الخميس 2018/08/09

ثورة دير الزور في كتاب “عزمي بشارة”.. مغالطات وردود

أعاد ناشطون سوريون مؤخراً نشر فقرات من كتاب أصدره المفكّر الفلسطيني "عزمي بشارة" في العام 2013 وفقاً لما قال بشارة إنه "محاولة لتوثيق الثورة السورية" خلال عامين من عمرها، بحسب ما ذكره في مقدمة الكتاب.

كتاب " سوريا.. درب الآلام نحو الحرية.. محاولة في التاريخ الراهن"، الذي نشره "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" في 687 صفحة، تناولت توثيقاً لأحداث الثورة السورية في مواطنها الرئيسية، وفقاً للقراءة التي ارتآها "بشارة".

لا يسعنا في هذه العجالة أن نتحدث عن الكتاب ككل، لأن ذلك يحتاج حديثاً في مناهج النقد ومدارسه من جهة، ولأن الحديث عن جميع محافظات سوريا ودورها في الثورة السورية يحتاج جهداً توثيقياً ضخماً بالاعتماد على مؤسسات وناشطين ومنهجية معينة.

استوقفني في هذا الكتاب الحديث عن ثورة مدينة دير الزور، لأنني عاصرتُ تلك الفترة في المدينة على الأقل.  الحديث عن الثورة في محافظة دير الزور ومدينتها، استغرق من الكتاب أقل من 10 صفحات ( بين الصفحتين 144-153 )، وللأسف فقد وقع مؤلف الكتاب ( بشكل أدق المصادر التي اعتمد عليها) في مغالطات كثيرة، وأخطاء لا يحتاج المرء لتوضيحها إلا العودة لأهل المحافظة أنفسهم الذين لا يزالون شهوداً عياناً أصدق ألف مرة من جميع ما سطّرته الكتب أو  أنتجته المواقع والقنوات التلفزيونية. وحتى يكون الرد منهجياً بقدر عجالته سنورد في هذه الأسطر أهم المغالطات في الكتاب – بما يتعلق بمحافظة دير الزور كما أسلفنا – ومعها تفنيد قائم على ما عاشه أهل دير الزور فعلياً بين 2011 و2013، وتجدر الإشارة أن الأخطاء الواقعة في توثيق بدايات الثورة بدير الزور يمكن الحديث عنها كذلك فيما ورد عن إدلب أو حمص أو دمشق.

1- دوافع الاحتجاج:

نود في بداية الأمر أن نشير إلى تحفظ ما على كلمة "احتجاج" لأن هذه الكلمة تعزز فرضية القبول بالنظام مع وجود ملاحظات هنا وهناك تتعلق بكيفية إدارته الدولة. ما حصل في سوريا منذ البداية هو ثورة من تحت الرماد، الجميع يعرف التاريخ جيداً، ويعرف كيف اغتصب حافظ الأسد البلاد وجعلها رهينة لمصالح عائلته والمقربين منه، لكن الخوف من إجرام يتجاوز حدود المعقول هو ما أجبر الناس على السكوت حتى حانت الفرصة المناسبة.

يقول المؤلف في ص144: ( فدوافع الاحتجاج في دير الزور كثيرة، منها ما ذكر سابقاً في ما يتعلق بالجفاف وغياب اهتمام الدولة، ما أدى إلى تشرد آلاف العائلات وفقدانها مصدر رزقها، وانتشار البطالة بين الشبان .. ).

تجدر الإشارة إلى أن المؤلف يحاول في حديثه عن جميع المحافظات أن يربط الثورة بالعامل الاقتصادي فقط، ويجعلها نمطاً من "ثورات الفقراء".

على أية حال.. لا شك أن الحديث عن إهمال الدولة صحيح، إذ تعرضت دير الزور لحجم كبير من الحيف والإهمال، وكأن الأسد الأب وابنه تقصّدا اعتبار دير الزور جزءاً مهملاً من الخارطة، إذ طالما شعر أهلها بحالة "تغريبة" في وطنهم، وأنهم أقرب إلى العراق منهم إلى سوريا. لكن، يبدو أن المؤلف وقع في خلط بين محافظتي دير الزور والحسكة، لا شك أن موجة الجفاف التي ضربت شرق سوريا منذ 2005 كانت شديدة الوطأة، لكن المتأثر الحقيقي منها هو محافظة الحسكة، التي جفت أنهارها وروافدها، وواجه أهلها قحطاً وجفافاً قاسيين، وهو ما أدى فعلياً إلى موجة هجرة إلى محافظات دير الزور والرقة ومدن الداخل السوري.. نعم.. هذا ما حصل في الحسكة، لكن الوضع في دير الزور لم يصل إلى ما قاله الكتاب، فالمحافظة أصلاً ليست تعتمد على الزراعة فقط، ويجب ألا ننسى وجود نهر الفرات فيها.

