السبت 2017/10/07

لم أكن ساذجا حتى لا أعرف!

١ - كنت أعرف أن العالم الديني فى السعودية مسير، وليس مخيرا، ولهذا كنت حذرا جدا من التعامل مع الفتوى الصادرة من الهيئة التى سُميت (بكبار العلماء)، فهي لم تكن مستقلة فى القرار الشرعي، بل كانت تدور فى فلك السياسة العامة للدولة السعودية، ولكن البسطاء من المتدينين من الإخوان والسلفيين انخدعوا كثيرا من هذه الظاهرة الدينية السياسية فى الدولة السعودية .

٢ - كنت أعرف أن العالم الديني السعودي يتكلم كثيرا عن حقوق ولي الأمر، وليس عن حقوق الشعب، لم أَجِد فتوى تتناول عن حقوق الشعب السعودي، وغيره من الشعوب المسلمة، بل العكس هو الموجود، ولهذا كنت أعرف أنه مسير، وليس مخيرا .

٣ - كنت أعرف محدودية الفقه السياسي عند العالم الشرعي فى السعودية، وعدم فهمه للتغيرات الدولية، والعجيب أن الترابى تكلم قبل عقود أربعة عن حقوق المرأة المسلمة فى الكتاب والسنة، وأنها ليست شيئا، ولا تابعة للرجل، وليست بحاجة إلى ولي فى أمرها، فهي رشيدة كغيرها من الرجال، وليس هناك فروق كبيرة بين الرجل والمرأة إلا ما نصت عليه النصوص، وهي قليلة، ولكن علماء السعودية قاموا عليه وكفروه، واليوم يقرون بعضا مما ذكر الترابي فى ذلك الحين، ولكن بنكهة ليبرالية، بينما الترابي كان يدافع عن حقوق المرأة بنكهة إسلامية.

لست موافقا لجميع آراء المفكر الإسلامي حسن الترابي، ولكن أعرف شجاعة الرجل واستقلاليته الفكرية، وعدم ارتباطه بنظام سياسي معين، فكل ذلك جعلت الرجل مفكرا من الطراز الاول.

٤ - كنت اعرف محدودية الحركة عند العالم الديني فى السعودية، وعدم وجود حرية معتبرة لديه، فهو يدور فى فلك القرار السعودي، وليس لدية جرأة فى الخلاف، أو المجادلة، فقد تماهت الحركة الدينية العُلمائية فى القرار السعودي منذ زمن بعيد، ولعبت الحركة الوهابية فى نسختها المدخلية، والربيعية، وهي صنيعة المخابرات السعودية والمصرية، ولهذا وجدنا الفتاوى القوية التى صدرت من تلك الهيئات فى منع إقامة علاقة مع الكيان الإسرائيلي سابقا، أما اليوم فلا مانع من ذلك، لأن الحكومة السعودية تحولت من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، فتتحول الفتاوى تبعا للقرارات السياسية.

٥ - كنت أعرف تأثير المال السعودي على مواقف العالم الديني فى هذه الدولة، فكانت الأدعية القوية، والخاشعة على الإتحاد السوفيتي فى أيام الجهاد الأفغاني، ثم رأينا تلك الأدعية الخاشعة فى أرض الحرم على الصرب فى أيام الحروب فى البوسنة والهرسك، وحسب الناس فى ذلك الزمان أن الإمام متفاعل مع قضايا الأمة، ولكن تبين للناس البسطاء أنهم كانوا فى وهم ديني بغلاف سياسي.

يا للعجب، توقفت الأدعية للشعب الفلسطيني، والغزاوي بوجه خاص، وتوجهت الأدعية على النظام القطري فى شهر رمضان السابق، يا حسرة على العباد فى زمن الدجل السياسي بالغلاف الديني .

