الأربعاء 2018/01/31

من “فرساي” إلى “سوتشي الفاشل”.. الحلول الظالمة لا تصنع السلام

بعد مفاوضات استمرت 6 أشهر متواصلة، استطاع الحلفاء المنتصرون في الحرب العالمية الأولى أن يُجبروا ألمانيا "المهزومة" على توقيع "معاهدة فرساي" في باريس 28 حزيران  1919.

ألمانيا التي خرجت من الحرب بدولة مدمّرة ومئات آلاف القتلى وجدت نفسها مُلزمة بالتنازل المُذلّ، الذي يتضمن تحمُّل مسؤولية الحرب ودفع تعويضات هائلة للأطراف المنتصرة. تُوصف "معاهدة فرساي" بأنها الأكثر "إجحافاً وظلماً" لدولة خسرت الحرب وأُجبِرت على توقيع "صكّ الهزيمة". ولأن الحل كان مجحفاً وظالماً لم يطُلِ الأمر سوى بضع سنوات حتى قامت الحرب العالمية الثانية بدمار أوسع وضحايا أُحصيت أعدادهم بالملايين.

هذه المقدمة ليست عرضاً تاريخياً لزيادة المعلومات، لكنها تندرج في باب يقول إن من يواجه ألغازاً في أحداث العالم المعاصر، فعليه العودة إلى التاريخ.. حتماً سيجد أن البشر هم البشر، بأقويائهم وضعفائهم، بمهزوميهم ومنتصريهم.

راق للبعض أن يربط بين "معاهدة فرساي" من جهة، وما يسمى "مؤتمر الحوار الوطني" في سوتشي الروسية من جهة أخرى. فموسكو التي تدخّلت لحماية بشار الأسد منذ العام 2011 (وليس منذ 2015 كما يُروَّج لذلك) أعلنت انتصارها في الحرب عبر خطاب لبوتين عند زيارته قاعدة حميميم بالساحل السوري في 11-12-2017، صحيح أن واشنطن قلّلت من شأن هذا الإعلان، لكن روسيا التي دفعت فاتورة باهظة للحفاظ على حليفها في سوريا، مستعجلة لقطاف ثمار التدخّل، وهي تدرك أن "النصر" لا يكون فقط بآلاف الصواريخ والقنابل وآلاف القتلى المدنيين ومئات المدن المدمّرة ..النظام العالمي في هذه الحالة يوجب أن يُقرّ الطرف الآخر بالهزيمة كي تكتمل "مقوّمات النصر". وهذا بالضبط ما فعلته دول الحلفاء مع ألمانيا عبر "معاهدة فرساي".

في الواقع أرادت روسيا أن تستنسخ تجربة "معاهدة فرساي" عبر ما سمّته "مؤتمر الحوار الوطني" في منتجع سوتشي، وظنت أنها بعد تدمير قوى المعارضة المعتدلة والاستحواذ على مناطق واسعة لتنظيم الدولة وسط وشرق البلاد، تستطيع تهيئة الأجواء لمؤتمر تُقيمه على أراضيها، تُجبر فيه المعارضة بكافة أطيافها على "توقيع صك الهزيمة".

السوريون شعب يريد حقوقاً وليسوا "دولة مهزومة":

رغم وضوح مطالب الثورة السورية منذ اندلاع مظاهراتها الأولى، ورغم أن ما طالب به السوريون ليس إلا القليل القليل مما تعيشه معظم شعوب الأرض من حقوق مدَنية وعدالة اجتماعية ومساواة أمام القانون، إلا أن المجتمع الدولي لم يلبث أن تعامل مع تلك الثورة على أنها "حرب أهلية" ثمة فيها طرفان متساويان في القوة.

كان هذا أخطر ما في الأمر، فبدلاً من التعاطف مع الشعب السوري والدفاع عن مطالبه المشروعة، عوملت الثورة كدولة تقابل "دولة الأسد"، وهذا ما استدعى عشرات المؤتمرات واللقاءات والاجتماعات والمشاورات، وهو أيضاً ما قسم المجتمع الدولي إلى معسكرين: أحدهما اعتبر الثورة "مؤامرة" لتغيير الأنظمة بالقوة، والآخر اعترف بحقوق السوريين نظرياً ولم يدعمها عملياً.

على هذا الأساس تدخّلت روسيا "لإنقاذ الأسد" ليس من دول منافسة، بل من شعبه الساعي إلى الدولة الديمقراطية التي لا يراها في الأحلام أو في قصص الشعوب.

