الأثنين 2017/11/27

حقيقة ما جرى في الرياض٢


مركز الجسر للدراسات...


كما يتفقد الناس حجم خسائرهم بعد الكوارث الطبيعية التي تحلّ بهم، سيتفقّد السوريون حجم الخسارة التي حلّت بهم بعد مؤتمر الرياض 2، وكما تظهر الأرقام الحقيقية تباعاً لنتائج الأعاصير والزلازل والفيضانات، سيتتابع ظهور نتائج هذا المؤتمر، وكما يأخذ وقت الاستفاقة من هول الصدمة وقتاً، كذلك سيأخذ السوريون وقتاً ليستوعبوا ما حدث هناك.

ستعرض الورقة هنا أهم المشاكل التي عصفت بالمؤتمر لتحليلها، وللبحث عن سبل تداركها.

عبد العزيز بن صقر رئيس مركز الخليج للأبحاث، سعودي عيّنته الخارجية لإدارة جلسات مؤتمر الرياض 1، ورغم الملاحظات والاعتراضات على أدائه يومها تمّ تعيينه للمرة الثانية توالياً لإدارة الرياض 2، حين جرت مناقشة الأمر قبل بدء الجلسات، وأن هذا يعدّ استهانة برموز المعارضة السورية المشارِكة، فكان الجواب أنه لابدّ من وجود شخص حيادي، وأن حوار السوريين لا يمكن أن يديره واحد منهم، فهو بنظرهم تكريس لزعامته عليهم.

سننظر هل تمتّع ابن صقر بالحيادية المزعومة أم فرض على المعارضة في أكثر من محطة مواقف مبيّتة مسبقاً، ومرر قرارات وصفها هو أنها من صلاحيات وحقّ الدولة المضيفة أولاً، ومن حقّه وصلاحياته كمدير للجلسات ثانياً، وكم كان حجم هذا التدخّل على نتائج المؤتمر؟

هيئة المفاوضات العليا المنتخبة من السوريين في الرياض 1، والحاصلة على اعتراف بها من الأمم المتحدة بالقرار 2254، والتي خاضت جولات جنيف من 3 إلى 7، والتي حافظت على الوثيقة التأسيسية لها، والتي لم تستمع لنصائح الوزير الجبير في مراجعة موقفها من مصير بشار الأسد على الأقل في المرحلة الانتقالية، هذه الهيئة ما كان ينبغي أن تعامل بهذه الطريقة المُهينة في التخلص منها، ورميها على قارعة الطريق كمنتج انتهت صلاحيته، بشكل أظهرها أنها مملوكة بالكامل للبلد المضيف، في سابقة لم تحدث لا مع المجلس الوطني السوري، ولا مع الائتلاف الذي تستضيفه تركيا.

توجيه الدعوات الذي كان يفترض أن تقوم به هيئة المفاوضات جرى عن طريق موظفي الخارجية السعودية، وبمساعدة أعضاء من المعارضة أرادت لهم السعودية وبتفاهمات دولية أن يكونوا رجال المرحلة القادمة، الأمر الذي تمّ في مستويين:

الأول: المنصات والكتل السياسية: منصة القاهرة وموسكو وهيئة التنسيق والائتلاف، أوكل إليها إرسال قوائم ممثليها. مع افتتاح المؤتمر لم تكن منصة موسكو قد ثبّتت مشاركتها رغم حضور ممثلين لها، لكنها فعلت ذلك لاحقاً.

الثاني: الفصائل والمستقلون: لم تكن هناك أي معايير واضحة تحدد طريقة وسبب اختيارهم، بقراءة أولية للائحة المدعوين بعد إعلانها بدا واضحاً النتائج المُعدة سلفاً، كثيرٌ منهم لم يعلموا أنهم جاؤوا كأصوات انتخابية لمن دعاهم لا أكثر، هم يعلمون ذلك الآن.

من نافلة القول أننا لا نتحدث عن عشرة مدعوّين ولا عن عشرين، نحن نتحدث عن نصف المؤتمر أي قرابة خمس وسبعين شخصية.

