، فالطائرات لن تستطيع حسم الموقف ولو استمرت لسنوات، والروس لن يدفعوا بقوات برية من جيشهم، والإيرانيون غير مهتمين كثيراً بإدلب، فتركيزهم منصب على المنطقة الشرقية صاحبة الموارد الغنية، والواقعة على "خط الهلال الشيعي" والملاصقة لعمقهم الاستراتيجي في العراق، وتضاريس المنطقة الوعرة، وشح الموارد فيها، وشدة بأس المدافعين عنها ستجعل المليشيات الشيعية المرتزقة أيضاً تفضّل البقاء في المدن الكبرى مثل دمشق وحلب وحتى الساحل، حيث الحواجز وعمليات الخطف وطلب الفدية تؤمّن لها مداخيل أكبر بكثير من الدخول في معركة مع عناصر مدربة تدريباً عالياً، عدا عن وجود أعداد من المهاجرين الذين ليس لهم مكان آخر يذهبون إليه، وسيختارون القتال حتى الموت.

قوات النظام البائسة قد تجد نفسها وحيدة في هذه المعركة، وبإمكانيات ضعيفة ومحدودة، فالقصر في دمشق سيخشى كثيراً من إرسال قوات من محيط العاصمة ومن الجنوب إلى إدلب، فالخوف من انقلاب فصائل المصالحات في الجنوب عليه قائم، وهو يخشى احتلال مليشيات المرتزقة الشيعية للعاصمة بشكل مباشر وعلني، واحتمال هجوم مباغت لتنظيم الدولة لإحدى مدن المنطقة الشرقية وإعلانها عاصمة للتنظيم كما حدث في الموصل بعد طرد التنظيم من معاقل عديدة لها أيضاً غير مستبعد بوجود حافز قوي لديه مع محاولة إيران تشييع المنطقة، واضطهاد السنّة فيها.

نقطة بؤس النظام تتركز كما جاء في المقدمة أنه " كلما اتسعت المساحة التي يسيطر عليها النظام، ضاقت فرص انتصاره النهائية" فالمساحة التي يسيطر عليها ليست له، وإنما فعليا تذهب لإيران، وهي الآن موضوعة على رأس الأهداف الأمريكية في المنطقة، وبالطبع مع الولايات المتحدة تقف الدول الخليجية وإسرائيل، والنظام عاجز تماما تجاه الاحتلال الإيراني لهذه المساحات الواسعة التي استعاد السيطرة عليها، والدول التي كانت تتغاضى عن جرائم النظام مقابل أنه يكافح الإرهاب، ويعمل على إعادة الاستقرار والهدوء للبلاد، ترى اليوم خلاف ذلك، فالوجود الإيراني سيسبب موجات متصاعدة من العنف على غرار ما حدث في العراق، وأنه لا بد من حل سياسي حقيقي يبدأ بتغيير دستوري وقانوني وهيكلي جذري، ويمرّ بعزل الأسد عن الحكم، وينتهي بإخراج إيران من سوريا.

النظام سيجد نفسه مشتتاً من جديد، فيما لو أعادت جيوب الجيش الحر تنظيم نفسها، وفتحت جبهات عديدة كما كان عليه الأمر قبل توقيع اتفاقيات خفض التصعيد التي أتاحت للنظام الانفراد بهذه المناطق واحدة تلو الأخرى.