الأثنين 2018/01/01

سوريا الحرب التي لن تنتهي


مركز الجسر للدراسات


اثنا عشر حرباً أهلية تمّ تسجيلها عام 2016، وهو العدد الأعلى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وجميعها في دول ذات أغلبية مسلمة، باستثناء نيجيريا، 70 في المئة من حالات الوفاة الناتجة عنها وقع في صراعات داخل دول الجامعة العربية".

بغض النظر عن أسباب اندلاع هذه الحروب، فإن أسباب " ديمومة النزاعات في الشرق الأوسط"، وعدم الوصول إلى تسوية لها تتحدد بـ "ثلاث مشاكل مفاهيمية" كما ذكرت دراسة صادرة عن مركز كارنيغي.

المشكلة الأولى: ترسيم الحدود (أو مبدأ عدم قابلية تقسيم الدولة).

المشكلة الثانية: الالتزام، أي إيجاد الآليات الدولية لتنفيذ اتفاقيات التسوية.

المشكلة الثالثة: وجود أطراف قادرة على نقض القرارات.

في الحالة السورية، هذه المشاكل الثلاث موجودة في أوج مستوياتها، والتي تهدد بخطر استمرار الحرب لفترة لا يمكن التكهن بها، فجميع الحلول التي يفكر بها، أو يقبل بها أطراف الصراع غير قابلة للتطبيق، فمبدأ عدم قابلية تقسيم الدولة يفرض نفسه ولو كعامل واحد لعرقلة أي تسوية ترتكز عليه، فالتجربة التاريخية لتقسيم سوريا أيام الاحتلال الفرنسي فشلت ولم تستمر طويلاً.

لنضع بعض المعطيات حول هذا المفهوم:

أولاً :  يقول كتاب "كل حرب يجب أن تنتهي "إن لم يكن التقسيم مآلاً قابلاً للتحقُّق بسبب استحالة إحداث فصلٍ جغرافي بين طرفَي النزاع، فيجب في هذه الحالة أن يحصل أحد الطرفين على كل شيء تقريباً، إذ لا يمكن أن يكون هناك حكومتان لدولة واحدة".

1- بالأصل الثورة في سوريا لم تبدأ كخلاف بين مكونات الشعب السوري، بل بين الشعب والسلطة، ولم تتحوّل إلى يومنا هذا لصراع بين المسلمين والمسيحيين، ولا بين السنّة والعلويين، ولا بين العرب والأكراد.

2- دخول قسم من الأكراد بميليشيات خاصة بهم على خط النزاع، لم يخرج الثورة عن أصلها رغم الانتهاكات الواسعة التي ارتكبتها هذه الميليشيات، والتي أوردتها التقارير الدولية بحق السكان العرب، لكن بقي الأكراد يتحدثون في الخط العام أنهم في نزاع مع النظام، وليس مع باقي مكونات الشعب السوري.

3- رغم هذا اضطر الأكراد إلى تطعيم قواتهم بعناصر عربية وآشورية لرفع الصبغة الطائفية عن ميليشياتهم، لا بل إنّ توغّلهم في عمق مناطق عربية صرفة على ضفاف الفرات، يجعل استحالة اجتزاء هذه المناطق تحت حكم كردي.

4- الأكراد بصنوف تمثيلهم لا يتبنون موقفاً واضحاً في المطالبة لتقسيم سوريا، هم يتحدثون عن فدرالية، حكم ذاتي، لا مركزية موسّعة، لكن مخاوف السوريين من خطوات شبيهة بكردستان العراق، وإعلان الاستقلال، يجعل بعض مجموعات المعارضة يرفضون أي شكل من أشكال الحكم يخرج عن نطاق الدولة المركزية.

5- إقليمياً صوت تركيا القوي يرفض تقسيم سوريا، فهي لن تسمح بدويلة كردية على حدودها، ووجودها في مناطق درع الفرات يحطّم تحقيق الحلم الكردي.

6- دولياً جميع الدول التي لها علاقة بالوضع السوري ترفض الحل الذي يؤدي إلى تقسيم البلاد، فهو يشكّل سابقة في المنطقة قد تتكرر بطريقة فوضوية، والموقف من استقلال إقليم كردستان العراق، هو الموقف المعوّل عليه في الحالة السورية.

