السبت 2017/12/16

من يقتل السوريين ويخذلهم لن ينصر القدس

لعل الشعب السوري المُعاصِر هم أكثر أقوام الأرض التي تعرّضت للغُبن والظلم عبر التاريخ، والمفارقة أن من أجرى عليهم موجاتِ الظلم أو الخذلان أطراف يدّعي كل منها "مظلومية تاريخية" زحفوا إليها على جماجم السوريين ودمائهم. الشيعة أحيَوا في سوريا ثاراتِ الحسين، والأكراد نسُوا مظلوميتهم لدى نظام الأسد وأعلنوا أنفسهم خنجراً مسموماً في خاصرة الثورة السورية.

آخر "المظلوميات" التي شاركت في قتل السوريين أو خذلانهم، مظلومية طالما تبنّاها السوريون وعدُّوها قضيتهم الأولى، هي العنوان الذي تاجرت به عصابة الأسد عقوداً من الزمن، ولأجله فتكت بالسوريين إفقاراً وقتلاً وقمعاً وتهجيراً، حتى إنها أطلقت اسم تلك القضية على أكثرِ فروعها الأمنية رُعباً وإرهاباً.

مليشيا حزب الله اللبناني، والمليشيات الطائفية العراقية، وفيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، ولواء القدس الفلسطيني التابع للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة، وجيش التحرير الفلسطيني الذراع العسكرية لمنظمة التحرير الفلسطينية، بالإضافة إلى قوات الأسد وتنظيم الدولة، جميعها جهات تحمل شعار فلسطين ومقدساتها في الوقت الذي تُوغِل فيه بدماء السوريين، ومن العجب بمكان أن بعض هذه الجهات تسعى إلى تحرير فلسطين بينما تقاتل إلى جانب الأسد منعاً من تحرّر سوريا من إرهاب نظام فاق في إجرامه خلال أعوام الثورة مجموع ما أجرمت به إسرائيل ضدّ الفلسطينيين منذ عام 1948.

حتى الحركات الفلسطينية الإسلامية التي ناصرت الشعب السوري عند اندلاع الثورة وقطعت علاقتها مع نظام الأسد بدافع ديني، لم تلبث أن نكصت وبدّلت عندما رأت ميزان القوة آخذ بالرُّجحان لمصلحة النظام، فذهبت شعارات "حركة المقاومة الإسلامية حماس" أدراج الرياح، وعادت الحركة تمدّ يدها لإيران رغم اليقين الكامل بأن إيران التي ترفع شعار "الموت لإسرائيل" جلبت الموت والتدمير والتنكيل للشعب السوري فقط، بل إن حماس لم تحترم دماء السوريين عندما أصرّت على تعزية المجرم "قاسم سليماني" بوفاة والده عبر وفد رفيع المستوى، في ضربة صريحة للمبادئ التي قامت عليها الحركة، والتي يُفترض أنها تحرِّم التعامل مع طرف ولَغ بدماء السوريين أكثر مما ولغت إسرائيل بدماء الفلسطينيين.

وهنا لا يحق لحماس بعد اليوم أن تلوم من يضع يده بيد تل أبيب، لأن جوابه سيكون أن ذلك من باب السياسة والمصالح الوطنية ..ولعل هذا هو نفسه الجواب الذي ستقوله حماس دفاعاً عن عودتها لحضن إيران، وبيعها دماء السوريين بثمن بخس لم تنل منه لمناصرتها سوى الشعارات الزائفة والوهمية.

وإذا اخترنا أن نقرِّب المسافة أكثر نرى أن حماس كانت من أول الرافضين إدراج مليشيا "حزب الله" على قوائم الإرهاب العربية رغم إدراكها على مدار سنوات أن الحزب حاصر مدناً وقرى سوريّةً ومنع عنها الغذاء والدواء حتى مات أهلها جوعاً، العذر كان لدى حماس أن الحزب عنصر رئيسي في محور "المقاومة" ضد إسرائيل، ولعل حماس جنت سريعاً ثمار وقوفها إلى جانب الحزب الإرهابي، حين خرج حسن نصر الله بعد إعلان القدس عاصمة لإسرائيل، معلنا شن معركة حامية الوطيس على مواقع التواصل الاجتماعي ضد قرار ترامب، مُطالبا بزج آلاف التغريدات دفاعا عن القدس!.

