الأربعاء 2018/01/03

إيران في مهبّ الريح


مركز الجسر للدراسات


ثمّة فارق جوهري بين الحركة الخضراء في إيران عام 2009، وبين الثورة المندلعة حالياً نهاية عام 2017.

الحركة الخضراء وقعت إثر انتخابات رئاسية جرى تزويرها لصالح محمود أحمدي نجاد المدعوم والمقرب من المرشد مقابل مرشح المعارضة مير حسين موسوي، كان الشعار الذي ملأ الشوارع "أين صوتي؟ ""من سرق صوتي أيها الدكتاتور"؟

واجهت السلطات الإيرانية الاحتجاجات بالقمع الأمني الشديد، الذي أدى لمقتل العشرات واعتقال المئات من المحتجين، لكن فرض الإقامة على قادة المعارضة الإصلاحيين البارزين، كان كافياً لترك المتظاهرين دون قيادة تحركهم وتوجههم، مما أدى لانهيار الحركة الخضراء وتوقفها خلال أشهر قليلة.

لا شك أن مطالب الإصلاحيين كانت أبعد من قضية الطعن في نتائج الانتخابات، لكن هذه المطالب بقيت حبيسة بيد النخبة التي لم تستطع إيصالها بشكل واضح ومحدد إلى الشارع الذي كان يحتاج إلى شيء أكثر من قضية تزوير الانتخابات، كان يحتاج إلى حزمة المطالب والمبادئ الإصلاحية تلك ليوسّع نطاق احتجاجاته، ويجلب إليه عدداً أكبر من الإيرانيين المتضررين من نظام الملالي، لا من تزوير الانتخابات فقط، فحتى لو وصل موسوي للرئاسة، كانت هيمنة الولي الفقيه وعصابة الملالي والحرس الثوري، ستستمر في اضطهادها للشعب الإيراني.

اليوم نحن أمام ثورة شعبية حقيقية ناضجة بكل معنى الكلمة، فهي أولاً لن تُضرب باعتقال قيادة لها، فهي لا تملك ذلك أصلاً، وعفويتها ستكون أحد أسرار نجاحها.

من ناحية ثانية رفع الثائرون في الشارع مجموعة كبيرة من المبادئ والمطالب الإصلاحية التي ينادون بها، ويسعون للحصول عليها، وهي متنوعة تشمل جميع مناحي الحياة والاحتياجات اليومية للمواطن الإيراني، وهذا يعني أنها ستجلب إلى صفوفها عدداً لا يوصف من الإيرانيين، بحيث يصعب السيطرة عليهم مهما بلغ حد العنف الذي ستمارسه السلطات الإيرانية ضدهم، وسيكون هذا أيضاً من أسرار نجاحها.

عنف السلطة ضد المتظاهرين السلميين الذي بدأ فوراً بإطلاق النار والقتل، سيؤجج حالة غضب عارمة، وكرة الثلج ستتدحرج وتكبر بحجم عنف السلطة، وبحجم الدم المراق في الشوارع، وبحجم عدد المعتقلين في السجون، وسيكون هذا سرا  آخرا  من أسرار نجاحها.

الشعب الإيراني لم تفته تفاصيل وأحداث الربيع العربي، يبدو أنه فهمها وحفظها بدقة بالغة، وعلم مسبقاً ما ذا سيحدث له من اللحظات الأولى التي يعلن فيها تمرده على نظام الملالي، كان أول ما فعلته الأنظمة العربية الديكتاتورية توجيه أصابع الاتهام للمتظاهرين بالعمالة، والارتباط بجهات خارجية تحركهم، وتغدق عليهم الأموال لقلب نظام الحكم، لذا نجد المتظاهرين الإيرانيين يرفعون شعار "إيران أولاً" لنفي صفة العمالة الخارجية عنهم، فهم يريدون مصلحة البلاد واستقرارها لا تخريبها أو نشر الفوضى فيها، ومع أنه يظهر كشعار بسيط حين يقولون: "اترك سوريا وفكر في حالنا"، و "لا غزة ولا لبنان، روحي فداء إيران".

لكن أيضاً مع مقصد نفي العمالة فالشعار مليء بالاحتجاج على الأحوال المعيشية والتدهور الاقتصادي بسبب الحروب التي تشنها إيران في المنطقة، و بسبب دعمها لأنظمة وميلشيات تنفق عليها من قوت الشعب الإيراني الذي يعاني الأمرين من هذه الحروب المكلفة جداً، والتي أعجزت الخزينة العامة للدولة.

رغم هذين المقصدين الصحيحين فالجميع في إيران يعلمون ما وراء ذلك، فالشعار يضرب بقوة على أول وأكبر مبادئ الثورة الخمينية: "مبدأ تصدير الثورة" إذن نحن أمام رفض غير مسبوق للثورة الخمينية ولنظام الولي الفقيه، وللملالي والآيات التي تعمل باسمه، وهذا يفسر الشعار الثاني المرفوع اليوم "الموت للديكتاتور" فبينما لم يكن يُصرّح باسمه فيما سبق، فالمتظاهرون يوجهونه وبكل صراحة ووضوح للمرشد الأعلى للثورة "علي خامنئي" خليفة الخميني.

ففي كرمانشاه ردد المتظاهرون "الموت لخامنئي"، وفي أصفهان أكبر المحافظات الإيرانية بعد طهران ومشهد، هتف المتظاهرون بشعارات ضد المرشد "سيد علي عفواً، حان وقت رحيلك". في الأهواز هتفوا: "الشعب يلجأ للتسوّل والآقا (خامنئي) يعيش في نعيم".

