السبت 2017/08/26

لأمريكا الأرض .. ولوكلائها الدم والحساب !

بغض النظر عن الآراء العامة حول موجة الربيع العربي، والانقسام بين مؤيد لها ومعارض، فإن الثابت أن الثورات الشعبية اشتعلت كردة فعل "قد تبدو متأخرة جداً" لسياسات القمع التي مارستها الدكتاتوريات الحاكمة في المنطقة خلال أربعة أو خمسة عقود، والثابت كذلك أن الغرب استطاع ركوب تلك الموجة ليس لإيجاد الحلول، بل لإدارة خيوط الصراع بما يحقق مصالحه ويضمن بقاءه هناك، سواء انتصرت الشعوب أو انتصر حُكامها.

ظهور تنظيم الدولة على ساحة الأحداث في كل من سوريا والعراق، وسيطرته على مناطق شاسعة في الدولتين، وقيامه بإنهاء أو إنهاك وجود الفصائل الثورية في عدة محافظات سورية، شكَّل في واقع الأمر تحدِّياً إضافياً للربيع العربي، إذ ساهم في إلغاء المطالب الشعبية المشروعة، لصالح "الحرب على الإرهاب"، التي بات لها كل الأولوية، وهذا ما يفسِّر عزوف فرنسا والولايات المتحدة عن تشديد المطالبة برحيل الأسد، مقابل "أولوية" القضاء على تنظيم الدولة.

في هذا الإطار، تصدَّرت الولايات المتحدة لتشكيل تحالف دولي ضد تنظيم الدولة في 10 أيلول/سبتمبر 2014، بعد شهر من بدء عملياتها الجوية بالعراق للدفاع عن الإقليم الكردي المهدَّد، وجاء ذلك عقب توسُّع رقعة سيطرة التنظيم بشكل واسع في الأراضي السورية والعراقية، خلال النصف الأول من العام 2014.

ولأن باراك أوباما أدرك صعوبة أن تتولى الولايات المتحدة وحدها محاربة التنظيم، فقد حرصت إدارته على اتباع استراتيجية تقوم على عاملين:

الأول : توسيع دائرة التحالف العسكري عبر إقناع مزيد من الدول بالانضمام إليه.

الثاني: تعزيز الضربات الجوية بقوات برية تقاتل تنظيم الدولة على الأرض، وهنا أعلن أوباما أن بلاده ستعتمد على "جماعات محلية" تقوم بتدريبها وإمداداها بالأسلحة والخدمات اللوجستية.

وتطبيقاً لخطة أوباما، قامت الولايات المتحدة بالاعتماد على مليشيات "الحشد الشعبي" في العراق، ومليشيات تنظيم "ب ي د" في سوريا، رغم ما يحمله هذا التعاون من تناقضات وإشكاليات كبرى، وجدت واشنطن نفسها مُجبرةً على تجاوزها في ظل عدم وجود من تعتبره "شريكاً فعالاً" في محاربة تنظيم الدولة، ولا سيما بعد فشل جهودها في إقناع فصائل المعارضة السورية بالتخلي عن قتال نظام الأسد في سبيل مشروعها.

ربما تحتاج مناقشة التناقضات في اعتماد واشنطن على الحشد و "ب ي د" إلى بحث مستقل، لكن نقطة البحث في هذه الأسطر تتعلق بالمكاسب التي ستجنيها الولايات المتحدة من سياسة "الاعتماد على الوكلاء"، والثمن الذي يدفعه "الوكلاء" في هذه المحرقة.

رغم التشابه العام في الظروف التي قامت خلالها الولايات المتحدة بتوكيل مليشيات الحشد و"ب ي د" عام 2014، إلا أن ثمة نقاطَ اختلاف تجعل الوضع في العراق أكثر تعقيداً من سوريا، فواشنطن ليست هي الداعم الحصري لمليشيات "الحشد الشعبي" بل إنها تتقاسم دعم هذه المليشيات مع غريمتها هناك .. إيران. ولهذا  ستركز هذه السطور الحديث عما يسمى "وحدات الحماية الكردية" في سوريا.

 

المكاسب الأميركية من "الحرب على الإرهاب":

بالنسبة للولايات المتحدة جاءت مُجريات الأمور في سوريا كما تحب وتشتهي حتى اللحظة الراهنة، فحربها على الإرهاب تجري على قدم وساق، بعد التفاهم مع روسيا حول خطوط النفوذ وحدوده، ونفقة تلك الحرب تتكفل بها دول عربية وإسلامية تشارك بشكل رئيسي في التحالف الدولي، ومن جهة أخرى ليس لدى الولايات المتحدة إشكال مبدئي بالنسبة لأمن إسرائيل، إذ إنها راعت هذا الأمر في كل تفاصيل سياستها بسوريا، ولا سيما في اتفاق وقف إطلاق النار بالجنوب.

ومن حيث المكاسبُ الاستراتيجية فقد ضمنت واشنطن -كما حليفتها روسيا- وجوداً عسكرياً طويلَ الأمد عبر القواعد العسكرية التي تنشئها في مناطق سيطرة الوحدات الكردية " ب ي د" بالحسكة وحلب والرقة، بالإضافة إلى تفاهمات لم يعلن عنها بشكل رسمي تتعلق بوضع محافظة دير الزور، التي يتوقع أن يكون نصيب الولايات المتحدة فيها أراضيَ غنية بالنفط والغاز.

ومن جهة ثانية.. تحقق الولايات المتحدة لنفسها الحماية من أي مساءلة محتملة في جرائم الحرب المرتكبة ضد المدنيين، عبر اعتمادها في رصد أهدافها على مليشيات "ب ي د" الموجودة على الأرض، والمتهمة بالقيام بعمليات إعدام ميداني وتعذيب وحشي لسكان المناطق التي يتم طرد تنظيم الدولة منها.

