الأحد 2017/12/31

مصر أمل العرب الخائب

لا أخفي عليكم أنني ترددت كثيراً قبل البدء بكتابة هذه السطور والكلمات، ولعل هذا التردد يعود لبصيص الأمل الذي كنت أنتظره وأرتجي حدوثه، معولاً على الحداثة وتكنولوجيا نقل المعلومات الحديثة، وتعلق شعوبنا العربية بها على الأقل كمستهلكين، خاب الأمل بالتغيير المرجوّ، وكأنه ضرب من الخيال، وحلم محال المنال في بلاد العرب عموماً، ومصر خاصة، في مواجهة ثقافات وعقائد متجذرة.

قيل إن مصر "أم الدنيا"، دون أي سبب وجيه أو أي إنجاز مجيد منذ آلاف السنين، فأصبح كالشعارات التي ترفعها الجيوش العربية من قبيل حماية الأوطان، والإنجازات البطولية التي لا وجود لها إلا في بعض الصحف الصفراء التابعية، فأضحت صفحات هذه الصحف تصلح للعديد من المهام باستثناء مهمتها التثقيفية، ونقل الأخبار الصادقة.

مصر، ذلك القطر الذي عوّل عليه أبناء الضاد من خليجهم لأطلسهم لم يكن بأسوأ حال مما عليه اليوم قط، على المستوى الاقتصادي، والعسكري والسياسي؛ فأصبح أبناؤه يتمنون عودة الحاكم الأسبق بكل ما يحمله من خطايا وآفات، تماماً كالأجيال السابقة، التي تمنت أن يعود الماضي ويستبدل حاضرها المرير، هذا الحال ليس حكراً على أزماننا الحاضرة؛ بل هو حالة متكررة عبر قرون وسنين مضت.

حقيقة لا أودّ أن أخوض بمقالتي هذه بالقضايا السياسية البحتة، والمتعلقة بالشأن المصري، بقدر بحثي عن التسلسل التكويني والزمني لحكام مصر، ونشوء الثقافة السياسية المصرية من منظور تاريخي يقوم على مقارنة الحقب الزمنية المختلفة لهذا القطر المهم، والقابع بقلب الوطن العربي جغرافياً ووجدانياً؛ فتاريخ مصر كان مؤثراً وبدرجات مختلفة على عالمنا العربي والإسلامي على مر العصور؛ وعليه نحن بحاجة للخوض بتاريخ مصر منذ النشوء الأول وحتى يومنا هذا، في محاولة للفهم الصحيح والدقيق للثقافة السياسية والاقتصادية والعسكرية لمصر؛ فلو رجعنا بذاكرتنا التاريخية المصرية، فسنجد أن مصر العظيمة ازدهرت وعظمت في أزمان الفراعنة المختلفة؛ لتصبح مهوى أفئدة العظماء والحكماء في تلك الأزمان الغابرة، وعلى ما يبدو فإن تلك الأزمان كانت أفضل الحقب اقتصادياً وسياسياً في تاريخ مصر، فيما كان انهيار هذه الحضارة العلامة الفارقة والحد الفاصل ما بين مصر العظيمة ومصر الأقل شأناً وتدبيراً، وبدء الانحدار اللامتناهي الذي لا يبدو أنه قريب الانتهاء، فالواقع المرير الذي تعيشه مصر ظهرت بوادره منذ أن أصاب المصريين وحكامهم "عشق الأعداء"، فها هي كليوباترا تهيم بقائد جيش الروم القادم لاغتصاب أرض مصر وخيراتها لتنتهي بالموت انتحاراً، ومِن العشق ما قتَل.

هل كانت كليوباترا المؤسس لثقافة التسامح اللامحدود وعشق العدو اللدود، ووصولاً للمازوخية والتلذذ بسياط الغرباء؟ للتاريخ والحقيقة، قاوم المصريون الاحتلال الروماني إن صحَّ القول، إلا أنه كان بشكل محدود ودون جدوى أو نتائج تذكر.

هنا وجب أن نتساءل: هل فعلاً الحاكمة المصرية الجميلة كليوباترا هي مَن أسس للثقافة المصرية القائمة على الخنوع والاستسلام حتى يومنا هذا؟

لا يجب التسرع بإصدار أحكام لا تستند لحقائق تاريخية، ولنكمل مسيرتنا عبر التاريخ ولنتفحص أحوال مصر بعد اندثار عصر الفراعنة العظماء، ها نحن بمصر بعد الفتح الإسلامي، وللأمانة فإن الفتح الإسلامي لمصر كان سهلاً نسبياً وسلساً بشكل لافت، مقارنة بفتح بلاد الشام، والعراق وبلاد فارس، إلا أننا ببحثنا هذا نحاول التنقيب والفهم للثقافة التصالحية التي سادت وما زالت تسود مصر حتى في حالات الحرب والعداء.