جزء من هذا الاعتراض على الحكم الديني اقتصادي بلا شك، "فعوامُّ الإيرانيين" ملُّوا من دفع خُمْس أموالهم للآيات والملالي ليتنعموا بها في أفخم منتجعات العالم، بينما يقبعون هم في بؤس شديد، لكن أيضاً هم يرون أن "نظرية الوليّ الفقيه" لم تعد صالحة كنظرية سياسية للحكم، وأن الدولة الدينية الثيوقراطية ذات الصلاحيات المطلقة للولي الفقيه الذي ورث "عصمة الأئمة من آل البيت" كما يزعم، ليس لها مكان في العصر الحديث، وأن الشباب الإيراني يحلمون بمستقبل واعد في عالم متحضّر بعيداً عن العباءات والعمائم.

كذلك تشغل الفتيات الإيرانيات مساحة واسعة من هذه الثورة كما ظهر في الصور الأولى للشارع، فالتذمّر واسع في صفوف الإيرانيات من "الشرطة الدينية" التي لا همّ لها إلا "عفّة النساء"، والمرأة الإيرانية تتوقع في كل لحظة قيام الشرطة الدينية بالقبض عليها، واعتقالها بحجة مخالفة اللباس، أو قلة الاحتشام.

فشل الرئيس روحاني في "كبح جماح شرطة الأخلاق" كما وعد في حملته الانتخابية، مع أنه طلب من بعض "المتشددين" التوقف عن التدخل في حياة الناس، وانتقد من وصفهم بأنهم "يعتقدون أننا لا زلنا نعيش في العصر الحجري"، بقي "حرّاس الأحياء" يجوبون الشوارع لمراقبة احتشام الفتيات، كانت المؤسسة الدينية السياسية أقوى من روحاني.

جزء آخر يقلق الشعب الإيراني، وهو العلاقات الدولية الخارجية لبلادهم بكل محيطها الإقليمي أولاً، وخصوصاً الخليج العربي، فإيران تنطلق في تعاملها هنا من إيديولوجيا المذهب الشيعي المعادي لأبعد الحدود لكل ما حوله من العالم السنّي، بل تعمل على التدخل في الشؤون الداخلية للعديد من هذه الدول، وتحرّك القلاقل فيها عبر الطائفة الشيعية المقيمة فيها، وهي تشنّ عدة حروب باسم المذهب الشيعي بدءاً من العراق ومروراً بسوريا وصولاً إلى اليمن، إضافة لتهديدها لاستقرار دول أخرى كالسعودية والبحرين ولبنان، وهي تفاخر بأنها تحتل أربع عواصم عربية بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء، وتطالب بحكم من نوع ما على الحرمين الشريفين في مكة والمدينة.

تسأل الأمهات الإيرانيات: في سبيل من يُقتل أبناؤنا في أراضٍ بعيدة، ويعودون إلى الوطن بالتوابيت، بينما أبناء الآيات والملالي يدرسون في أرقى الجامعات الأوربية؟

تنامى قلق الشعب الإيراني من سياسة حكامه الخارجية إثر وصول الرئيس الأمريكي ترامب للحكم، وتغييره لكل سياسات سلفه أوباما اتجاه إيران، وعلى رأسها الاتفاق النووي، ويخشى الإيرانيون أن تعود البلاد إلى عزلتها الدولية، والحصار الاقتصادي وتجميد رؤوس الأموال الذي كان مضروباً عليها، مما سيساهم في تفاقم تدهور الحالة الاقتصادية السيئة الآن.

الثورة على نظام الملالي في إيران، ستتّسع، وستلقى تأييداً إقليمياً ودولياً كبيراً، فلا أحد في شعوب المنطقة يرغب أن تحكمه السلطة الدينية الإيرانية، وتفرض عليه مذهبها الشيعي، والنظرة المتشددة، والتدخل في سلوك الأفراد، وسيكون هناك رأي عام يدفع قادة الدول في المنطقة لدعم الشعب الإيراني في التخلص من حكامه، والانتقال بإيران نحو دولة عصرية تحترم حسن الجوار، وتساهم في توطيد الأمن والاستقرار.

من جانب آخر ستنكفئ السلطة الإيرانية على نفسها للتصدي لأزمتها الداخلية العاصفة هذه، مما يعني التخلّي عن كثير من مشاريعها العدوانية في المنطقة، وستضطرها الأزمة للانسحاب من العراق وسوريا، والتوقف عن دعم الحوثيين في اليمن، وحزب الله في لبنان، وخلاياها النائمة في الخليج العربي، وسيبدأ عملاؤها وأتباعها في هذه الدول وعلى رأسهم بشار الأسد، والعبّادي، وحسن نصر الله، والحوثي بمراجعة حساباتهم والخروج بأقل الخسائر الممكنة من حروبهم التي يخوضونها في بلدانهم.

في ترتيب الأولويات يظهر نظام الأسد كأشد المتضررين من ثورة الشعب الإيراني، وسيجد الأسد نفسه بعد مدة وجيزة وحيداً، يحاول الوصول إلى تسوية ولو كانت مذلّة له، أو الفرار من البلاد، فقد بدأت تصل إلى أسماعه في قصره تخوّفات أبناء الطائفة العلوية من حدوث انهيار في صفوف جيشه فيما لو انسحبت الميليشيات الإيرانية، وحينها قد تبدأ الحرب الأهلية الحقيقية في سوريا، وتصفية حسابات جرائم السنوات السبع الماضية.