السبت 2018/11/17

“جيفري” يرسل أسوأ الرسائل الأمريكية لعام 2019

مركز الجسر للدراسات...


الممثل الخاص لسوريا السفير جيمس جيفري خلال 24 ساعة في تصريحين متتاليين يومي 14و 15تشرين الثاني/نوفمبر 2018، أرسل ما يملأ صندوق بريد من الرسائل السياسية في جميع الاتجاهات والمستويات، ولجميع اللاعبين الفاعلين في سوريا. سوء هذه الرسائل يأتي من وجهين:

الأول: أنها سيئة بسبب ما يظهر أنه انتكاسة وتراجع في المواقف الأمريكية، خاصة فيما يتعلق بفهم القرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن عام 2015.

الثاني: أنها سيئة للذين وصلتهم الرسائل بسبب ما تحمله لهم من تحذيرات وتهديدات واضحة ومبطنة. لنستعرض هذه الرسائل بشيء من محاولة ترتيب درجة سوئها حسب المفهومين السابقين.

 

الرسالة الأولى: جدول أعمال أمريكي جديد في سوريا، أم جدول روسي قديم؟

هذه أسوأ رسالة أمريكية على الإطلاق في الملف السوري. الولايات المتحدة تقلب عملية الحل في سوريا رأساً على عقب، وتنسف جهود الأمم المتحدة على مدار السنوات السبع الماضية، وما كان يجري في جولات جنيف التسع بين المعارضة والنظام، وعلى الرغم من استخدام القرار 2254 أكثر من مرة للتدليل على أن جدول الأعمال الأمريكي الجديد مطابق لجدول أعمال القرار 2254، إلا أن جيفري فشل في ذلك بامتياز، عناصر العملية السياسية الثلاثة حسب جدول الأعمال هي التالي:

1-تحقيق الهزيمة الدائمة لتنظيم الدولة.

2-تخفيف التصعيد.

3-العملية السياسية.

 

أبسط تحليل لهذا الجدول يكون بمقارنته بالقرار 2254 الذي وضع جدولاً مغايراً تماماً يتضمن:

 

1-العملية السياسية: في الفقرة الرابعة من القرار. وتشير إلى إقامة حكم ذي مصداقية كان يشار إليه فيما سبق باسم "هيئة حكم انتقالية باستطاعتها أن تهيئ بيئة آمنة محايدة تتحرك في ظلها العملية الانتقالية، وتمارس فيها هيئة الحكم الانتقالية كامل السلطات التنفيذية".

 

2- وقف إطلاق نار: في الفقرة الخامسة "يدخل حيّز النفاذ بمجرد أن يخطو ممثلو الحكومة السورية والمعارضة الخطوات الأولى نحو انتقال سياسي برعاية الأمم المتحدة".

 

3-هزيمة تنظيم الدولة وجبهة النصرة، والمجموعات المرتبطة بها.

 

إذن الجدول الأمريكي يظهر ومن الوهلة الأولى أنه مقلوب. العملية السياسية تأتي أخيراً في سلّم الأولويات، وتضع مكانها هزيمة تنظيم الدولة على رأس أولويات الإدارة الأمريكية.

 

بالتحليل الأعمق قليلاً:

1-هزيمة تنظيم الدولة: ليست أولوية حقيقية للولايات المتحدة، فحجم القوات الأمريكية في سوريا لا يشير إلى ذلك أبداً، "الحرب على الإرهاب" لا تكون بـ 2000 جندي أمريكي، والشريك المحلي المقتصر على ميليشيا PYD الكردية يشير بالمثل إلى عدم هذه الأولوية، فهذه المليشيات لا تمتلك إرادة القتال في المناطق البعيدة عن الحدود التي رسمتها لإقليم "روج آفا" وهي توقفت عن قتال التنظيم مرتين حتى الآن، وسحبت عناصرها لحماية "حدود الإقليم" من تدخلات القوات التركية وفصائل الجيش الحر. هزيمة تنظيم الدولة فقط ذريعة وغطاء شرعي لانتشار القوات الأمريكية لمجموعة أهداف أخرى تعلن منها الولايات المتحدة تحجيم نفوذ إيران في المنطقة ومنع إكمال "الهلال الشيعي"، وقطع الممرّ البرّي الواصل بين طهران وحليفها حزب الله اللبناني على الحدود الإسرائيلية، وحرمان النظام من ثروات وموارد المنطقة الشرقية من النفط والغاز وغيرها، وترك اقتصاده منهاراً لدفعه بقبول العملية السياسية، مقابل السماح له بالوصول إليها.

