السبت 2018/01/20

“أمريكا الضائعة”.. والحرب الخاطئة في سوريا

لم يكن مصادفة أن يختار وزير الخارجية الأمريكي نفس عنوان الدراسة الصادرة عن معهد الحرب الأمريكي في مارس آذار الماضي 2017، ليجعلها عنواناً للقائه في مؤسسة هوفر، مع "كوندوليزا رايس" وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، "طريق أمريكا إلى الأمام في سوريا"، وليعلن معها عن سيطرة عقلية تدفع المنطقة إلى مزيد من العنف والفوضى، فمكاسب الإدارة الأمريكية في عهد ترامب ستكون أكثر بكثير فيما لو تبنّت سياسات تساعد على الاستقرار، وعودة الأمن والهدوء لهذه المنطقة المشتعلة.

"الولايات المتحدة لن تتراجع" هذه رسالة تيلرسون الأساسية، والحرب على الإرهاب هي الوسيلة المُثلى للوصول إلى حل سياسي يأتي عقب توفير الظروف الموضوعية لانتخابات تؤدي على خروج الأسد من السلطة.

كيف وصف تيلرسون نظام الأسد؟

منذ نحو 50 عاماً، عانى الشعب السوري من دكتاتورية حافظ الأسد وابنه بشار الأسد. طبيعة نظام الأسد خبيثة، مثل نظامه الإيراني الكفيل. وقد عزّز ذلك إرهاب الدولة، ومكّن الجماعات التي تقتل الجنود الأمريكيين، مثل تنظيم القاعدة. وقد دعم حزب الله وحماس وقمع المعارضة السياسية بعنف. وتتضمن استراتيجية بشار الأسد الكبرى ما هو أبعد من البقاء على قيد الحياة، استضافة بعض العناصر الإرهابية الأكثر راديكالية في المنطقة واستخدامها لزعزعة استقرار جيرانه. نظام الأسد فاسد، وقد استبعدت أساليبه في الحكم والتنمية الاقتصادية بشكل متزايد بعض المجموعات العرقية والدينية. وسِجلّه في مجال حقوق الإنسان شهير بالسوء في مختلف أنحاء العالم.

لا يمكن أن يستمر هذا القمع إلى الأبد. على مر السنين، نشأ غضب كامن داخل البلاد، وانتفض العديد من السوريين وعارضوا حكم الأسد. وفي غضون أيام من بدء مظاهرات سلمية اجتاحت سوريا في العام 2011، استجاب الأسد ونظامه لشعبه بالرصاص وأحكام السجن.

ومنذ ذلك الوقت، أصبحت قصة سوريا قصة كارثة إنسانية. لقد قَتَل الأسد ما يصل إلى نصف مليون سوري. وثمة أكثر من 5,4 مليون سوري لاجئ، و6,1 مليون مشرد أو نازح داخلي. تدمرت مدن عن بكرة أبيها نتيجة للنزاع بين قوات النظام والمعارضة، وسوف تستغرق إعادة بناء الأمة بأكملها سنوات.

لم تكن الجهود الأمريكية السابقة لوقف الصراع فعّالة. وعندما استخدم الأسد الأسلحة الكيماوية ضد شعبه في العام 2013، متحدياً تهديد الخط الأحمر الأمريكي، دفع التقاعس الأمريكي النظام إلى مزيد من تجاهل أرواح المدنيين. وفي نيسان/أبريل من العام الماضي، ردت إدارة ترامب على استخدام الأسد لغاز السارين ضد المدنيين بصواريخ كروز لتحطيم قدرة النظام على شن المزيد من الهجمات بالأسلحة الكيميائية، وحماية المدنيين الأبرياء، وثني النظام السوري عن استخدام الأسلحة الكيميائية أو نشرها. تأخذ الولايات المتحدة على محمل الجد تهديدات الأسلحة الكيميائية، ولا يمكننا أن نقف مكتوفي الأيدي ونسمح باستعمالها. وسنواصل السعي إلى تحقيق المساءلة والعدالة لضحايا ذلك الهجوم.

في كانون الأول/ديسمبر 2016، سقطت مدينة حلب الرئيسية في يد النظام بعد حملة وحشية دمرت تلك المدينة التي كان يبلغ عدد سكانها أكثر من مليوني شخص قبل الحرب. ورمَزَ ذلك إلى تصميم النظام الذي لا يرحم على استعادة الزخم في الصراع. كما أدى إلى ظنّ الأسد مخطئاً أنه سيحافظ على السلطة بدون معالجة المظالم المشروعة للشعب السوري.