٦ - كنت أعرف خوف النظام السعودي من التدين الرشيد ، ومن الفكر الوسطي ، ومن فقه الحياة الصحيحة ، فكان النظام يصنع تدينه الشكلي الذي يؤدي إلى إفساد الأخلاق من المجتمع ، وتنفير الناس من الدين ، فكان الإكراه السياسي بلغة الدين سائدا فى الشارع ، وارتبطت مظاهر الدين وشكلياته بالقسوة والإكراه ، فصارت السخرية من رجل الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ( الحسبة ) موضة ، وأصبح الدين مكروها ، والحسبة فى عصر هذه الدولة فاشلة .

لقد أبعد العقلاء من الدولة ، ورجال الخبرة من الساحة ، والسبب أنهم ليسوا قابلين للتدجين ، فلهم شخصياتهم المستقلة ، وشارعهم الخاص ، وفهمهم الذكي ، فهم يعتقدون أفكارا جاءت من وراء الحدود وفقا للخطاب الرسمي .

٧ - كنت أعرف أن الفقه فى السعودية مرتبط بسياسات الدولة ، وهذا فقه جديد فى الساحة ، ويقوم على فكر السيف ، وليس على فكر الكتاب والمعرفة ، ولهذا فهو يستطيع أن يتواءم مع السياسات العامة للدولة بسرعة ، فقد كانت الفتوى تدور حول منع قيادة المرأة للسيارة استنادا إلى مبدأ شرعي ( سد الذرائع ) ، وكان فى العالم كله فتاوى صدرت من علماء معتبرين فى العالم الإسلامي ، وهي ترى بأن من حق المرأة قيادة السيارة ، ولكن كبار العلماء فى هذه الدولة يرفضون ذلك بقوة .

فى عشية وضحاها ، وفى لحظة ليبرالية سعودية ، وفى زمن التيه الفكري والعلمي يصدر قرارا من الدولة يسمح بموجبه قيادة المرأة للسيارة ، فجاءت الفتوى تبارك القرار ، وتعطيه الشرعية دون أن تشرح ما المتغيرات التى طرأت فى الحالة حتى تتغير الفتوى .

ما الجديد فى القرار السعودي الأخير ؟ المرأة اليوم تقود الدولة ( ميركل ) نموذجا ، ولا توجد دولة تطرح فى منابرها مثل هذه الترهات .

إن العجب في السعودية هو دوران العالم فى سلك الفضاء السياسي ، وكأن الحياة عند هؤلاء مرتبطة بالحاكم لا غيره ، والخطورة كذلك تكمن فى الوثنية السياسية ، وهي أعمق وأخطر من الوثنية الشعائرية ، وكم تحدث هؤلاء عن خطورة عبادة القبور ، ولكنهم لم يتناولوا أبدا عن خطورة عبادة القصور .

٨- فى الزمن الماضي ، حاربوا بقوة ما يسمى بالحوار مع الغرب ، فقالوا : هو بدعة دينية ، لا حوار مع الآخر ، بل الأصل هو الدعوة والجهاد ، ولكن فقهاء الدعوة ، وخبراء الفكر الإستراتيجي تبنوا مشروع الحوار مع الغرب ، فالغرب كما قال القرضاوي ليس دينيا فقط ، ولا هو مشروع إمبريالي فقط ، هو مشروع معقد ، ويجب أن نفتح معه حوارا شاملا ، ولكن يكون الحوار معه باللغة العلمية والندية والحضارية .

فى هذا الزمن رفضوا الحوار ، ثم جاء الملك عبد الله بن عبد العزيز ، فقرر فتح الحوار مع الغرب ، وأنشأ لجنة تابعة للرابطة ، فتحرك الأمين العام للرابطة نحو الغرب ، وعرف بأن هذا المشروع لا يتقنه إلا الإخوان ، فذهب إليهم ، وتودد معهم لتبنى المشروع وإنجاحه ، والمشكلة تكمن فى أن الحوار كان قرارا ، وليس خيارا ، فمات فى لحظته .

الحوار لغة عالمية ، وفن يتقنه الكبار ، وأصحاب الرسالات ، وليس مجالا للخطباء ، والأئمة ، ولهذا رأينا تخبط إمام الحرم الشريف الشيخ السديسي ، والذي قال : إن العالم اليوم يقوده قطبان ، السعودية بقيادة ملكها ، وأمريكا بقيادة رئيسها ، وهذا وهم سياسي فى اللغة الإستراتيجية .