7- أممياً جميع قرارات الأمم المتحدة بدءاً من بيان جنيف (2012)، وانتهاء بالقرار 2254 (2015) تتحدث عن وحدة سوريا، آخر وثائق الأمم المتحدة الرسمية المقدمة في جولة جنيف 8، تقول في مبادئها الاثني عشر: "الالتزام الكامل بسيادة سوريا، واستقلالها وسلامتها الإقليمية، ووحدتها أرضاً وشعباً.

8- النظام الحالي يبقى أشد الرافضين لقضية تقسيم سوريا، أو حتى التطرق لأي شكل من أشكال الحكم التي تحدّ من صلاحياته وهيمنته وتحكّمه في كل مفاصل الحياة اليومية للسوريين، فكيف بإعطائهم أي نوع من أنواع الإدارة المحلية التي يعتبرها انتقاصاً لسيادته الوطنية.

إذن نحن أمام خارطة معقدة من العوامل المؤثرة التي تؤيد مبدأ عدم قابلية تقسيم سوريا، فهل يعني هذا أن المعادلة ستكون صفرية كما يريد النظام والروس والإيرانيون، بحيث تعود الأمور للنظام كما كانت عليه قبل اندلاع الثورة عام 2011؟

خطر المعادلة الصفرية قائم، لكن بينها وبين خيار التقسيم، وخيار ايجاد تسوية ولو مؤقتة عبر تعزيز حكم ذاتي محدود يقود إلى عملية انتقال سياسي لاحقاُ، فإن الخيار الثالث هو الذي تعمل الدول المعنية للتوصل إليه في العملية التفاوضية القائمة في جنيف.

معطيات المشكلة الثانية المتعلقة بالتزام نظام الأسد تنفيذ تعهداته واتفاقاته لا تقل تعقيداً عن الأولى، فالمسار الأممي الذي أنهى جولته الثامنة في جنيف، لا تحتوي كل قراراته الصادرة عن مجلس الأمن أي صفة أو آلية إجرائية تنفيذية إلزامية تجبر النظام على الخضوع لها، فقط القرار 2118 (2013)، الخاص بالقضاء على برنامج الأسلحة الكيماوية للنظام، حمل في طياته تهديداً بفرض تدابير بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.

نقاط كوفي عنان الست المتضمنة وقف العنف، وتقديم المساعدات الإنسانية، والإفراج عن المعتقلين، وضمان حرية حركة الصحفيين، واحترام حرية التجمع وحق التظاهر السلمي، لم يتم أدنى التزام بها، ثم تتالى ذلك في امتناع النظام عن تطبيق إجراءات بناء الثقة الواردة في قرارات مجلس الأمن، بل كان يعمد غالباً على هامش كل جولة تفاوضية إلى التصعيد ورفع وتيرة القصف بالبراميل المتفجرة، واجتياح المدن والبلدات الخارجة عن سيطرته، أو فرض وتشديد الحصار عليها.

مسار أستانا الذي ترعاه ثلاث دول ضامنة، لا يختلف كثيراً عن مسار جنيف، فقد تعرضت فيه مناطق خفض التصعيد لخروقات عسكرية واسعة، كما تعرضت مناطق الهدن والمصالحات لانتهاكات كبيرة من حيث ملاحقة واعتقال الناشطين والسكان المدنيين، وسوق الشباب إلى الالتحاق الإجباري بجيش النظام، والمجموعات التابعة له.

هذا ما يفعله النظام حالة الحرب والضعف الذي لحق بأجهزته العنفية الأمنية والعسكرية، فكيف إذا توقف القتال، وبدأ نزع سلاح الثوار؟ من الطبيعي حسب معرفة السوريين بهذا النظام فإنه سيعود إلى سالف عهده، وينقض جميع اتفاقاته، ويركّز على الانتقام من خصومه وتصفيتهم إلى أن يستقر له الأمر ويعيد استنساخ نفسه.

السؤال الكبير الذي طرحته المعارضة على دي مستورا في جنيف 8، ما هي وسائل الأمم المتحدة التي تضمن إجراء انتخابات حرة ونزيهة في البلاد تحت حكم آل الأسد؟ فالخطة الأممية الجديدة تركت قضية الانتقال السياسي عبر هيئة الحكم الانتقالي، واكتفت بطرح قضيتي الدستور والانتخابات، حيث ينتج الحكم الجديد للبلاد إثر تلك الانتخابات، بالطبع الأمم المتحدة لا تملك جواباً يجعل المعارضة تثق بها، بل إن إحاطة دي مستورا الأخيرة 19 كانون الأول / ديسمبر 2017 في مجلس الأمن جددت شكوك المعارضة حول جدوى هكذا انتخابات، وإن جرت بإشراف الأمم المتحدة "المستعدة لاحترام سيادة النظام" كما جاء في الإحاطة.