 

2-تخفيف التصعيد: يتابع جيفري في هذه النقطة: " والبناء على عمليات وقف إطلاق النار القائمة حالياً. الاتفاق الذي توصل إليه الأتراك مع الروس بشأن إدلب في نهاية أيلول/سبتمبر الماضي مهم بشكل خاص، وقد وافق الروس مرة أخرى في اجتماع القمة مع قادة فرنسا وتركيا وألمانيا في 27 تشرين الأول/أكتوبر على أن يكون وقف إطلاق النار هذا دائماً.... ، ونقلها إلى مختلف أنحاء البلاد لتصبح عمليات وقف إطلاق النار شبيهة بما دعا إليه قرار الأمم المتحدة رقم 2254"، القصد أن وقف إطلاق النار هذا الذي يتحدث عنه جيفري ليس من سياق القرار 2254، بل هو من سياق اتفاقات مسار أستانا الذي ترعاه الدول الضامنة الثلاث روسيا وتركيا وإيران، وليس المسار الذي ترعاه الأمم المتحدة حسب القرار المذكور.

 

3-العملية السياسية: يقول جيفري: "وتخضع هي الأخرى لقرار الأمم المتحدة رقم 2254، تتمثل الخطوة الأولى الآن بعقد لجنة تحت رعاية الأمم المتحدة للشروع في العمل على الدستور السوري". الحديث عن هذه النقطة من وجهين:

 

الأول: دي ميستورا استقال من منصبه لأن النظام رفض الاعتراف برعاية الأمم المتحدة للجنة الدستورية، ولا تزال روسيا عاجزة عن إجبار النظام على القبول بدور الأمم المتحدة والانخراط في تشكيل وأعمال اللجنة الدستورية على هذا الأساس.

الثاني: أن تشكيل وأعمال اللجنة الدستورية كان يجب أن تكون وفق القرار 2254 تالياً لإنشاء هيئة الحكم الانتقالية وواحداً من مهامها وليس العكس.

 

للتذكير بأن محادثات جنيف 2 عام 2014 انهارت بسبب عدم الاتفاق على جدول أعمال الاجتماع، حيث كان الروس والنظام يُصرّون على وضع "مكافحة الإرهاب" على رأس جدول الأعمال، فيما كانت المعارضة والدول الداعمة لها وعلى رأسها الولايات المتحدة تطالب بأولوية هيئة الحكم الانتقالية.

الآن جدول الأعمال الأمريكي الذي طرحه جيفري يعود بنا إلى عام 2014 وهو نسخة طبق الأصل عن جدول الأعمال الذي أرادت روسيا فرضه، واستخدمت لأجله الفيتو 12 مرة، وعطّلت مسار جنيف بأكمله وفتحت مسار أستانا وأنتجت من خلاله قضيتي "تخفيف التصعيد" و"اللجنة الدستورية"، وأبعدت العملية السياسية عن المشهد إثر تدخلها العسكري عام 2015، وها هي الولايات المتحدة تتبنّى الجدول الروسي في اللحظة التي تُعدّ فيها المعارضة في أضعف حالاتها على الأرض مقابل ما كانت عليه عام 2014.

تعد هذه الرسالة أسوأ ما كانت المعارضة تنتظره من الولايات المتحدة، وخصوصاً أن نتائج العملية السياسية قد لا تتعدى جواب جيفري حين سئل عن بقاء الاسد في السلطة، بقوله: "لسنا حول تغيير النظام. نحن بصدد تغيير سلوك حكومة ودولة، وهذا ليس مجرد وجهة نظرنا. هذا هو الرأي في سلسلة كاملة من الاتفاقيات الدولية المتعلقة بسوريا منذ عام 2012، وبلغت ذروتها في القرار2254".

 

الرسالة الثانية: سوريا دولة منبوذة، والنظام غير منتصر:

أسوأ رسالة كان ينتظرها النظام من الإدارة الأمريكية الحالية أن يقول جيفري: " تدّعي الحكومة السورية في اتصالاتها الدبلوماسية أنها تحقّق النصر، ولكنها لا تسيطر إلا على أكثر بقليل من نصف أراضي البلاد، وقد فرّ نصف السكان من حكمها الرهيب وباتوا نازحين داخليين أو لاجئين عبر الحدود، ويتعامل معظم المجتمع الدولي مع سوريا على أنها منبوذة، ولن تتدفق أموال إعادة الإعمار إليها منّا، ولا من معظم بقية المجتمع الدولي الذي يوفر عادة أموال إعادة الإعمار قبل أن نشهد تقدما كبيرا في جدول الأعمال الذي سأحدده". يتابع جيفري: "نحن نعتبر أيضا أنه لا يمكن تحقيق الهزيمة الدائمة لتنظيم الدولة قبل حصول تغيير أساسي في النظام السوري، وتغيير أساسي في دور إيران بسوريا، إذ ساهم هذا الدور بشكل كبير في ظهور تنظيم الدولة في المقام الأول في العام 2013 و2014"، ويشدد جيفري أن العملية يجب أن "تنتج نظاماً سورياً غير سامّ مثل النظام الحالي إزاء مواطنيه وجيرانه، ويوفر ضمانات مُرضية لكافة الجهات الفاعلة في سوريا وحولها". ويوضح في لقائه على "ديفنس ون": "عملي أن أؤكد أن نظام الأسد لن يذهب في أي مكان حتى يفتح الباب أمام عملية سياسية".

