الأربعاء 2018/01/17

جيش الشرق الفرنسي 14000علوي… وجيش الشمال الأمريكي 15000 كردي


الجسر للدراسات


ما أشبه اليوم بالأمس، مائة عام تماماً تفصل بين الحدثين، لكنها تروي قصة متشابهة.

عام 1918 انسحبت الجيوش التركية من سوريا، وبدأ الوطنيون السوريون العمل على إنشاء الدولة السورية، وهو ما تمّ الإعلان عنه في 8/مارس/آذار 1920، لكن الاتفاق البريطاني الفرنسي في سان ريمون وضع البلاد تحت الانتداب الفرنسي، الذي احتل سوريا بعد معركة ميسلون 24/يوليو/تموز 1920.

صكّ الانتداب كان يوجب على فرنسا إعداد جيش محلّي، الأمر الذي كان العمل قد بدأ عليه عام 1916 بهدف إنشاء قوات محلية من أبناء المناطق التي يريد الفرنسيون احتلالها فيما بعد، بحيث يوفّرون الغطاء الشرعي للقوات المحتلة، ويعملون على توطيد الأمن والاستقرار للمستعمر.

وجد الفرنسيون ابتداء ضالّتهم في الأرمن الذين يجمعهم بالفرنسيين الكراهية والحقد على الدولة العثمانية آنذاك، لينضم إليهم لاحقاً الموارنة الذين يشتركون معهم بالضغينة أيضاّ على الأغلبية العربية المسلمة.

ما بين عامي 1919-1925 صار أغلب عناصر "القوات الخاصة للشرق" من الأقليات: من الفلاحين العلويين، والدروز، والإسماعيلية، والأكراد، والشركس، وغيرهم.

ستقود سياسات فرنسا في تعاطفها مع المطالب الانفصالية لهذه الأقليات إلى إحداث شروخات عميقة في المجتمع السوري، وإلى تقسيم سوريا إلى خمس دويلات على أسس عرقية ودينية ومذهبية.

الولاء الكامل للمحتل كان سمة هذه القوات، وبسبب الجهل، والتخلف الناشئ عن الخلفية الجبلية، ظهرت الممارسات الوحشية التي عومل بها أبناء المدن، وعن هذه الانتهاكات والتعديات ارتكبتها أرسل القنصل البريطاني سمارت إلى خارجيته خطاباً في 23/2/1926 يقول فيه: "جرّ الفرنسيون.... جميع الأقليات للمواجهة ضد الإسلام العربي، ومن المتحقق أن العرب لن ينسوا هذه الحقبة المفجعة".

حرصت سلطات الانتداب الفرنسي قبل خروجها من سوريا على ضمّ هذه القوات إلى صفوف الجيش السوري، بالمزايا الخاصة التي كانت تتمتع بها، فانقلبوا أكثر من مرة على الحكومات المدنية المركزية المنتخبة، ورسّخوا حكم العسكر الذي وصل نهاية المطاف إلى حكم آل الأسد الدموي.

اليوم سوريا يتقاسمها أكثر من محتل، وأكثر من سلطة انتداب، فمناطق النظام تحت احتلال، وسلطة انتداب الروس والإيرانيين، ومناطق الأكراد انتداب وخضوع وولاء للأمريكيين.

حصة الروس جيش النظام بصبغته العلوية الغالبة، والروس همّهم الأول أن يرثوا هذا الجيش كما ورثوا جيوش الحقبة السوفييتية، فالجيش النظامي يحكم البلاد من خمسين عاماً تقريباً، وهو مفتاح تحقيق مصالح الروس شرق المتوسط، وموطئ قدمهم في المياه الدافئة، وهم يصرّحون بضرورة استمرار هيمنتهم على جيش النظام تسليحاً وعقيدةً، وأنّ هذا لا يتأتى لهم إلا من خلال الحفاظ على التركيبة الحالية للجيش، ووجود ضابط كبير علوي على رأسه، أو على رأس الحكم في سوريا.

الإيرانيون من جانبهم، كما استولوا على الدولة اللبنانية وقرارها عن طريق حزب الله، واحتلوا العراق ووضعوا حكومة تابعة لهم في بغداد، ونصّبوا الحوثيين حكّاماً على اليمن، هم يسعون إلى وضع دمشق عاصمة الأمويين تحت انتدابهم، فهذا حبل إنقاذ ملفاتهم الدولية الكثيرة العالقة بدءاً من الاتفاق النووي، مروراً بخلافاتهم مع دول الخليج العربي، وانتهاءً بالعلاقة المتوترة الدائمة مع تركيا.