نفس المعضلة انسحبت على اللجنة التحضيرية التي أعدت البيان الختامي، فخيار ممثلي الفصائل والمستقلين فيها لم يكن بيدهم، وعددهم فيها لا يتناسب مع نسبة تمثيلهم، كان البيان معدّاً من المنصات والكتل السياسية.

الحضور الروسي للافتتاح وللصورة التذكارية التاريخية، إلى جانب أنه كان حركة استفزازية، إلا أنه كان أيضاً رسالة مشفّرة مفادها أن نتائج المؤتمر يجب أن ترضي الروس الذين كانوا حاضرين في الكواليس لممارسة شتى أنواع الضغط والإرهاب على العديد من المشاركين في المؤتمر.

بعد مداخلات طويلة مملة أشبه ببيانات انتخابية لنحو نصف المشاركين، عرض ابن صقر منتصف النهار مسودة بيان ختامي على الشاشات على أنها من صياغة اللجنة التحضيرية، كان هناك اختلاف بين النسخة المعروضة وبين النسخة الموّزعة ورقياً على الحاضرين.

الفقرة التي تمّ التلاعب بها وإسقاط ما يتعلق ببشار الأسد فيها كانت كالتالي:

وشدد المؤتمرون على محافظة قوى الثورة والمعارضة على سقف مواقفها التفاوضية المعروفة والتي حددتها تضحيات الشعب السوري التي لا يمكن التفريط بها على الاطلاق، ووفق ما نص عليه بيان جنيف 30-06-2012 بخصوص " إقامة هيئة حكم انتقالية باستطاعتها أن تُهيّئ بيئة محايدة تتحرك في ظلها العملية الانتقالية" و " أن من الجوهري الحرص على تنفيذ العملية الانتقالية على نحو يكفل سلامة الجميع في جو من الاستقرار والهدوء.

توقف ابن صقر هنا وطلب رأي المشاركين في الموافقة عليها، فقيل له: أكمل قراءة الفقرة إلى آخرها ليتم اعتمادها كاملة، انتبه عندها أن الورقة المطبوعة فيها زيادة تتضمن التالي:

" فقد أكد المجتمعون على أنه لا يمكن تحقيق ذلك دون مغادرة بشار الأسد، وزمرته، سدة الحكم مع بداية المرحلة الانتقالية".

لم يكن أحد من الحاضرين ولا ابن صقر يرى هذه الفقرة على الشاشة، هناك من تعمّد حذفها من النسخة الالكترونية.

توقّف ابن صقر عن متابعة قراءة البيان، وأوعز إلى موظفي الخارجية سحب النسخ الورقية المئة والخمسين الموزعة على الحضور، وهذا ما تمّ على الفور.

تجمّد اليوم الأول عند هذه النقطة، وانتقل النقاش بعدها إلى قضايا المحاصصة على تشكيلة الوفد، وغيرها من قضايا، المفاجأة المدوّية كانت إعلان ابن صقر أنه لم يعد هناك شيء اسمه "هيئة عليا للمفاوضات" وأن المطلوب دولياً تشكيل وفد مفاوض من أحد عشر شخصاً يتولى مهام العملية التفاوضية بكاملها، كما هو الحال في جانب النظام الذي دأب على إرسال وفد من أحد عشر شخصاً في كل جولات جنيف وأستانا. كرر ابن صقر هذه المسألة أكثر من مرة لكن الجميع لم يلتفتوا إليها ولم يلتزموا بها، وقدموا قوائم لتشكيل هيئة لا تقل عن ثلاثين شخصاً، وعليه انتهى اليوم الأول.

عاد البيان الختامي للتداول في اللجنة التحضيرية إلى وقت متأخر من الليل، وتمّ الاتفاق على صيغة نهائية سلّمت لابن صقر، الذي بدأ بها الجلسة الصباحية من اليوم الثاني.

عرض ابن صقر على الشاشة الفقرة التالية:

" وقد عبر المجتمعون عن وجهة نظرهم بأن ذلك لن يحدث دون مغادرة بشار الأسد وزمرته وأركان حكمه، سدة الحكم خلال المرحلة الانتقالية".