العالم اليوم له أقطاب عالمية ، فالقطب الأول والأساسي يتمثل فى الولايات المتحدة الأمريكية ، وهي القوة الأولى سياسيا واقتصاديا وعسكريا ، أما القطب الثاني الذي بدأ يتشكل بقوة ، ويأخذ مكانه من الصراع الدولي يتمثل فى الصين ، فهي القوة الثانية في الإقتصاد الدولي ، ولها حضورها القوي فى الملفات السياسية والعسكرية ، وتمثل روسيا القطب الثالث بما تملك من ترسانة نووية ، وطموح سياسي ، ونهضة اقتصادية ، وتمدد فى الجغرافيا الدولية ، ولا ننسى الإتحاد الأوربي كقطب رابع فى المعادلة الدولية من حيث القوة والتأثير .

إن هذه اللغة الساذجة لعالم ديني ، وهذا التصريح البلاغي الفارغ من كل مضمون سياسي ، وعسكري ، فانما يدل على الخواء الفكري لمثل هؤلاء العلماء الذين لعبوا دورا مسموحا به ، ولكنه بدأ ينكشف حتى للعامة من الناس .

٩- كنت أعرف أن العالم الديني السعودي له مهمة محددة وهي ( تخذير الشعوب ) ، ولَم يكن كاذبا حين قال ماركس : الدين أفيون الشعوب ، ولكنه لم يكن باحثا جادا فى هذه المسألة ، والسبب ان هناك جدلية بين الحاكم ( الطاغية ) ، وبين رجل الدين ( السمسار ) .

رجل الدين يبرر أفعال الحاكم ، والحاكم يستخدم رجل الدين البسيط ، ومن رحم هذه العلاقة يخرج الشعب الميت ، والنائم ، والمخذر ، ولكن التاريخ يحدثنا بأن هذه المسألة تؤدى إلى أمرين ، إلى الثورة عليهما جميعا ، وهذا ما فعلت به الثورة الفرنسية حين قرر الثوار بأن يشنق آخر أمعاء القساوسة بآخر الملوك ، أو أن ينتصر الدين الحقيقي على الدين المزيف .

فى الغرب انتصرت الثورة على الدين المزيف ، وعلى الحاكم المستبد ، وانتصر الحق والدين الصحيح على الباطل والدين المزيف فى تجربة موسى عليه السلام ، وهي كتجربة ممكنة الحصول فى بلاد الخراب الفكري والسياسي .

١٠ - كنت أعرف أن التجربة السعودية غير قابلة للنشر ، فهي تجربة فريدة من نوعها ، وتنبثق من قراءة متشددة سياسيا ودينيا ، ولكن الحكام من قبل استغلوا السذاجة الدينية لدى الشعوب ، فكان لقب خادم الحرمين الشريفين من أدوات استغلال الدين عند الشعوب المسلمة ، بل وكانت الحروب الباردة تمنح السعودية حق القيادة للعالم الاسلامي ، فاستغلت الحركات الدينية ، وعلى رأسها الإخوان المسلمين ، فكان التحالف الإسلامي - المسيحي - الغربي ضد الشيوعية ، وقادت السعودية ومعها الحركات الدينية الشعوب الإسلامية تحت قيادة الغرب فى ضرب الشيوعية .

انتهت حرب الباردة ، وانتهى معها زمن التحالف ، فبدأ العالم ليدخل مرحلة جديدة ، ولكن الساسة فى السعودية لم يلاحظوا هذه التغييرات الجذرية ، بل ولَم يواكب تغيير فكري عند النخب الدينية ، ومن هنا وجد هؤلاء جميعا بأن الخطة العالمية تستهدف المنطقة ، بل وهناك خطة استراتيجية فى مراجعة الدولة الحديثة التي انبثقت من مشروع سايكس - بيكو ، وأن المرحلة الجديدة لن تكون على مساقات المشروع السابقة ، وإنما لا بد من هزة سياسية واجتماعية للمنطقة ، وهذا يمهد بدوره لإيجاد الشرق الأوسط الجديد .

