الخميس 2017/11/09

يخلق من الأسد أربعين!

تحتاج الديكتاتوريات دائماً إلى عدوّ تصنعه للجماهير ثم تُحكم قبضتها تحت عنوان محاربة هذا العدو. ووَفق هذا المنطِق يقوم الديكتاتور بسلب إرادة شعبه وسرقة أمواله وزجّ معارضيه في السجون والمنافي؛ لأنهم "عملاء" لهذا العدوّ، أو لأنهم يُحبطون عزيمة الجماهير في "مقاومة العدو".

قد يكون هذا العدو دولةً أو تياراً أو منهجاً أو شخصاً، يصنع منه الطاغيةُ فزّاعة ويُظهر نفسه بصورة "البطل الفذ" الذي ينقذ البشر. وهكذا أخبرنا التاريخ كيف استعبد كل من "هتلر وستالين وفرانكو وموسوليني وماوتسي تونغ" شعوبهم في سبيل حرب لا ناقة لشعوبهم فيها ولا جمل.

الديكتاتوريات العربية طبّقت هذه الفكرة بحذافيرها، بل تفوّقت على نظيراتها في الغرب متسلّحة بعامل الإذعان والقَبول المُطلق من قِبل جماهيرها التي تقدّس الحاكم وترى الصواب في كل ما يفعل!. وظهرت الحرب على "إسرائيل وإيران والإرهاب" ذرائع مُتقنةَ النسج والحبكة لإبقاء الشعب العربي متخلفاً عشراتِ السنوات عن حركة النهضة والتطور.

لدينا في واقع الأمر نماذجُ كثيرة على ما تحدثنا عنه، لكن نموذج "العداء لإسرائيل" يبدو المثال الأوضح، فمنذ إعلان قيام "إسرائيل" عام 1948 وجد بعض الطغاة العرب من الحرب معها ميداناً خِصباً لاستنزاف شعوبِهم وسرقة خيرات بلادهم، ولعل قصة السوريين مع نظام الأسد في مجال "الحرب ضد العدوّ الصهيوني" طويلة جداً ومريرة، فحافظ الأسد أدخل سوريا وشعبها دوّامة من الفقر والتخلف والقمع تحت هذا العنوان البرّاق، ميزانية الدولة للحرب مع إسرائيل، والمعارضة دائماً متّهمة بالعمالة لتل أبيب، ومن ينتقد الأوضاع فتهمة "إضعاف الروح القومية" جاهزة لتُلقيَه في السجن سنين عدداً.

فزّاعة "إسرائيل" تطلّبت من السوريين أن يشدّوا الحجر على بطونهم، وأن يكبِسوا مِلحاً على جروحهم نحو نصف قرن من الزمن، بينما تقوم الآلة الإعلامية لنظام الأسد بغسيل أدمغتهم وإظهار جميع مفاصل الدولة في حالة استنفار وتربُّص على الجبهات.

كم نضحك عندما نتذكر تلك الشعارات، نضحك والأسى يعصر قلوبنا، كم كنا متخلّفين؟!، الحرب المزعومة تطحن أخضرَنا ويابسَنا بينما يمتنع الأسد ( الأب أو الابن) عن إطلاق رصاصة واحدة تُجاه الحدود، هم يسرقون أعمارنا وعقولنا وخيراتِنا ومستقبلنا ويُعيدون حياتنا إلى العصر الحجري تحت عنوان "الحرب ضد إسرائيل" التي يظهر فيها "القائد" بطلاً مغواراً يحمي الشعب ويعلّق النياشين، وهو في حقيقة الأمر مجرّدُ تاجر يسرق الوطن ويتاجر مع "أعداء الوطن" من تحت الطاولة.

يطول الحديث عن نموذج "فزّاعة إسرائيل" وتطول القصص والحكايات عن هذه الشمّاعة التي جثم بذريعتها حافظ وابنه على صدور السوريين منذ خمسين عاماً، بينما يقول الواقع وتقول الأرقام إن من قتلتهم إسرائيل منذ 1948 لا يبلغ معشار معشار المعشار ممن قتلهم بشار الأسد خلال سنوات الثورة السورية.