انبثق "تنظيم الدولة" أصلاً من رماد تنظيم القاعدة في العراق الذي كان الأسد يدعمه بالسر. وتشير الأدلة إلى أنّ الأسد قد حرّض أيضاً "تنظيم الدولة" من خلال الإفراج عن إرهابيين معروفين من السجون السورية وغضّ الطرف عن نموّ التنظيم. استغل التنظيم عدم الاستقرار وغياب سلطة مركزية في سوريا لإقامة ما ادّعى زوراً أنها "الخلافة" وعاصمتها مدينة الرقة السورية. في نهاية المطاف، توسّع التنظيم ليمتلك في ذروته أراضي تساوي رقعتها رقعة المملكة المتحدة تقريباً، إلى جانب قوة قتالية كبيرة. ومع تدفق النقد من المصارف المنهوبة والسيطرة على حقول النفط في سوريا والعراق، كان "تنظيم الدولة" يتمتّع بمختلف العناصر للبقاء وشنّ هجمات على أراضي الولايات المتحدة وحلفائنا. اجتذب إنشاء دولة إرهابية أصولية الآلاف من الجهاديين من أكثر من 100 دولة، ودفع إرهابيين آخرين في مختلف أنحاء العالم إلى ارتكاب هجمات حيث يعيشون.

لقد قام الأسد باستخدام الغاز ضد شعبه، وقصف قرى بأكملها وأحياء حضرية بالبراميل المتفجرة، وقوّض بشكل متكرر أي فرصة للتوصل إلى حل سلمي للخلافات السياسية. وتتواصل هذه الانتهاكات حتى يومنا هذا.

باختصار، تبقى سوريا مصدراً لتهديدات استراتيجية شديدة وتحدياً كبيراً لدبلوماسيتنا. ولكن ستواصل الولايات المتحدة مشاركتها في سبيل حماية مصالحنا الأمنية الوطنية.

هكذا وصف تيلرسون نظام الأسد؟

تيلرسون وضع " الهزيمة الكلية والدائمة لتنظيم الدولة والجماعات المتطرفة الأخرى" على رأس الأولويات الخمس للولايات المتحدة في سوريا، لكن هل ستؤدي هذه الحرب باستراتيجيتها الحالية إلى خروج الأسد "بانتخابات"، ألم يكن من الأجدر وضع خروج الأسد استناداً للوصف السابق على رأس الأولويات الأمريكية؟

هذا أولاً، فكيف إذا كانت " أمريكا تخوض حرباً خاطئة في الشرق الأوسط." حسب دراسة معهد الحرب الأمريكي؟

جيش الشمال الكردي على مساحة تقارب ربع مساحة سوريا، سيكون هو الشريك الفعلي للولايات المتحدة في حربها الخاطئة كما يرى معهد الحرب الأمريكي، الذي يقول:

1- مكافحة الإرهاب يجب أن تتم من خلال شركاء مقبولين في المجتمعات "العربية السنّية" في العراق وسورية. الاستراتيجية الحالية ستمكّن قوات النظام السوري المتحالف مع الروس والإيرانيين، أن يحلّ محل تنظيمي الدولة والقاعدة، مستغلاً ضعف المجتمعات "العربية السنية".

2- وأنه يجب أن تعمل "الولايات المتحدة" على وقف تصعيد النزاع السياسي التركي الكردي في سوريا للحصول على التأثير على كل الأطراف الفاعلة. الأهداف السياسية الكردية في سوريا تهدد مصالح الولايات المتحدة. الولايات المتحدة يجب أن توقف تقدم هذه القوات ضمن الحدود الطبيعية لها.

المدخلات الخاطئة تقود إلى نتائج خاطئة، ومدخلات سياسة أمريكا الخاطئة تتمثل في:

1- تنظيم الدولة هو أخطر تهديد للأمن الأمريكي.

2- تنظيم الدولة سوف ينهار عندما يستعيد وكلاء أميركا مناطق شمال شرق سوريا.

3- الولايات المتحدة ينبغي أن تدعم حلفاءها فقط بالقتال ضد تنظيم الدولة.

الاستمرار في هذه الحرب الخاطئة بالمعطيات الحالية سيؤدي إلى خسارة الولايات المتحدة بلا شك، ماذا سيحدث بعد نشر الميليشيات الكردية شمال شرق الفرات؟ سيعيد تنظيم الدولة تأسيس نفسه في مناطق أخرى، طرد التنظيم هناك مجرد أمر سريع الزوال، وقد يأتي بنتائج عكسية، وقد تدفع هذه السياسة إلى نشوء تحالفات جديدة بين التنظيم والقبائل العربية أبناء المنطقة لطرد الكرد منها. كما حصل مثل هذا التحالف في العراق لطرد المليشيات الشيعية من المناطق السنّية.

 