للتذكير هذه العبارة هي البديلة عن الفقرة المحذوفة في اليوم السابق: " فقد أكد المجتمعون على أنه لا يمكن تحقيق ذلك دون مغادرة بشار الأسد، وزمرته، سدة الحكم مع بداية المرحلة الانتقالية".

أيضاً كانت الفقرة المعروض على الشاشة تختلف جذرياً عن النسخة المرسلة من اللجنة التحضيرية، والتي كانت تنصّ على: "وقد عبر المجتمعون عن وجهة نظرهم بأن ذلك لن يحدث دون مغادرة بشار الأسد وزمرته وأركان حكمه سدة الحكم مع بداية المرحلة الانتقالية".

الفارق جوهري وخطير جداً بين مغادرة الأسد الحكم "بداية المرحلة الانتقالية"، وبين "خلالها" التي تعني بالضرورة وجوده فيها دون تحديد في أي مرحلة منها سيغادر، إضافة إلى تحويل هذه القضية من مبدأ من مبادئ العملية السياسية إلى تعبير عن وجهة نظر فقط، بعد أن سقطت قبل قليل في البيان من كونها شرطاً مسبقاً، وانتقالها إلى بند يمكن التفاوض عليه.

اعترض عدد من أعضاء اللجنة التحضيرية على هذا التحريف في البيان الختامي، كان ملفتاً للنظر جواب ابن صقر على أحد المعترضين: (هل تستطيع أن تشرح لي، أو تحدد ما ذا يعني أركان حكمه، وزمرته؟ هل تريدون أن يحدث في سوريا كما حدث في العراق؟)، ظهر الأمر كأنه نوع من الدفاع عن أركان النظام المجرم.

بعد التداول استقر الأمر على تعديل الفقرة لتصبح كما ظهرت في البيان الختامي الرسمي على الشكل التالي: "وقد أكد المجتمعون بأن ذلك لن يحدث دون مغادرة بشار الأسد، وزمرته، ومنظومة القمع والاستبداد عند بدء المرحلة الانتقالية".

الجملة وإن كانت حسب سياق الكلام ضعيفة، ولا تعدو كونها بقيت وجهة نظر، إلا أنها تفادت مطب القبول ببقاء بشار في جزء ما من المرحلة الانتقالية.

القسم الثاني من المؤتمر كان تشكيل وفد موّحد من المنصات جميعها بعد عدول منصة موسكو عن مقاطعتها، قدمت المكونات جميعها أسماء ممثليها الثلاثين بحضور الوزير الجبير، ومع اللغط والاعتراض الشديد الذي سبق الجلسة وأثناءها واحتجاج كثير ممن لم يفز بانتخابات المستقلين، أو تفاهمات الفصائل، وتقديم المنصات والكتل السياسية لأكثر من العدد المخصص لها، تحدث ابن صقر هنا عن كرم الوزير الجبير وأنه قبل إضافة بعض الأسماء الجديدة للهيئة، وبدأ بوضع أسماء من عنده فهذا لأنه علوي، وذاك لأنه كردي، وثالث يمثل فصيلاً تركمانياً، ورابع لأنه ضابط، وخامس من العشائر، ومجموعة نساء بسبب ضعف التمثيل النسائي، وجوائز ترضية للمنصات حتى وصل الهبات والمكرمات إلى واحد وعشرين مقعداً إضافياً غيّرت خارطة هيئة المفاوضات والتوازنات فيها بشكل كامل، وكان واضحاً أن المراد منها فقط إنقاذ المؤتمر من الانهيار، والتمكن من إعلان نجاح توحيد المعارضة، على أن يتم التخلص من الأسماء غير المرغوب بها لاحقاً، وحتى التخلص بطريقة ما من الهيئة والإبقاء على الوفد المفاوض كما هو مخطط كنتيجة لهذا المؤتمر، لكن بعد مداخلة غاضبة من أحد المشاركين واتهامه لمنصة موسكو بالعمالة للنظام، أعلنت المنصة انسحابها، تبعتها منصة القاهرة في إعلان ذلك احتجاجا على نسبة تمثيلها.