لعل أحدا يقول: ما مناسبة هذا الحديث في الوقت الذي يقف فيه العالم العربي والإسلامي لنصرة القدس؟

الجواب بسيط جدا .. يتلخّص في كلمات معدودات:

١- الشعب السوري هو أكثر شعوب الأرض حُباً ونصرة لفلسطين وقدسِها وأقصاها، والتاريخ يشهد بذلك حتى قبل مجيء آل الأسد إلى السلطة ومتاجرتهم بالقضية الفلسطينية، ولعل ذلك كان سببا في جعل هذا الشعب بين مقتول ومَنفي ومُشرّد، لتجد إسرائيل أمامها اليوم شعوباً تُناصر الأقصى على فيسبوك وتويتر وأنستغرام فقط.

٢- لا يستحق السوريون من أبناء فلسطين سياسيين وعسكريين هذا الجزاء المُخيّب للآمال..توقّع السوريون أن جيرانا لهم تجمعهم نفس المأساة لا يرتضون أن يقفوا بوجه الظالم، وإذا بإخواننا الفلسطينيين ما بين أطراف تشارك بذبح السوريين، وأطراف أخرى تنقض غزلها من بعد قوة أنكاثاً، وتهرول نحو من يقتلون المناصرين الحقيقيين لفلسطين وقضيتها.

٣- باعتبار أن من يدافعون عن القدس ينطلقون من "مبادئ دينية" نقول: إن من المسلمات في جميع الشرائع أن دماء الإنسان أكثر حرمة من جميع المقدسات، وجاء في حديث شريف أن زوال الدنيا أهون عند الله من قتل مؤمن، وجاء في حديث آخر أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- نظر إلى الكعبة المشرفة وقال:  "مَا أَطْيَبَكِ وَأَطْيَبَ رِيحَكِ،  مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ،  وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ  لَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ حُرْمَةً مِنْكِ مَالِهِ وَدَمِهِ وَأَنْ نَظُنَّ بِهِ إِلَّا خَيْرًا " .. ماذا يقول مناصرو القدس اليوم ؟ أيهما أعظم حرمةً والأولى بالعصمة والنصرة ..دماء السوريين أم القدس ؟؟

الحقيقة الثابتة ..أن من شارك بقتل السوريين وأوقع بهم النكبات لن نصدّق أنه يدافع عن أيّ مقدسات، بل هم أصحاب تجارة بالمقدسات للوصول إلى غاياتهم، والحقيقة كذلك أن من يضع يده بيد قتَلة السوريين هو شريك في الجريمة ولن يرحمه التاريخ ولن يقبل منه عذراً ولا قولاً ..

إعلان ترامب القدس عاصمة لإسرائيل كان بمثابة ريحٍ أسقطت ورقة التوت عمن يرفعون شعارات الموت لإسرائيل، ففي الوقت الذي كان فيه نظام الأسد وإيران وحزب الله والفصائل الفلسطينية اليسارية تقتل وتحاصر أهل الغوطتين وأرياف حمص وحماة، كان السوريون يمشون على جراحهم ليخرجوا بمظاهرات عارمة نصرة للقدس، وليعطوا رسالة واضحة بأنهم أصدق من يدافع عن القدس وهم في قعر الجوع والحصار والنكبات، ليقولوا إن من يقتل السوريين أكثرُ إجراماً ممن يقتل الفلسطينيين، بل إن قاتل الفلسطينيين هو من يمدّ قاتل السوريين بأسباب البقاء ويمنع سقوطه.  الرسالة اليوم واضحة جداً .. من يقتل السوريين ويخذلهم فلن ينصر القدس ولن ينصر الأقصى ولن ينصر فلسطين ..رُفعت الأقلام وجفّت الصحف.