السبت 2018/02/24

لماذا فقد نظام الأسد عقله بعد سوتشي؟


مركز الجسر للدراسات


قبل أربع سنوات تماماً، جلس نظام الأسد وجهاً لوجه أمام المعارضة فيما نسمّيه جنيف 2، كانت السنوات الأربع الماضية مثالاً صارخاً لأمرين اثنين:

الأول: عجز الأمم المتحدة ممثلة بمجلس الأمن عن تطبيق جميع القرارات الصادرة عنه، الإنسانية قبل السياسية، وعجز المبعوث الخاص دي ميستورا الذي تولى مهمته بعد استقالة الأخضر الإبراهيمي دون تحقيق أي تقدم يذكر في الجولات التفاوضية المتعددة.

الثاني: قدرة النظام ،مدعوماً بالغطاء الروسي، على المراوغة وتحويل جنيف إلى حالة استعراضية لسماجة الجعفري لا أكثر.

تزامن فتح مسار أستانا نهاية 2016، مع سقوط حلب بيد النظام من جديد، كان "أستانا" فرصة شبيهة للنظام، فالمسار عسكري، واتفاقيات خفض التصعيد يتم توقيعها وخرقها بوقت واحد تقريباً، ويكفي أنها وفّرت للنظام وقتاً وجهداً يتفرّغ به لمناطق أخرى، ويعمل لاستعادة السيطرة عليها، كان أبرز نتائج جولة أستانا الأولى استعادة النظام السيطرة على وادي بردى، وتهجير أهله منه.

بطريقة دراماتيكية بالنسبة للنظام تغيّر كل شيء فجأة، جولة جنيف8 اعتمد فيها دي ميستورا ورقة المبادئ الاثنتي عشر، كأول وثيقة رسمية في المفاوضات، الورقة التي توافق عليها المعارضة، ويرفضها النظام منذ سنوات، وقدّم ورقة بديلة عنها أهملها دي ميستورا.

جرى بعدها تثبيت موعد مؤتمر سوتشي بدعوة من روسيا، وبحضور النظام، وعدد كبير من مُواليه كغطاء شعبي واسع، أراد منه الروس أن يكون بمثابة المرجعية الشرعية لما سينتج عنه.

النظام كان مرعوباً من سوتشي، هذه حقيقة لا شك فيها، وحاول تعطيل المؤتمر بشتى الوسائل، فالبيان الختامي لسوتشي سيكون ورقة المبادئ السابقة، وسيوكل للأمم المتحدة تشكيل لجنة دستورية تعمل على صياغة دستور جديد للبلاد، كخطوة أولى في طريق الانتقال السياسي المنصوص عليه في القرار 2254.

هذه الضربة القاصمة جاءت من الطرف الروسي، الحليف الأول للنظام، والذي يغطّيه دولياً في مجلس الأمن بالفيتو الذي وقف سدّاً منيعاً أمام إدانة النظام، رغم كل الجرائم التي ارتكبها، النظام يخشى أنه بعد سوتشي ودخول الروس في عملية سياسية حقيقية، وبمشروع يتبنَّونه هم، فقد لا يستخدمون الفيتو مرة جديدة، والنظام يرى نفسه مرغماً على القبول بالحل السياسي الروسي، والتخلّي عن الحل العسكري الذي لا زال يعلنه ويمارسه كحل وحيد.

في سوتشي أيضاً تحضّر إيران الحليف الثاني للنظام، باعتبارها إحدى الدول الضامنة في أستانا، وهي مثل النظام تحضُر مُرغمة، فحاجتها للروس مثل حاجة النظام أو أكثر، لإيجاد توازن مقابل عداوة الإدارة الأمريكية الحالية للنظام الإيراني.

الضربة الثانية جاءت من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، فيما سمّيت "لا ورقة الدول الخمس" فهي تسير بنفس اتجاه سوتشي في قضية الإصلاح الدستوري، وتزيد عليه في منح إشراف ورقابة شبه مطلقة للأمم المتحدة على عملية الانتخابات القادمة في البلاد.

النظام وجد نفسه محاصراً من جميع الجهات، روسيا ومن معها، والولايات المتحدة ومن معها، والأمم المتحدة التي يُطلب منها الآن الابتعاد عن أسلوب الجولات التفاوضية التي فُصِل بين جولتين منها في إحدى المرات مدة عامين كاملين، والانتقال إلى عملية سياسية تفاوضية مفتوحة دون توقف.

إثر سوتشي طار دي ميستورا إلى مجلس الأمن، واعتبر البيان الختامي لسوتشي وثيقة رسمية، ونال مباركة مجلس الأمن لها، وبدأ في عدة دول عملٌ محموم لتشكيل اللجنة الدستورية.