هل فعلاً الثقافة المصرية تأسست على الانسحابات والتراجعات السياسية والاقتصادية؟ هل حقاً مصر مؤهلة بثقافتها السياسية التي تفتقد للندية مؤهلة لقيادة عالم عربي مترامي الأطراف؟ هل الثقافة التصالحية أضحت استسلامية وفتحت الأبواب للتفاهات والأفكار السفيهة بالولوج لمصر؟

مصر لم تحتضن عاصمة الخلافة الإسلامية بتاتاً باستثناء الخلافة الفاطمية، التي حاولت عقد التحالفات مع الفرنجة والجيوش الغازية لفلسطين وعموم بلاد الشام، هل هذه صدفة أم أن المسلمين والفاتحين الأوائل كانوا ذوي بصيرة وأصحاب تقدير سديد؟ الإجابة حتماً نعم، لا بديل لذلك، فبناء إمبراطورية قوية مترامية الأطراف تحتاج لعاصمة يسكنها أهل عزم، وأصحاب طموحات ترقى لعنان السماء، لن تجدهم بمصر التي كانت تتوشح بقطع من الرقة والنعومة المفرطة، بل والمصطنعة في أغلب الأحيان.

لقد آلت مصر للحاكم الألباني محمد علي باشا الذي عمل جاهداً في سبيل جعل مصر بلداً متميزاً ورائداً في شتى المجالات؛ على ما يبدو فإن محمد علي باشا لم يكن ذا دراية كافية بالثقافة المصرية، التي جعلت من مصر أقل شأناً وتأثيراً، على الصعيد السياسي، والاقتصادي والعسكري، فالشعور بالدونية أصبحت متلازمة مصرية، لا علاج لها حالياً؛ بل وبالمستقبل المنظور، وبخلاف محمد علي باشا كان نابليون بونابرت عالماً بخبايا الثقافة المصرية المتراكمة عبر قرون وآلاف السنين؛ بونابرت عرف أن المصريين يتملكهم الشعور بالدونية، ناهيك عن التفاهات والترهات المتجذرة بقلب مصر وكافة حواسها؛ لذا لا غرابة بأن يكتب بونابرت للمصريين ويخاطبهم بأن قدركم أن تكونوا تحت إمرتي ورهن إشارتي والاعتراض على قدر الله من المحرمات والكبائر.

مصر لم تكن القطر العربي الذي أشعل الأرض ناراً تحت أقدام المحتل البريطاني، فبالمقارنة بحجمها الجغرافي والسكاني بأقطار عربية أخرى، سنجد أن مقاومة البريطانيين واحتلالهم لمصر كانت خجولة وعلى استحياء؛ بل تماشى المصريون مع المحتل الإنكليزي وأصبحوا الخادم الأمين لهذا المحتل، فالجنود المصريون انتشروا في أرجاء الإمبراطورية البريطانية رافعين لواء الولاء للمحتل القادم من خلف البحار.

تلك هي ثقافة التراجع أمام القوي القادم من خارج مصر، التي توارثتها الأجيال عبر العصور والسنين تحت ذرائع ومسميات لا تروق لعموم عالمنا العربي ولا تتماشى مع الروح القيادية التي زرعتها أجيال سالفة في بغداد ودمشق وصولاً لإسطنبول.

مصر اليوم تحافظ على نهج المسايرة واتقاء الأجانب ضعفاء أم أقوياء؛ فتارة تتودد للغرب القوي، وتارةً تظهر حرصها وأمانتها لجيرانها وخاصة إسرائيل القوية، وتارة أخرى تستعطف بعض الإخوة العرب للحصول على دولاراتهم الوافرة.

لا أجد بمصر أي مؤهل للقيادة عربياً وإقليمياً ودولياً، فمصر تهرول نزولاً منذ أن خبأ وانطفأ عصر الفراعنة.

فلو أردنا أن نقدم رسماً بيانياً لمصر بمجالات الاقتصاد، والسياسة والقوة العسكرية، لوجدنا وبكل وضوح رسماً لدالة تنازلية لم تتوقف يوماً عن النزول منذ عصر الفراعنة وحتى يومنا هذا.

أما البشرى الجميلة والمريبة فهي أن مصر بحالها اليوم أفضل مما ستكون عليه بالسنين القادمة، ووفقا لرسمنا البياني لا تزال مصر مهرولة باتجاه القاع وهناك ستتفوق دول جنوب الصحراء على مصر بكافة المجالات.

خابت الآمال، وليبحث أبناء الضاد عن مصر أخرى في مكان آخر من عالمنا الواسع، أو لننتظر عقوداً وقروناً علّ ثقافة الريادة والقيادة تجد سبيلها لمصر لتحيا بعضاً من بصيص أمل أُفتقد على مر السنين تدريجياً حتى ذوى وانتهى.