الأربعاء 2017/06/28

نظام الأسد و “السقوط على جثث الأعداء” !

رغم كل ما مرَّ بهم من النكَبات والمآسي وتآمر القاصي والداني عليهم، يرى السوريون أن السنوات "السبع العجاف" علمتهم دروساً كثيرة في جميع مجالات الحياة، في الاقتصاد والحرب والسياسة وقراءة التاريخ القريب والبعيد.

يسمّون ثورتهم "الكاشفة" لأنها قامت بتعرية ما كانوا يعدّونه من المسلَّمات، فلم يعُد العربُ كما كانوا يحسَبونهم "إخوة"، ولم تعد أميركا وأوربا كما كانوا يوهَمون "حُماةً للديمقراطية والحرية"، ولم يعد كل من يلقي شعارات في الوطنية محلَّ تصديق واحترام.

والأمر الأهم في الموضوع أن السوريين كشفوا زَيف أسطورة "المقاومة والممانعة" .. تلك "الكذبة الكبرى" التي عاشوا على صداها منذ أن وصل حافظ الأسد إلى الحكم، وقام بسحق الملايين من شعبه أمنياً واقتصادياً ودينياً تحت ذريعة مقاومة "الإمبريالية والصهيونية العالمية" ومقارعة "العدو الإسرائيلي"، سُرقت ثرواتهم وقُتل أو اعتُقل المعارضون، هاجر مئات الآلاف من ديارهم، باسم "الحرب على الكيان الإسرائيلي"، ولا ينسى السوريون أنهم أكلوا وهمَ "القائد المقاوم" إلى حد التجشُّؤ، وكان كل من ينتقد النظام القائم ولو بشقِّ كلمة، يُتهم بأنه عميل "للاحتلال الإسرائيلي".

مشاهد ومواقف وتاريخ طويل يمتد منذ عام 1970 حين التهم "حزب البعث" سوريا، إلى وقتنا الحاضر، تزدحم عبر هذا التاريخ الدروس والعبَر، ولعل ما يميّز هذا التاريخ ما كان يُعرف آنذاك بـ"أقوال الرئيس المناضل حافظ الأسد" التي رافقت حياة السوريين في حلهم وترحالهم ونومهم ويقظتهم، في مأكلهم وأوقات فراغهم، حتى إن النظام الأمني جعل لها قدسية تفوق قدسية القرآن بعض الأحيان !!

استوقفني بين زحام الأفكار مقولة للهالك حافظ الأسد عند لقائه الشهير بوزير الخارجية الأميركي هينري كيسنجر حين كان الحديث يدور حول فلسطين وسوريا ولبنان وعملية "السلام" يومها قال حافظ : " نجيد اللعب على حافة الهاوية وإن سقطنا نسقط على جثث أعدائنا".

استقبل السوريون هذه المقولة بالتلقين القسري عبر أجهزة النظام، وصيغت لأجلها خطب عصماء في "البطولة والعنفوان"  والوقوف بوجه "العاصفة" نعم ..ظهر حافظ الأسد يومئذ بطلاً قال لأمريكا "لا" ، وعَجِبَ الناس كيف يمكن لدولة صغيرة مثلِ سوريا أن تقف في وجه مشاريع دولة عظمى كالولايات المتحدة !

ظل الوهم مستمراً ثلاثين حولاً، نشاهد الأخبار و"نلوك" بطولات "حافظ الأسد" دون أن يقدّم لنا أحد تفسيراً عن تساؤلات كثيرة، هلك حافظ الأسد، فتوجس السوريون -بحكم انطلاء الخديعة عليهم- أن أمريكا أو إسرائيل وجدتا الفرصة المناسبة للإطاحة بهذا "العدو العنيد".. رحّبت "تل أبيب" ببشار، وأرسل "بيل كلينتون" وزيرة خارجيته "مادلين أولبرايت" لحضور الجنازة .. لم يتحرك أحد للإجهاز على هذا "النظام المشاكس" المصنّف ضمن دول "محور الشر" في هذه الفرصة السانحة!