فى المنطقة قوى وظيفية تعمل وفق خطة عالمية ، ودول وظيفية لها أعمال محددة وفق استراتيجيات عالمية وإقليمية ، ولكن لدينا وعاظ لا يفقهون هذه اللغة ، ويعيشون فى زمن الدولة الإسلامية فى العهود الأموية والعباسية ، ويستأنسون خطاب الفقهاء فى اللحظات السابقة ، لتنزيلها فى العصر الحديث ، ولا يلاحظون التغيير الجذري للدولة فى البناء الشكلي ، وفى المضمون الداخلي .

كل ذلك ، كنت على معرفة بها ، ولَم أكن ساذجا جدا حتى لا أعرف ، وكل ذلك ، كان مرسوما ، ولَم أكن ساذجا حتى لا أعرف ، وكل ذلك ، تم فى غياب العقل الفقهي المقاصدي ، فكانت القراءة الظاهرية بدون فقه المذهب الظاهري سائدا فى هذه المرحلة .

كل ذلك ، يؤكد لى أن لا مستقبل للنظام السعودي فى لحظة العولمة ، فهو يحارب ذاته ، لأنه كنظام قام على قراءة دينية ، وشرعيته دينية ، ذلك لأنه ليس نظاما مؤسسا على العقد والبيعة ما بين الشعب والحاكم ، فالبيعة المعروفة فى السعودية هي شكلية ، ليست إلا ، ومن هنا فهي ليست دولة عصرية بالمعنى العلمي للكلمة ، وتخرج من شروط وجودها بلا خطة هادية ، فهي إلى الهلاك السياسي اقرب ، ومن هنا ، نلاحظ التخبط فى تسيير الدولة فى المرحلة الراهنة من الإعتقالات التعسفية ، ومن تبنى قرارات غير مدروسة ، وكل ذلك يجعل النظام السعودي فى كف عفريت .

ليس من المهم أن تعرف متى يزول هذا النظام ؟ ولكن من المهم أن تعرف أن هذا النظام ليس مؤهلا للبقاء ، فهو نظام يقوم على الإكراه والغلبة ، والثقافة العالمية تنزع نحو إقامة دول تقوم على التفاهمات ، والعقود السياسية ، فقد ولى زمن القوة ، وقد لاحظنا أن البريطانيين دخلوا فى الإتحاد الأوربي عبر استفتاء شعبي ، وخرجوا منه عبر استفتاء شعبي ، فلا مستقبل لأنظمة تعود سياساتها إلى ما قبل ألف عام .

لقد بشر ( العتيبة ) أنظمة علمانية فى الشرق الأوسط ، وهو يعنى بذلك فتح دور للسينما ، ومحلات للغناء ، ورخص قيادات السيارة للنساء ، فهكذا فهم العتيبة وإخوانه العلمانية ، ولكنه لم يلاحظ أن ثلاثة تجارب ناجحة فى المنطقة ، ولكنها ليست كلها عربية ، فهناك تجربة الأتراك فى بناء دولة عصرية ناجحة ، وتجربة الإيرانيين فى بناء دولة ذكية فى المنطقة ، وتجربة إسرائيل فى بناء دولة عبرية ديمقراطية .

رأينا فشل الدولة فى العراق ، وفى سوريا ، وفى اليمن ، وفى ليبيا ، وتعثر مشروع الدولة فى مصر ، وفى السودان ، وفى لبنان ، وتراجع مفهوم الدولة فى السعودية والخليج ، وتآكل مشاريع الوحدة من زمن الزعيم عبد الناصر ، حتى زمن الأمير محمد سلمان .

فى هذا الزمن ، لا مكان للأغبياء فى الخريطة السياسية ، ولا مكان للعلماء الذين يشترون بآيات الله ثمنا قليلا ، ولا مكان للمثقفين الذين يعيشون تحت رحمة المال ، ولا مكان للدعاة الذين يقولون ما لا يفهمون .