هل تستطيع الأمم المتحدة نشر قوات حفظ سلام وفصل قوات، ومراقبين بعدد كاف لإقامة انتخابات حرة ونزيهة في البلاد؟ أم ستترك الشعب السوري يواجه مصيراً محتوماً في تسليمه لحكم الديكتاتور من جديد؟ ومن ثمّ عودة دورة العنف والصراع والإرهاب من جديد؟

هذا فيما لو حصل اتفاق، وهو مستبعد بسبب المعطى الثالث المتضمن وجود أطراف عديدة محلية وإقليمية ودولية قادرة على منع التوصل إلى اتفاق من نوع ما، وقادرة بنفس الوقت على نقضه وتخريبه فيما لو حصل دون رضاها، أو خارج الإطار الذي يحقق مصالحها.

نحن أيضاً أمام شبكة معقدة جداً من هذه الأطراف، ومن مصالحها وأهدافها المتباينة والمتنافرة التي تجعل التوصل لاتفاق عملية شبه مستحيلة، فنقطة الاتفاق التي يمكن أن يقف عليها الجميع في هذا البحر المتلاطم، تكاد تكون معدومة، ولو وجدت فلن تكفي الجميع للوقوف عليها، لذا سيتبادلون الأدوار بينهم، والطرف الواحد نفسه سيكون متفقاً مرة ومخرباً مرات أخرى.

جردة بسيطة للملفات الشائكة بين الأطراف المعنية بالحالة السورية تعطينا الجواب فيما لو تأملنا ما هي النقطة التي يمكن أن تقف عليها روسيا، وأمريكا، والاتحاد الأوربي، وتركيا، وإيران، والسعودية وقطر والإمارات والأردن ومصر والعراق ولبنان وإسرائيل؟

هذا عدا عن الأطراف الداخلية المقاتلة منها والسلمية، فلدينا النظام، وفصائل الجيش الحر، والمنظمات الإرهابية، والميليشيات الكردية، والميليشيات الطائفية، والمجموعات المرتزقة التي استقدمها النظام، وخرجت تالياً عن سيطرته، وتعمل اليوم بشكل مستقل عنه.

بسبب هذه الشبكة المعقدة وعجز الأطراف الدولية الكبرى عن الاتفاق لجأت إلى "إدارة الأزمة"، وهو ما تورطت فيه حتى الأمم المتحدة، وهذه الأطراف وإن كانت فاعلة اليوم، فإنها حين وصول سوريا إلى دولة فاشلة ستبدأ بسحب نفسها تدريجياً من الساحة، لكن فقط مع احتفاظها بحق الموافقة أو التخريب لاتفاق يمكن أن يحدث، في حالة أشبه بحالة الصومال الذي تخلّت عنه الأطراف الفاعلة فيه، تتذكره حين تعمل بعض الأطراف الداخلية للتوصل إلى اتفاقات ولو جزئية، فتبدي الأطراف الخارجية رأيها موافقة أو رفضاً، وتلقي بأوامرها تلك للأطراف الداخلية المتصارعة، في حرب مفتوحة ممتدة منذ قرابة ثلاثين عاماً.

السوريون أمام خيارين، أولهما خيار وطني خالص يبدأ باتفاقهم على تنحية رأس النظام، إيذاناً ببدء مرحلة انتقال سياسي عنوانها الوحدة الوطنية، ومشروعها إنقاذ ما تبقى من البلاد، والعمل على استعادة اللاجئين، وإطلاق برامج المساءلة والمصالحة، وتوطيد الأمن والاستقرار المنشود.

الخيار الثاني: إبعاد الأطراف الدولية الثانوية عن مفاوضات الحل السياسي، والإبقاء على اللاعبين الرئيسيين، وهم الآن أمريكا وروسيا وتركيا وإيران، والتوصل معهم إلى اتفاق يرضي الشعب السوري الذي دفع ثمناً باهظاً لنيل حريته من عهد الديكتاتور، ويضمن عدم عودة دورة العنف من جديد.