ربط الثورة ( يُحبّ المؤلف أن يسميَها احتجاجات) في دير الزور بعامل الجفاف وفقدان موارد الرزق خطأ مزدوج، أولاً لأنه غير صحيح قطعاً، وما ذكره عن الدير قد ينطبق على جارتها الحسكة، وثانياً لأنه يجعل الثورة "ثورة جياع وفقراء"، وهذا تجاهل كبير لواقع الأمر وتقزيمٌ لتضحيات لم تبذل في سبيل "رغيف الخبز".

"دوافع الاحتجاج" في دير الزور هي نفسها الدوافع في درعا وحمص ودمشق وإدلب وكل مدينة سورية، الدافع أعوام من القهر والكبت والقمع، وعقود من التهميش والإقصاء والاستعباد، وتاريخ أسود فرضه آل الأسد على جميع نواحي الحياة في سوريا. كل هذا وجد له متنفّساً حين حط الربيع العربي رحاله عند السوريين، ويجب ألا ننسى أن الثورة في سوريا لم تبدأ بحرق عربة بائع متجول ( كما حصل في تونس)، بل بدأت بقصة أطفال خرقوا جدار الصمت وكتبوا على الجدران عبارات التحرر الحالمة، فكان عقابهم السجن وقلع الأظافر، وإهانة آبائهم إلى الحدود القصوى.  ويجب ألا ننسى كذلك أن نظام الأسد حاول التفكير بالعامل الاقتصادي لكبح جماح الثورة، فأصدر قراراً بعد اندلاعها بأيام يقضي بزيادة الرواتب، ولو كان العامل اقتصادياً لعاد الناس إلى بيوتهم أو حاولوا الحصول على زيادات ثانية. ما حصل أن السوريين رفضوا "رشوة الزيادة"، وطلّقوا سنوات الصمت.

2- مسيرات "كثيفة" لتأييد النظام!

يقول المؤلف في صفحة 146: "وشهدت مدينة دير الزور في الشهر الأول للثورة مسيرات تأييد للنظام كانت كثيفة مقارنة بالمظاهرات المحدودة ضد النظام".

لا بد من وضع ألف خط أحمر تحت هذا التزوير الكبير لتاريخ مدينة دير الزور مع الثورة، ويرتبط ذلك بتزوير آخر وتناقض وقع فيه المؤلف حول انضمام دير الزور لموجة التظاهرات والغضب الشعبي.

يعرف السوريون جيداً كيف أن النظام كان يجبر كل المحافظات بدوائرها وموظفيها وطلابها على الخروج فيما كان يسمى "مسيرات التأييد". ومدينة دير الزور حاول النظام فيها فعل الشيء نفسه عن طريق ترهيب الموظّفين والتهديد بالفصل والملاحقة الأمنية. وعلى الرغم من هذا، لم ينجح النظام في تدجين الشارع الديري كما يريد، ومما كان معروفاً أن "مسيرات التأييد" نفسها كانت تتحول خلال دقائق إلى مظاهرات ضد النظام، ومنها المظاهرات التي قتل فيها الطالب "محمد الملا عيسى".

ثمة فرق كبير بين التوضيح بأن النظام يجلب الحافلات والسيارات إلى الدوائر لإخراج الموظفين تحت التهديد، وبين القول إن المدينة خرجت مسيرات تأييد كثيفة!.

3- الحراك الثوري:

في 18 -3 – 2011، تحوّلت مباراة بين نادي الفتوة الديري ونادي تشرين اللاذقاني إلى تظاهرة غاضبة ضد النظام، صاح فيها الجمهور ضد النظام وقاموا بحرق سيارات للأمن خارج الملعب. بهذا التاريخ تكون مدينة دير الزور أول مدينة خرجت بعد درعا تعبر عن غضبها من واقع الأمر.

يقول المؤلف في ص 146: " بدأ الحراك الاحتجاجي في دير الزور منذ جمعة العزة ( 25 آذار مارس 2011 )"، ثم يناقض نفسه بعد صفحتين، فيقول في الصفحة 149: " دخلت مدينة دير الزور فعلياً في الحركة الاحتجاجية في "جمعة الإصرار" ( 15 نيسان / أبريل 2011 )".