على أية حال .. ليس نظام الأسد فقط هو من أتقن دور "المناضل" في سبيل الوطن والشعب، إذ تمتلئ هذه الرقعة الجهنمّية التي تسمى "الوطن العربي" بنماذج كثيرة، صنع فيها كل حاكم "فزّاعة من التمر" يُخيف به شعبه ويبتزّهم ويقتلهم، ويأكل من هذه الفزاعة عندما يجوع.

في الوقت الحاضر تظهر فزاعة ثانية على الساحة، وفي سبيل الحرب عليها تُستعبَد شعوب عربية أخرى ..الفزاعة تحمل هذه المرة اسم "إيران"، والطريف في الأمر أن إيران تمثّل دوراً مزدوجاً، فهي تمارس القمع والتنكيل ضد شعبها تحت عنوان "الحرب على قوى الاستكبار"، كما إنها تنشر فارسيّـتها وتدعم أنظمة عسكرية ومليشيات طائفية باسم "الموت لإسرائيل"، وفي الوقت نفسه تُتخذ الحرب معها ذريعة لممارسة الضغط على شعوب أخرى.

تستنفر إيران دولاً عربية كثيرة، وفي سبيل الوقوف بوجهها تُسرق الثروات وتقوم التحالفات وتسقط الولاءات، وتظهر دولتا السعودية والإمارات في "معركتهما الخلّبية" على مثال مشابه لشمّاعة المعركة ضد إسرائيل.

لا يستطيع المُتابع أن يفهم نوعية مواجهة السعودية لمشروع إيران في المنطقة، فالرياض دعمت سقوط العراق بأحضان إيران عبر دعم إسقاط صدام حسين، الذي كان يُعد نظامُه الحصن الشرقي المنيع في وجه "التغلغل الفارسي"، وها هي الرياض نفسها اليوم تهرول تُجاه حكومة العبادي التي يعلم الجميع أنها ألعوبة بيد ملالي طهران.

من جهة ثانية..قامت السعودية والإمارات بمقاطعة دولة قطر المجاورة بذريعة التعامل مع إيران، مع أن الإمارات تقوم بأكبرِ عمليات التبادل التجاري مع "العدو المفترَض" الذي يحتل منها ثلاث جزر!

الأمر المهمّ والأكثر إلحاحاً في الوقت الحالي أن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان يمشي بخطا ثابتة نحو عرش أبيه، وعلى بُعد أمتار من هذا العرش يقوم بن سلمان بالقضاء على أي شخص يمكن أن ينغّص عليه مشروعه الجديد في المملكة من أقرباء وأمراء أو وزراء.

بن سلمان يخالِف اليوم كل ما بُنيت عليه الأسرة السعودية الحاكمة من أنظمة وأعراف، بل إنه عازم على ما يبدو لتغيير الوجه المعروف للسعودية من دولة تسير على الفكر الوهابي إلى دولة عَلمانية، وهذا ما يمكن أن يشكّل مفعولاً عكسياً لدى الداخل السعودي، حتى مناصرو فكرة تولي بن سلمان العرش يريدون ذلك تقليدياً يُبقي وجه المملكة على ما هو عليه، لكن ولي العهد في واقع الأمر يصنع ما يشبه الزلزال، سواء بوصوله إلى العرش وتنحيته شخصياتٍ أولى منه بالحكم، أو بالسعي الحثيث إلى تغيير الهوية الثقافية والحضارية والسياسية وحتى الدينية للسعودية.

كيف يمرّر بن سلمان مشروعه العواصفي؟؟ النصيحة جاهزة ومُطبّقة ..الدخول في حرب سياسية أو دبلوماسية مواجهة عسكرية محدودة مع "العدو" ..التصعيد ضد إيران هو مفتاح الضمانة لدى بن سلمان كي يُبعد الأنظار عما يقوم به في المنطقة، وبدلاً من مواجهة الغليان الشعبي السعودي سيصنع بن سلمان للسعوديين "فزّاعة" تجعلهم يصطفّون معه عوضاً عن الاحتجاج عليه. سيضخّم بن سلمان فكرة "مجابهة إيران وعملائها" إلى أن يضمن خلوّ مملكته من جميع المنافسين والمعترضين. هذا هو الأمر ببساطة.