الذي حضر طريقة توبيخ المندوب المصري في المؤتمر لمنصة القاهرة بسبب انسحابها، يعلم مدى خضوع هذه المنصة للأوامر المصرية، وبالتأكيد يقاس عليها منصة موسكو، فجرى سريعاً التراجع عن الانسحاب، وانعقد الاجتماع الأول لهيئة التفاوض بعد إبعاد خمسة عشر عضواً، ومنعهم من الدخول رغم أن بعضهم كان منتخباً، لكنه حسب المخطط وصل بالخطأ لهذا المكان، واستقر عدد الهيئة على ستة وثلاثين مقعداً، تملك منه موسكو والقاهرة ثمانية مقاعد، فيما يحتاج تعطيل أي قرار إلى أحد عشر صوتاً فقط، وجرى الالتفاف على رئيس الهيئة بتعيين ثلاثة نواب له سيعملون على تكبيله، وسحب بعض صلاحياته بلا شك.

مكسب آخر حصلت عليه منصتا القاهرة وموسكو في تساوي عدد ممثليها في الوفد المفاوض مع باقي المكونات الأربعة الأخرى: الائتلاف والتنسيق والفصائل والمستقلين.

مع أنه يفترض أن هيئة التفاوض الجديدة بكل مكوناتها وافقت ووقعت على البيان الختامي، إلا أن مندوب منصة موسكو في أول مؤتمر إعلامي للهيئة بدا كخارج تماماً عن أهم ما في هذا البيان، فالمنصة متحفظة على الحديث عن رحيل الأسد، وعلى خروج القوات الإيرانية، وأعلنت مشاركتها في مؤتمر سوتشي الذي يعتبر أكبر مهدد لمسار جنيف الأممي.

منصة القاهرة ستشارك في سوتشي أيضاً، وحاولت منذ أيام قليلة إقناع هيئة التنسيق بالمشاركة أيضاً، ولا يستبعد مشاركة عدد من المستقلين، ومن الفصائل المنضوية في أستانا في مؤتمر سوتشي أيضاً، ما سيمزّق هيئة التفاوض بين مسارين متباينين تماماً في أسسهما وأهدافهما.

بعيداً عن تفاصيل أحداث هذا المؤتمر، وبيانه الختامي الذي لم تلقِ الدول له بالاً، فإنه أحدث الخرق الذي كان دي ميستورا ومن ورائه روسيا بانتظاره سنوات عديدة، فالمعارضة يمثلها وفد موحّد تملك روسيا في قراره ما يغنيها عن إكمال مسار أستانا، وما يغنيها عن فتح مسار سوتشي الذي أعلنت تأجيله بعد نتائج مؤتمر الرياض، فهي تمسك اليوم بمفاصل جنيف، والوثائق بقضّها وقضيضها إن كانت جيدة أو سيئة ليست ذات قيمة، مقابل مكسب تغيير الشخصيات التي لم تكن تأخذ بعين الاعتبار النجاحات التي يحققها الروس، ويفرضون بها وقائع جديدة على الأرض تتيح لهم استثمارها سياسياً على طاولة المفاوضات، ومع غموض الموقف الأمريكي، وغياب الدور الأوربي، يمكن أن نقول: إنها أيام الروس في جنيف 8، وعلى ما تبقى من المعارضة الوطنية التي ستشارك في هذه الجولة أن تعمل على تحجيم الدور الروسي، وقدرته على التدخل في صياغة الوثائق الدستورية والانتخابية التي ستكون على جدول الأعمال، وأن ترفض مناقشتها منفردة بمعزل عن سلة الحكم الانتقالي، فهيئة الحكم الانتقالي هي القادرة أن تهيئ البيئة التي في ظلها يمكن أن يصاغ الدستور وقانون الانتخابات بأيد وطنية، وفي بيئة استقرار لا حالة حرب تمكّن الشعب السوري من الاستفتاء عليه، لا أن تفرضه موسكو كما حاولت ذلك في أستانا، وأن تبقى الملفات الإنسانية وجرائم الحرب التي ارتكبها رأس النظام، والمطالبة بمحاكمته حاضرة دوماً على الطاولة، وإن كان لرأس النظام اليوم محامو دفاع يحضرون الجولة على جانبي الطاولة، في وفد المعارضة قبل وفد النظام.