ليس هذا مهماً، فربما لم يسمع المصدر الذي اعتمد عليه المؤلف بتظاهرة الملعب البلدي الأولى، ولعل هذا السهو أخفّ بكثير من التزوير الذي يتعلق بأعداد المشاركين في التظاهرات، أو بسرد الفئات التي شاركت.

أ- يذكر الكتاب أن العشرات شاركوا في التظاهرات الأولى، وأن العدد ظل محدوداً لأسباب ذكر أنها تتعلق بالبعد الجغرافي لدير الزور عن المركز "دمشق"، وأن ساكنها مرتبطون بشيوخ العشائر الذي كانوا في قائمة الولاء للنظام في الأشهر الأولى. ويصل العدد الأكبر للمشاركين في المظاهرات إلى 150 ألفاً في جمعة "أحفاد خالد".

هذا التقليل الذي لا ندري غايته في أعداد المشاركين بالتظاهرات الأولى هو تكرار رسمي للأعداد التي كان إعلام النظام يذكرها لإنكار ما يحصل على أرض الواقع وللإيحاء بأن الغالبية غير راضية عن الثورة، وأن فئة قليلة هي من كانت تقوم بالمظاهرات، وهذا مخالف للحقيقية تماماً، ويكفينا أن نقول إن وكالات الأخبار والتنسيقيات ذكرت أن مظاهرة "أحفاد خالد" شارك فيها نحو 500 ألف متظاهر في "ساحة الحرية". لأخذ العلم فإنه لم يشارك في هذه المظاهرة أهل المدينة فقط، بل إن عدداً كبيراً من المتظاهرين نزل من الريف للمشاركة، وهذا أمر معروف. ومن يعتبر أن العدد 500 ألف فيه مبالغة فبالتأكيد إن العدد 150 ألفاً فيه إجحاف وابتعاد عن الحقيقة، لأن من شهد تلك المظاهرة عرف أن المدينة بشيبها وشبابها ونسائها وريفها ومدينتها تجمعت في تلك الساحة والأرقة المحيطة بها.

ب- يقول الكتاب في ص 149 : " يمكن القول إن من أشعل الانتفاضة في مدينة دير الزور وأكسبها زخماً شعبياً هم الشبان المسيسون والمثقفون... ".

لا يخفى أن عبارة "المسيسون" فيها غمز متعمّد لطبيعة الثورة الشعبية، وتأطيرها بشكل مقصود بطائفة من الناس "المسيّسين والمثقّفين". ما حصل في دير الزور ليس ثورة مثقفين أو مسيسين أو فلاحين أو عمال،  من قاموا بالثورة هم جميع فئات المجتمع، من طلاب المدارس إلى الأطباء والمعلمين والمحامين، إلى الفلاحين والعمال البسطاء. الجميع انضمّ بشكل عفوي للثورة، صحيح أن عامل الخوف في البداية فرض نفسه على الجميع، لكن مشاركة جميع الفئات وكثرة الأعداد أعطت طابعاً عاماً بأن هذا النظام لا يمكن أن يعود إلى سابق عهده، وتيقن الجميع أن سوريا قبل آذار 2011 لن تكون على حالها بعد هذا التاريخ.

مقدمة الكتاب قالت إنه "محاولة" للتوثيق والتأريخ، وللجميع الحق في القيام بهذه المحاولات، لكن محاولات التوثيق تتحول إلى "مغامرات" غير محسوبة عند الاعتماد في المعلومات على مصدر معين، من أراد أن يوثق أو يؤرخ فلا ينبغي أن يستفرد برؤية الواقع من منظوره، بل يجب الاعتماد على الشهادات الحية والشخصيات التي عاصرت كل ما جرى ولا تزال.

قد يقول قائل: لماذا تردّون على الكتاب بعد سنوات من صدوره؟

والجواب من عدة نواح، أن الكتاب لم يأخذ حيزاً من الاهتمام في وقت نشره، وأن الرد في هذا الوقت هو خير دليل على أن تحوير بعض الحقائق سيعطي بالضرورة نتائج مشوهة، فمن إشكالات الثورة السورية أن بعض الشخصيات قرأتها من منظور فلسفي أو فكري أو اجتماعي أو سياسي، ووصلت الصورة إلى الغرب ناقصة أو مبتورة الأطراف.. نحن ببساطة يا سادة شعب وقع تحت احتلال اسمه "نظام الأسد" وليس كل ما حدث إلا "محاولة" للتحرر من هذا الاحتلال المدعوم دولياً وإقليمياً، ولئن فشل السوريون في ذلك حالياً فجولات الشعوب مع المحتلين كثيرة، ولن يضيع حق وراءه مُطالب.