النظام حين أعلن لاحقاً رفض بيان سوتشي، ونشَر نسخة مزوَّرة عنه، كان يعلم أن الأوان قد فات على مثل هذه الألاعيب، وأن بدء التغيير صار حقيقة واقعة، وهو الأمر الذي نقله الروس للمعارضة في لقائهم معهم بجنيف يوم 15 شباط/فبراير الجاري.

الروس نقلوا في هذا الاجتماع رغبة النظام أن يتم تطبيق سوتشي بتغيير دستوري "طفيف"، وأن تعمل اللجنة الدستورية في دمشق، لكنهم من جانبهم أكّدوا للمعارضة أن سوريا تحتاج إلى دستور جديد، وأن النظام سيأتي إلى سوتشي، أو إلى أي مكان آخر يتم الاتفاق عليه لعمل اللجنة الدستورية.

كانت الدبلوماسية الروسية تتحدث عن النظام بنوع من الاستهزاء والسخرية، فيما كان الضباط الروس يتحدثون عنه بشيء من الاحتقار، كان همّهم الحصول على موافقة المعارضة المجتمعة معهم على مخرجات سوتشي، وإصدار ورقة توصيات حول اللجنة الدستورية، ونقلها لدي ميستورا، وهو ما تمّ فعلياً، وتسلّم الروس هذه الورقة.

الغائب الوحيد عن لقاء جنيف كان هيئة التفاوض، لذا دُعيت وبشكل منفصل يوم 19 شباط/فبراير إلى سلسلة لقاءات في بروكسل لمناقشة مواضيع العدالة الانتقالية والانتخابات، مع التركيز بشكل أساسي على اللجنة الدستورية المذكورة في بيان سوتشي.

فجّر الأمريكيون المشاركون في بروكسل مفاجأة من العيار الثقيل، كانوا عائدين للتوّ من مؤتمر "نادي فالداي" في موسكو، كان النظام حاضراً هناك، قالوا: شاهدنا من الروس ما لم نره سابقا في مقابلة المسؤولين السوريين، افتتح الوزير الإيراني "جواد ظريف" الجلسة، لكن عندما بدأت "بثينة شعبان" الحديث غادر كلا الوزيرين لافروف وظريف القاعة، صُدمت شعبان بهذا التصرف، المسؤولون الروس كانوا يصرخون بوجه وفد النظام، ويقولون: ليس لكم الحق برفض سوتشي، شيء ما تغيّر في موسكو، يبدو أن الروس ملّوا من تعنُّت النظام.

نائب المبعوث الأممي إلى سوريا رمزي رمزي، كان حاضراً أيضاً ويراقب هذا التطور غير المسبوق علناً، لعلّه كان يحدُث سراً، لكن مشاكل النظام مع الروس بدأت تطفو على السطح.

النظام ضمن سلسلة الأحداث هذه كان مذهولاً، فقَد عقله تماماً، لم يجِد ما يعبّر به عن استيائه إلا بالدموية الوحشية، وصبّ جام غضبه على الغوطة الشرقية، المكان الوحيد الذي يمكن أن يقتُل فيه بهذه الطريقة الهمجية، حيث 400 ألف من السكان المدنيين محاصرون منذ عدة سنوات من جميع الجهات، وليس لهم منفذ أو ممر يمكن أن يعبروه إلى منطقة أكثر أمناً، هم بين خيارين: الاستسلام، أو الإبادة الجماعية، لكن العالم تغيّر، وحده النظام ينكر ذلك، أو لا يريد الاعتراف به، القرار السويدي الكويتي لا يزال على طاولة مجلس الأمن، والقرار سيتم تمريره إن لم يكن بعد ساعات، فغداً على أبعد تقدير، والروس لن يمارسوا حقّ النقض الفيتو هذه المرة، قد يكتفون بالامتناع عن التصويت، لكنه بدء نزول الخط البياني الروسي في تغطية النظام داخل مجلس الأمن.

إذن النظام بدأ يلفظ أنفاسه، وهو في سكرات الموت، وإن كانت ستطول، لكنه لن يستعيد أبداً عافيته وقوّته، والغوطة لن تسقط لا اليوم ولا في المستقبل، وقف إطلاق النار سيسري عليها، وسيتم تمديده مرات عديدة.

اللجنة الدستورية فتحت خرقاً في جسم النظام الأصم، يجب على المعارضة توسيع هذا الخرق ما استطاعت، والكل يعي بشكل جيد من تاريخ نضالات الشعوب نحو استقلالها والتخلص من الأنظمة الدكتاتورية، أن المفاوضات لا تعني أبداً لزوم إلقاء السلاح، فهما يسيران جنباً إلى جنب إلى أن يحقق الشعب السوري مطالبه، ويتخلص من نظام الأسد البغيض.