الواقع أن بشار اعتلى كرسي أبيه بلا ضجيج وبدون أدنى مشكلة، وأطبق الصمت على الدول التي كانت "تحارب سوريا"، فترة من الزمن، ثم عادت حليمة إلى عادتها القديمة، ورجعت أحاديث المقاومة والممانعة أعلى صوتاً وأكثر ضجيجاً للترويج للوريث القاصر، ثم جاءت تمثيلية حرب تموز بين "حزب الله" و"إسرائيل"، ما جعل الناس يقتنعون أكثر فأكثر أنه في الأرض الخانعة لأمريكا وإسرائيل ثمة من لا يزال "يقاوم" ويضع رأسه بين رؤوس الكبار!

ظل الأمر هكذا إلى أن حلّ الربيع العربي في الوادي السوري المُجدِب، وقال السوريون حينها إن نظام بشار لن يصمد سوى أسبوعين، لأن أمريكا وإسرائيل لن تجدا فرصة ملائمة أكثر من هذه الفرصة...أطلق "الأمن" النار على المتظاهِرين، وقتَل العشرات في الأيام الأولى من الثورة، فقلنا حينها إن "الحيتان" يريدون توريط بشار أكثر ليقتلعوه بحجة القانون والدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطية، لم يتحرك أحد .. قصف بشار المدن والبلدات السورية، وهدم البيوت في رؤوس المدنيين في مجازر نقلتها عدسات الصحافة العربية والعالمية، قلنا يريدون توريطه أكثر، ولا سيما أن أوباما وقادة أوربا أسقطوا عنه "الشرعية" وقالوا إن أيامه "معدودة"، استمر بشار في مسيرة قمع الثورة، وقتَل عشرات الآلاف، وعدّاد المجازر بازدياد، ولا شيء تغير.

في عام 2013 استخدم بشار الأسد السلاح الكيميائي في غوطة دمشق، وقتل أكثر من ألف شخص معظمهم أطفال ونساء، وذلك بعد تحذير "شديد اللهجة" من الرئيس الأميركي "باراك أوباما" من أن استخدام السلاح الكيميائي "خط أحمر".

حشد أوباما الرأي العام حول ضربة عسكرية ضد نظام الأسد معاقبة له، واستقر في الأذهان أن أيام بشار أصبحت فعلاً "معدودة"، ليؤول الأمر بعد ذلك إلى تجريد النظام من ترسانته الكيماوية، مقابل التراجع عن ضربة عسكرية، وهكذا ظل بشار يمتلك ترسانة أخرى من البراميل المتفجرة والصواريخ العنقودية والقنابل الفسفورية والارتجاجية، يقتل بها عشرات الآلاف بلا إدانة أو استنكار !

واليوم بعد التراجع الكبير في مواقف أميركا والدول الأوربية حول إسقاط شرعية الأسد، وبعد ظهور بشار الذي قتل نحو مليون من شعبه كشريك في "محاربة الإرهاب" ..نرجو أن يكون السوريون أدركوا ما معنى كلام حافظ الأسد عن "اللعب على حافة الهاوية والسقوط على جثث الأعداء"، آن للعرب كذلك -وليس السوريين فقط- أن يفهموا هذا القول، فليس بشار في الواقع حجرة عثرة أمام الغرب وإسرائيل، بل إنه -عينَ اليقين- أفضل من حقق أجنداتِ هذه الأطراف، والهاوية التي قصدها أبوه حافظ الأسد قبل عقود، ليست معناها إلا أن يبيع هذا النظام كل شيء حتى شعبَه، مقابل أن يبقى على كرسي الحكم، وليست "جثث الأعداء" في الواقع سوى جثث ضحايا مئات المجازر التي ارتكبها هذا النظام منذ حماة 1982 إلى اليوم.. هل اكتشف السوريون أخيراً أنْ لو كان نظام حافظ وابنه بشار "مقاوماً" فعلاً للمشروع الإسرائيلي لسقط منذ أمد بعيد؟ متى يستوعب المؤيدون ومروِّجو دعاية "المقاومة" أن النظام الذي باع الجولان وحمى حدود إسرائيل، ليس سوى "خادم" لها، متى يدركون أن الذي يقاوم مشاريع أميركا وإسرائيل لا يستطيع الصمود 47 عاماً رغم سجلِّه الحافل بأبشع الجرائم بحق الإنسانية ؟؟