الأمريكيون كما الفرنسيون من مائة عام وجدوا ضالّتهم في حزب الانفصاليين الأكراد، الذين يحملون الكراهية والبغضاء للعرب السنة، وللدولة التركية، والذين بنظرهم يقفون عائقاً أمام تحقيق حلمهم المنشود في إقامة الدولة الكردية، وما الإعلان عن وجود عناصر غير كردية في الجيش الذي تريد الولايات المتحدة تأسيسه، إلا لذرّ الرماد في العيون، وإسكات أبناء المنطقة من غير الكرد عن الاعتراض على هذه الخطوة.

حلم الدولة هي آخر ما يفكر الأمريكيون منحه للميليشيات الكردية، إن لم نقل هو غير وارد في حساباتهم مطلقاً، لديهم حزمة أهداف أهم بكثير من هذا:

1- حماية أمن إسرائيل بمنع الممر البري الواصل بين إيران وحزب الله في الجنوب اللبناني.

2- إزعاج روسيا، وتوريطها بشكل أكبر يشبه الحالة الأفغانية، والتسبب باستمرار الخسائر العسكرية والاقتصادية الناتجة عن دخولها الحرب في سوريا، وحرمانها من قطف ثمرات النصر الذي يزعمه بوتين.

3- ابتزاز حلفائها الخليجيين في مسألة تحجيم النفوذ الإيراني في المنطقة.

4- إيجاد قواعد عسكرية بديلة عن تلك الموجودة في تركيا، فالعلاقة هناك قد تصل إلى درجة القطيعة قريباً.

5- الحصول على الغطاء القانوني لوجود قواتها على الأراضي السورية، فنظام الأسد لا يزال يعتبرها قوات غير شرعية، ويطالب بخروجها، والولايات المتحدة حين تنشئ جيش الشمال ستحصل على هذه الشرعية، فالجيش عناصر وقوات سورية محلية، والسلطة المركزية فقدت السيطرة على هذه المناطق، وسيستقر الأمريكيون بصفة الخبراء والمستشارين للقوات العسكرية، وللإدارات الذاتية المدنية.

القراءة السياسية للأحداث اليوم تقول: إن المشروع الأمريكي ليس مشروع تقسيم كما يزعم النظام في محاولة إثارة حالة تخوينية، وعدائية عامة اتجاهه، فانتشار الأكراد على ضفاف الفرات في عمق مناطق القبائل العربية يمنع ذلك بشكل قطعي، بل لو تأمل الاكراد هذه المسالة قليلاً لتوصّلوا بسهولة إلى هذا الاستنتاج، وأنّ الأمريكيين حين أوصلوهم إلى الفرات، فهم لا زالوا يستخدمونهم كبندقية مأجورة، ومرتزقة رخيصي الثمن، أو حتى بدون ثمن، ولو كان مشروع الأمريكيين التقسيم لأبقوا الأكراد في المناطق التي يزعمون أنها لهم تاريخياً قريباً من الحدود التركية، وليس على مساحة تقرب من ربع مساحة البلاد.

سنفترض أن الأكراد يدركون هذا، ويخططون لترك المساحات العربية لنصف الجيش الثاني الذي سيشكله الأمريكيون من أبناء القبائل العربية، ومن ثمّ يعيدون نشر ميليشياتهم في حدود الدولة التي يخططون لها، لكن تجربة الأكراد المريرة في إقليم كردستان العراق يجب أن تكون درساً واضحاً لهم، فالاستفتاء على الدولة الكردية كان كافياً لإعلان وفاتها قبل ولادتها.

التاريخ يقول: إن الأكراد لا يتعلمون، وسيكررون التجربة الفاشلة مرّات ومرّات، لكنهم سيدفعون ثمناً باهظاً في كل مرة، بينما كانوا سيكسبون في سوريا مكسباً عظيماً، لو استمروا مع الشعب السوري في ثورته ضد نظام الاستبداد، وأنشأوا سويّة دولة المساواة والحرية والكرامة.