لماذا جيش الشمال؟

المتتبع لسير معارك التحالف الذي تقوده أمريكا، يعلم أن الكرد لا يقاتلون، ولا يواجهون تنظيم الدولة وجهاً لوجه، تتكفّل الغارات والضربات الجوية العنيفة بهزيمة التنظيم وفراره من مناطق سيطرته، لتأتي المليشيات الكردية وتستلم هذه المناطق، وتنشر عناصرها على امتدادها، والقتل الذي يحدث في صفوفها أحياناً يكون بسبب الألغام، أو بعض الجيوب غير المطهّرة، أو كمائن وغارات تقوم بها فلول التنظيم، والمليشيات الكردية غير قادرة على الاحتفاظ بهذه المناطق دون الحماية الأمريكية التي نزلت إلى الأرض من خلال قواعدها العسكرية، وجنود مُشاة قواتها البرية، وجيش الشمال سيبقى كذلك، فلا هو قادر على مقارعة تنظيم الدولة حال إعادة تجميع نفسه، ولا الدخول في معارك مع قوات النظام المدعومة روسياً، أو المليشيات الشيعية المدعومة إيرانياً، أو الثبات أمام الجيش التركي حال وجود تهديد قرب الحدود، لذا فالغاية الأساسية من تشكيله أن يعمل كجهاز أمني واستخباراتي، وكشرطة مدنية تمارس القمع والعنف والاضطهاد ضد أبناء المنطقة من الكرد والعرب والتركمان والآشوريين المناوئين لهم، ويؤمّن حماية حقول النفط والغاز من تعدّيات السكان المحليين، ويوفّر سلامة المنشآت المدنية، والمباني الحكومية كالمشافي والمدارس والأفران وغيرها. هذا هو الاستقرار الذي تتحدث عنه أمريكا.

وهذا هو الفارق الجوهري في سياسة أمريكا بسوريا عن سياستها في العراق، ففي العراق كان لديها شريك حكومي وطني استطاع تعبئة جيش قوامه مئات الآلاف من الجنود، هذا من جانب، ومن جانب آخر منح الشرعية لوجود القوات الأمريكية على الأراضي العراقية، الأمر الذي لا تستطيع المليشيات الكردية فعله، لذا أضافت أمريكا بُعداً جديداً في عملها بسوريا بالسعي نحو بناء الهياكل السياسية والمدنية اللازمة لإدارة المناطق المحررة وتأمين استقرارها، ولمنح أمريكا الشرعية لاستمرار وجودها على الأراضي السورية، بمعزل عن حكومة النظام في دمشق، ولهذا تحدّث الوزير تيلرسون عن " نشر الولايات المتحدة دبلوماسيين إضافيين في المناطق المتضررة بسوريا"، وأضاف " وجودنا العسكري مدعوم بفرق تابعة لوزارة الخارجية الأمريكية، والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية تعمل بالفعل مع السلطات المحلية لمساعدة الشعوب المحررة على تحقيق الاستقرار في مجتمعاتها المحلية".

الثابت الوحيد في السياسة الأمريكية هو "عدم خروج الأسد من السلطة على خلفية تصعيد أو صراع عسكري" حسب ما ذكرت دراسة مؤسسة راند "كيف يمكن منع انهيار الدولة في سوريا"، وهي نقطة التلاقي الأقوى مع سياسات كل من روسيا وإيران حول سوريا، وعلى أساس ذلك يجري الدفع من كلا المحورين، وإن كان على مسارين يبدوان مختلفين، لكنّ مؤدّيهما بالحقيقة واحد، فأمريكا تدفع بمسار جنيف، وجولته التاسعة التي ستجري في فيينا بعد خمسة أيام ستناقش موضوعا واحداً هو سلة الدستور حسب القرار 2254، بينما تدفع روسيا وإيران بمسار سوتشي الذي سيناقش أيضاً قضية الدستور وحدها، وكلا المسارين يتحدثان عن انتخابات على أساس الدستور الجديد، يقول تيلرسون: "تعتبر الولايات المتحدة أنّ الانتخابات الحرة والشفافة التي تشمل مشاركة المغتربين السوريين الذين تشردوا وكل من أُجبروا على الفرار من الصراع ستؤدي إلى رحيل الأسد وأسرته عن السلطة. ستستغرق هذه العملية وقتاً، ونحث على الصبر حتى رحيل الأسد ونشوء قيادة جديدة. قد لا يأتي التغيير المسؤول على الفور كما يأمل البعض، ولكنه سيتم من خلال عملية تدريجية للإصلاح الدستوري والانتخابات التي تشرف عليها الأمم المتحدة. ولكنّ هذا التغيير قادم لا محالة".

لا فرق إذن كثيراً بين سياسات هذين المحورين، فروسيا وإيران تعملان ومنذ مدة طويلة على مثل الاستراتيجيات التي حدّثنا عنها تيلرسون لكن مع شريك آخر هو النظام، ثم يعودان للتلاقي في عدم وجود أي ضمانات دولية لتأمين انتقال سياسي، وخروج الأسد "مجرم العصر" من السلطة.

كان المنطق السياسي والأخلاقي يقول: أن تركز الولايات المتحدة وكل دول العالم على حرب الأسد: منبع الإرهاب، والمهدّد الأوّل للأمن والسلم الدوليين، لا أن يُمنح الأمان بعدم خروجه من السلطة بالوسائل العسكرية، ويُمنح معها أيضاً مزيداً من الوقت بحجة الإصلاحات الدستورية، وتأمين البيئة الآمنة والمحايدة لإجراء الانتخابات.

هل كان الدستور هو سبب ثورة السوريين على نظام الدكتاتور؟ أم العنف السياسي، وتسلّط مافيا آل الأسد، والأجهزة الأمنية والعسكرية على الشعب السوري، وتدخّلها في كل تفاصيل حياته اليومية، وتحكّمها بمقدرات الدولة ومؤسساتها التشريعية والقضائية والتنفيذية؟