الأربعاء 2018/07/18

سوريا.. ترامب ليس أول البائعين!

ربما كان السوريون أكثر شعوب الأرض ترقباً للقمة التي جمعت الرئيسين الأميركي والروسي في العاصمة الفنلندية هلسنكي، على أنها قد تتمخض عن اتفاق بين الدولتين العظميين لرسم خارطة الحل في سوريا.

العجيب أن القمة التي جمعت أكثر شخصين يمكن أن يؤثرا في واقع البشرية كانت نتائجها معلومة بالنسبة للمحللين السياسيين والمراقبين والمتنبئين كذلك، فقبل نحو أسبوعين من تاريخ انعقاد القمة عرف معظم السوريين أن ترامب سيقوم بتسليم الملف السوري لنظيره الروسي، إيذاناً بانسحاب الولايات المتحدة منه نهائياً، مقابل أن يضمن بوتين أمن إسرائيل ويساهم في تسريع خروج إيران من سوريا.

انعقدت القمة، ولا أحد يعرف ما دار بين الرجلين إلا المترجمين بينهم، ودارت على رأس ترامب حرب شعواء في الداخل الأميركي لأنه بدا منقاداً بشكل مهين لبوتين، ولا سيما أنه قام بتكذيب أجهزة الاستخبارات الأميركية حول التدخل الروسي، ورجَّح كلام بوتين في مسألة عدم التدخل.

على أية حال.. لقد سمعنا عبارة "ترامب باع سوريا لبوتين" عدة مرات، ولا سيما أنهما التقيا مرتين قبل ذلك، الأولى على هامش قمة مجموعة العشرين في هامبورغ بألمانيا، والثانية على هامش قمة منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ (أبيك) في فييتنام. وبعد اللقاءين دار نفس الحديث الذي يدور حالياً حول تخلي ترامب عن الملف السوري.

في واقع الأمر ترامب لم يتخلَّ عن الملف السوري. لا شك أنه منذ مجيئه للبيت الأبيض أعطى لروسيا حرية أكبر للعمل على تصفية الثورة السورية، عبر قرار قطع الدعم عن المعارضة، وعبر إقصاء "رحيل الأسد" من سلم أولوياته، لكن دعونا نتفكر قليلاً.. هل ترامب هو بالفعل من أوصل سوريا إلى هذه المحطة؟

التخلّي الأميركي عن سوريا لم يبدأ مع ترامب، بل إنه موجود منذ أيام الثورة الأولى في عهد سلفه باراك أوباما. صحيح أن واشنطن كانت من أوائل الدول التي أسقطت الشرعية عن بشار الأسد بسبب قمع المتظاهرين وارتفاع معدلات القتل التي ارتكبتها قواته، إلا أن أوباما وإدارته منعا وصول السلاح النوعي للمعارضة السورية، وأجبرا حلفاء الولايات المتحدة على الانصياع لهذا الحظر، والاكتفاء بإرسال "الأسلحة غير الفتاكة" بالإضافة إلى مساعدات إنسانية جعلت أكبر دولة عظمى في العالم تظهر كمؤسسة خيرية تضمد جراح السوريين لكنها لا توقف قتلهم، ولا تعاقب سفّاحهم.

نعم.. ترامب لم يسلم سوريا لبوتين بشكل شخصي، إنما جاءت وظيفته كذلك في هذا التوقيت، لأن بلاده سلمت سوريا لروسيا وإيران منذ سنوات..منذ أن خرج أوباما ليضع استخدام الكيماوي خطاً أحمر ثم اكتفى بمحاولة نزع هذا السلاح حين استخدمه الأسد بريف دمشق في آب 2013. ومن يسمع الآراء اليوم حول انصياع ترامب لبوتين فيما يخص الملف السوري يحسب أن الولايات المتحدة قبل ذلك كانت بالفعل ضد نظام الأسد، والواقع يقول إن دولة كأميركا لو كانت تريد إزاحة الأسد لفعلت ذلك في الأسبوع الأول من الثورة، لكنها ملأت الأجواء تصريحات وتنديدات وقرارات فارغة، بينما كان فعلها الوحيد في سوريا أنها شكلت تحالفاً دولياً لمحاربة تنظيم الدولة، وتركت الأسد ينهش لحوم السوريين كما يشاء، بغطاء روسي عسكري وسياسي منقطع النظير. من باع سوريا لبوتين قبل ترامب وأوباما هم العرب الذين باعوا من قبل فلسطين والعراق، من باع سوريا هو المجتمع الدولي الذي وقف عاجزاً أمام أسوأ نكبات البشرية في القرن الحادي والعشرين.

الخلاصة أن السوريين عندما واجهوا مجرمي بشار الأسد في المظاهرات بصدور عارية لم ينتظروا أن يصبح ملفهم بيد ترامب أو أوباما أو بوتين، ولم يخطر ببالهم أن قضيتهم ستصبح مجرد "كرة قدم" يقذفها بوتين لترامب في مؤتمر صحفي عابر، هم خرجوا لنيل حقوق لن يمحيها القتل والتدمير والتنكيل، مهما حصل فلن تكون مأساتهم العظمى مجرد ملف سياسي يطرح على طاولات السياسيين.