الثورة السورية لا يمكن بأية حال أن تمثلها هيئات سياسية أو منصات وائتلافات، هي أولاً وأخيراً ثورة واجه فيها الأسد وطغمته شعباً بأكمله، وبالتالي لا يمكن لأي طرف أي يفرض الحل عبر اعتراف زيد أو عمرو بالهزيمة، لا في سوتشي ولا في سواها.

فشل سوتشي:

دعونا نقول إن المؤتمر الأكثر إشكالية في القضية السورية، فشل فشلاً ذريعاً، واجتمعت على ذلك عدة عوامل، لعل أبرزها مقاطعة الدول العظمى الفاعلة في الملف السوري، وأبرزها الولايات المتحدة وأوروبا، وقالت فرنسا أكثر من مرة إن روسيا لا يمكنها صناعة وصفة جاهزة للسلام في سوتشي.. الحل في جنيف حصراً، وفق وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان.

المكوّن الرئيسي للمعارضة السورية الممثّل بهيئة التفاوض رفض كذلك حضور المؤتمر، وهو الكيان المعترَف به دولياً، ولا قيمة أبداً لمن حضر سوتشي من المعارضين الذي وقَعوا هناك في التحذيرات التي وُجّهت إليهم قبل الذهاب.

عندما شعرت روسيا بفشل المؤتمر تقصدت إهانة معارضي الأسد، الذي أرسل وفداً من الفنانين والشبيحة وقادة المليشيات المتهمة بارتكاب جرائم حرب مثل معراج أورال، وتحول المؤتمر إلى ساحة لعرض صور الأسد وعبارات تأييده وتمجيد قواته المسؤولة عن أبشع مجازر التاريخ الحديث.

صور تذكارية لفنانين مؤيدين للأسد وراقصات يَستغرب المتابع وصولهم إلى مؤتمرٍ يُفترض أنه سياسي لحل أزمة بلدٍ عانى من الحرب سبع سنوات!

الحلول الظالمة لا تنتج سلاماً:

رغم أن مؤتمر سوتشي شكّل ذروة الاستهتار بحقوق السوريين وتضحياتهم الدامية في سبيل الوصول إلى دولة ديمقراطية آمنة، إلا أن ما سبق سوتشي لم يكن بأفضل حالاً، من جنيف إلى أستانا إلى فيينا إلى لوزان إلى أسماء بلدان وعواصم كثيرة، المشترك بينها أنها في البداية لم تلبِّ الطموح، وأنها منذ نحو عام صارت ميادين لتصفية الثورة ومطالبها بشكل علني أو سرّي، والقفز على محرقة دامت سبع سنوات، قتل فيها الأسد مليون شخص، وهجّر نحو 10 ملايين من ديارهم، ودمّر أكثر من 60% من البنية التحتية في البلاد.

تصفية مطالب الثورة بالحديد والنار لن تكون سوى حل مؤقت لن يدوم طويلاً، ستنفجر الأمور بشكل أكبر من الانفجار الأول، فالأمر يشبه وضع الضماد على جرح مليء بالقيح والصديد أملاً بشفائه سريعاً.

السوريون خرجوا يواجهون الرصاص الحي في المظاهرات ثم لم يلبثوا أن واجهوا الطائرات والمدافع والصواريخ ليس من أجل تغيير دستور، وليس من أجل تغييرات حكومية شكلية، وليس من أجل تقاسم الحكم شكلياً مع الأسد، هم خرجوا ليزيحوا عنهم حكم عصابة مجرمة حوّلت سوريا وشعبها على مدار 50 عاماً إلى مزرعة وعبيد.

من أراد في سوريا تحقيق سلام دائم وعادل فلن يُفلح إلا إذا أزاح الأسد عن الحكم وحاسبه على آلاف الجرائم ضد الإنسانية.

قد يكون لجنيف وأستانا وسوتشي سطوة لمحاولة إبراء الجرح السوري النازف بالقوة، لكن المؤكد أنها خطوات ناقصة ولن تقدم أي سلام في سوريا، كما إن معاهدة فرساي أجبرت ألمانيا على السكوت فترة من الزمن، ليظهر هتلر بعد بضع سنوات ويقوم بتدمير نصف العالم المتحضّر آنذاك.. انتقاماً لمظلومية ألمانيا.