بالطبع يبقى السؤال كيف يمكن التوفيق بين هذه الرسالة والرسالة الأولى، هذا ما تجيده الإدارة الأمريكية في مواقفها وتصريحاتها الملتبسة والمتناقضة، ويبدو أنها تضع لنفسها دائماً خطوط رجوع عنها باحتمالات متعددة لتفسيرها حسب السياق الذي يتفق مع ما يحقق مصالحها قبل أي شيء آخر.

 

الرسالة الثالثة: المليشيات الكردية.. البندقية المأجورة!

التناقض الأمريكي يبلغ ذروته في رسائله هنا. في رسالة واحدة يستطيع جيفري أن يضع متناقضين متنافرين بشدة جنباً إلى جنب '' لا يمكن أن نفعل أي شيء نقوم به في سوريا دون تعاون تركيا. ونحن لا يمكن أن نكون موجودين في الجزء الشمالي الشرقي من البلاد ومواصلة القتال ضد تنظيم الدولة دون شريك، والذي هو PYD منذ عام 2014".

أكبر خلافات تركيا مع الولايات المتحدة تتمركز حول علاقة الأخيرة بمليشيا PYD، التي تصنفها تركيا كمنظمة إرهابية باعتبارها امتداداً وفرعاً لحزب العمال الكردستاني pkk وقواته المسلحة التابعة له، في الوقت الذي تتحالف فيه الولايات المتحدة معها في قتال تنظيم الدولة، لكن أسوأ رسالة كانت تتوقعها ميليشيا PYD من حليفها الأمريكي أن يقول جيفري عنها وعن YPG، أنها فرع وامتداد وذراع لحزب العمال الكردستاني الذي تصنّفه الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي كمنظمة إرهابية. ما الذي يجب أن تفهمه PYD هنا؟ ببساطة شديدة: التحالف معها هو تحالف عسكري حصرياً، ومؤقت إلى أن ينتهي قتال التنظيم، أو تجد الولايات المتحدة حليفاً أفضل تثق به من القبائل العربية، وبحصول تفاهم مع تركيا ستقع PYD تحت التهديد بالتعامل معها كمنظمة إرهابية ما لم تلتزم بالشروط التي ستفرض عليها من ناحية إلقاء السلاح، والتحول لحزب سياسي مدني، والقبول بالحل السياسي الذي يرضي تركيا، بمعنى آخر: أن ميليشيا PYD لن تحصل على إدارة ذاتية أو على اعتراف دستوري بإقليم خاص على غرار إقليم كردستان العراق، وستذهب كل أعمالها القتالية وتحالفها مع الولايات المتحدة أدراج الرياح.

 

الرسالة الرابعة: حزمة التحذيرات للدول المتورطة في الحرب في سوريا:

يقول جيفري: "ما زال ثمة مخاطر. تشارك في سوريا خمس قوات خارجية – أمريكية وإيرانية وتركية وروسية والوحدات الجوية الإسرائيلية في بعض الأحيان – وذلك تحقيقا لمصالح وجودية مهمة أو مصالح جيرانها في حالات عدة. وعلى غرار ما حصل عند إسقاط الطائرة الروسية العسكرية إي إل-20 مؤخرا، فإن خطر التصعيد حاضر أبدا، بما في ذلك بين جهات فاعلة وطنية عدة".

يرسل جيفري هنا التحذيرات التالية:

الأول: لجميع الدول التي أرسلت قواتها العسكرية أو ميليشيات تابعة لها إلى سوريا بضرورة " انسحاب كافة القوات العسكرية التي دخلت البلاد منذ بداية النزاع في العام 2011. ومن شأن ذلك أن يتضمن مغادرة كافة القوات التي تقودها إيران".

الثاني: تحذير شديد اللهجة للروس في قضية تخفيف التصعيد، فبعد أن قال جيفري: "لقد وافق الروس مرة أخرى في اجتماع القمة مع قادة فرنسا وتركيا وألمانيا في 27 تشرين الأول/أكتوبر، على أن يكون وقف إطلاق النار هذا دائما". توجّه للروس بقوله: "سنحاول جعل الروس يحترمون كلامهم".

الثالث: في الشق السياسي حول اللجنة الدستورية التي أُقِرت في مؤتمر سوتشي برعاية روسيا قال جيفري: "بحلول نهاية العام، سنحاسب روسيا على التزامها بعقد اللجنة الدستورية بحلول ذلك الوقت، ونتوقع أن تستخدم نفوذها لجلب نظام دمشق إلى الطاولة".

أخيراً: جيفري في جواب عن سؤال.. ما هي المدة التي يتوقعها لتحقيق هذا "البرنامج الطموح"؟ أشار إلى ما يقارب مدة عام بشكل مبدئي، وهذا يعني أن عام 2019 سيمضي ضمن هذا الإطار، وعلينا أن ننتظر نهايته لنرى ما سيتحقق، ما لم تخرج علينا الإدارة الأمريكية بمفاجآت جديدة كما عوّدتنا على ذلك.