ومن جهة ثالثة ..تضمن الولايات المتحدة عبر استراتيجية "دعم الحلفاء المحليين" عدم وجود خسائر بشرية في صفوف مقاتليها الذين يرافقون مليشيات "ب ي د" بصفة مستشارين ومدرِّبين فقط، ولا وجود لهم على الخطوط الأولى للقتال ، ولهذا لا نجد في أخبار المعارك إلا بشكل نادر أخباراً تتعلق بمقتل أو إصابة جنود أميركيين.

 

مليشيات "ب ي د" .في قلب المحرقة :

 

أما على الطرف الآخر .. مليشيات " ب ي د" التي تخوض فعلياً المعارك على الأرض فنستطيع تسجيل الملاحظات التالية:

1- لا تمتلك تلك المليشيات واقعياً أيَّ قرار سياسي أو عسكري على الأرض، ولا تبدو سوى "بيدق" تستخدمه الولايات المتحدة في تعاطيها مع الملف السوري، فهي الطرف الذي يقدّم الدعم كاملاً، والذي لولاه لما استطاعت تلك المليشيات الثبات لأيام في أي منطقة تقتحمها، وبالتالي فإن مليشيات "ب ي د" لا تمتلك زمام الأمور على الأرض، اللهم إلا من نطاق ما تعطيها واشنطن من صلاحيات تتعلق بالجانب الإداري في المناطق التي تسيطر عليها.

2- تتكبد المليشيات الكردية في المعركة ضد تنظيم الدولة، كماً هائلاً من الخسائر البشرية، وصل بها إلى درجة الاستعانة بالآلاف من "المرتزقة" العرب الذين كانت تعتبرهم حتى وقت قريب غيرَ مأموني الجانب.

وفي هذا السياق نستطيع أن نقول إن معارك منبج وتل أبيض وكوباني أفقدت " ب ي د" عدداً لا يستهان به من المقاتلين، بينما تبرز اليوم معركة الرقة بمثابة "الثقب الأسود" الذي يبتلع المئات من عناصر المليشيات.

لا توجد إحصائية دقيقة للخسائر البشرية التي يتكبدها مقاتلو "ب ي د" في الرقة، لكن ضرارة المعارك التي يستخدم فيها تنظيم الدولة الملغمات والطائرات المسيرة وسلاح القناصة، تشير إلى خسائر بشرية كبيرة، ولعل أكبر دليل على ذلك أن معارك الكر والفر لا تزال سيدة المشهد في الأحياء الشرقية والغربية من الرقة، ولهذا بينت عدة مصادر أن " ب ي د" رفضت بشكل قاطع أن يكون لها أي دور منفرد في معركة دير الزور المقبلة، ولهذا تقف عند حدود المحافظة الإدارية شمالاً منذ شهور، ولهذا كذلك تسعى الولايات المتحدة اليوم إلى تشكيل تحالف عسكري لمعركة دير الزور يتألف من مليشيات "ب ي د" وفصائل محلية معارضة محسوبة على "الجيش الحر" مثل "جيش مغاوير الثورة".

 

3- رغم عدم امتلاكها زمام القرار الفعلي على الأرض لأنها مجرد "وكيل مأجور"، ورغم الخسائر البشرية التي تتكبدها، تواجه مليشيات "ب ي د" في حقيقة الأمر إشكالاً من نوع آخر، يتعلق بجرائم الحرب والانتهاكات العنصرية التي قامت بها تلك المليشيات بحق المكوّنات العرقية الأخرى في محافظات الحسكة والرقة وحلب.

عمليات التهجير القسري وتجريف الأراضي والهدم الممنهج للمنازل وعمليات التعذيب والإعدام..عناوين عامة لانتهاكات "ب ي د" لم نأتِ بها من مصدر مُعاد لها، بل هي جرائم وثقتها وتحدثت عنها منظمة العفو الدولية، ومنظمة هيومان رايتس ووتش، أكثر من مرة.

قد يقول قائل : وما فائدة توثيق هذه الانتهاكات ما دام الحساب غائباً ؟

الجواب بسيط ..تهمة جرائم الحرب لا تسقط بالتقادم في القانون الدولي، وإذا كانت مهمة "ب ي د" اليوم تقتضي غضّ الطرف عما يقومون به من جرائم انتقامية ممنهجة، فإن الدور سينتهي يوماً ما، وحينها لن يحصلوا على هيئة دفاع أميركية، بل إن أميركا نفسها هي من سيجرهم إلى محكمة الجنايات، وإن نظرة عابرة في تاريخ الولايات المتحدة تعطي دورساً مجانية ، عن حلفاء للولايات المتحدة كانوا أكثر إخلاصاً من "ب ي د"، وكانت هي أول من وضعت رؤوسهم تحت المقصلة.

الرسالة هنا في غاية البساطة ولا تحتاج إلى تحليل متعمق، الولايات المتحدة لم تدخل الحرب في سوريا لإضعاف نظام الأسد، وقد اعترفت بهذا في أكثر من مناسبة، بل إنها وجدت أن في الكعكة السورية لقمة تناسبها وتستطيع أن تتقاسمها مع روسيا بلا مشاكل، وهي اليوم تضع يدها بشكل مباشر على جميع المناطق التي تسيطر عليها مليشيات "ب ي د"، بدون خسائر بشرية في صفوف قواتها، وبدون الخشية من حساب مستقبلي على "جرائم حرب"، لأنها وفق ما تقول جاءت لتخلص أهل المنطقة من الإرهاب، أما وكلاؤها فهم من يتكبدون الدم، وهم من سيكونون "كبش الفدا" عند فتح ملفات الانتهاكات والجرائم بحق الإنسانية.