الأربعاء 2018/08/15

تركيا أردوغان.. المعركة الوجودية

لم تعد الأزمة بين واشنطن وأنقرة متعلقة بالقس الأمريكي المحتجز في تركيا والذي يحاكم بتهمة دعم الإرهاب والتجسس.. بل إن الأزمة خرجت عن كونها متعلقة بشخص يعي ترامب أنه ضليع بتهمة دعم غولن، إلى توجهٍ أمريكيٍ سافرٍ بمحاولة إخضاع تركيا إلى صورة مشابهة للهيمنة الأمريكية على دول عدة بالمنطقة، أبرزها السعودية التي تحولت اليوم بقيادتها الجديدة إلى أداة بيد ترامب يقلبها في الاتجاه الذي يريده.. ما حصل من أمر لترامب لسلمان مؤخراً بزيادة النفط المُصدَّر أحد الأدلة على ذلك.

استخدم ترامب سياسة العصا المُغلَّظة في تعامله مع تركيا.. تهديدات تتلو تهديدات وعقوبات تتلو عقوبات يتبجح ترامب بفرضها على تركيا بأسلوب بلطجي بحت لا يليق أبداً برئيس دولة كبرى، خاصة حينما قال إنه سيفرض عقوبات ضد تركيا و"الليرة التركية تنهار أمام دولارنا القوي"، منطق لم يسبق أن استخدمه رئيس أمريكي بهذه الفظاظة ، يحاول من خلالها ترامب أن يدفع بتركيا ويطوّعُها إلى الحد الذي يرغب به، دون أن يقدمَ أيةَ تنازلات تدفع الأتراك بالطرف المقابل إلى تقديم تنازلات، بل إنه حدد مهلة للإفراج عن القس وكأنه لا يتعامل مع دولة لها سيادة، يريد بذلك أن يقول لا نريد كلمة غير كلمتنا وما نقوله يجب أن يُطبَق، ولا يبدو أن مطالب أنقرة الكثيرة بتسليم غولن تعني شيئاً بالنسبة له فضلا عن تجاهله الصارخ لمطالب وقف تسليح مليشيا "ب ي د" الانفصالية ذراع "ب ك ك" السورية.

لكن على الطرف المقابل غاب عن ترامب أن أردوغان ليس بالرجل الذي يقبل الهزيمة أو الاستسلام ، فهو صاحب نفسٍ طويل في الشد والجذب، يستمد ثقتَه من شعبه الذي جدد ثقته به مرةً أخرى حينما أعاد انتخابه في منصب الرئاسة، وقبلها كان قد منحه التحول للنظام الرئاسي، وقبلها كان قد أسقط الانقلاب لمجرد ظهور أردوغان على شاشة هاتف نقال يدعو فيها الأتراك إلى الدفاع عن وطنهم أمام محاولة انقلابية لا يخفى أن القس الذي يحاكم الآن كان من أكثر من يعلم بها بل وخطط لها وسعى لأن يكتب لها النجاح، وبالطبع فإن القس لا يعمل من قرارة نفسه، بل إنه كان يقوم بتوجيهات من إدارة بلاده التي كان يتولاها في تلك الفترة باراك أوباما، أي إن محاولة العبث الأمريكي بتركيا قائمة منذ زمن، وتسبب ترامب بإظهارها على العلن وكشف موقف بلاده المستفز بشكل صارخ .

يقول المثل "ربَ ضارةٍ نافعة".. صحيح أن العقوبات الأمريكية أثرت بشكل ملحوظ على سعر صرف الليرة التركية أمام الدولار الأمريكي، غير أنها أعادت ثقة الشعب التركي مجددا بأردوغان، فمن خلال ما جرى ويجري في تركيا اليوم تجد الجميع غاضبين ليس من الحكومة التركية بل من الإدارة الأمريكية التي تريد فرض الوصاية على الدولة التركية، اليوم أردوغان يثبت مرة أخرى أنه بطل بنظر شعبه تسعى أقوى دولة في العالم إلى أن تهمين عليه فيستمر بالوقوف والصمود ويرفض الانحناء أمام العاصفة ، بل يقابل الأفعال بمثلها، واشنطن تعاقب وزراء أتراك فيردُّ أردوغان بمعاقبة وزراء أمريكيين، واشنطن تفرض ضرائب تتبعها أنقرة بضرائب، وصحيح أن العملة تأثرتْ في تركيا غير أن هذا التأثر ستكون له تبعات حتى على أمريكا نفسها وصادراتها إلى العالم وخاصة السوق التركي المنفتح على العالم بشكل كبير جداً، ما يعني أن محاولة الإعلام الغربي والعربي بالتحديد المحسوب على ترامب في تأليب الأتراك على أردوغان باءت بالفشل كما باءت من قبل، كما فشلت في التأثير على العرب المستثمرين في تركيا بعد أن شهدنا كثيرين يقومون بدعم الاقتصاد التركي.

رسائل أردوغان توالت إلى ترامب الذي يتعامل مع الجميع بمنطق التاجر والمزاود، آخرها حينما قرر أن يقاطع المنتجات الأمريكية الإلكترونية، في صورة تعكس مجدداً صلابة الموقف التركي تجاه الأزمة الحالية ورفض تقديم أية تنازلات مذلة لم تعتدْ أنقرة وأردوغان بالذات على تقديمها، وهذا ما سيشكل صفعة كبيرة لترامب الذي يراهن على "دولاره القوي" لا على صداقة جادة وتعاون مشترك ، ومن غير المستبعد أن يشكل موقف ترامب تحركاً لدى صانعي القرار الأمريكي لإرضاء أنقرة بعد الحزم التركي الذي أبداه أردوغان ورفض تقديم أية تنازلات مذلة؛ يقول الواقع إن تقديمها سيؤدي إلى خسارة أردوغان لأهم أوراقه "وهي ثقة الشعب" وبالتالي تهتز صورة تركيا أردوغان الجديدة بعد وقت قليل من نشأتها، فالمعركة اليوم صحيح أنها بلا بنادق ومدافع وطائرات لكنها معركة وجودية تعني يكون أردوغان أو لا يكون.، بغض النظر عن المسار الذي تسير نحوه العلاقات التركية الأمريكية، والتي يبدو أنها أمام نقطة تحول فارقة، فإما عودة نحو الإيجابية الحذرة و"ليس على شروط الأمريكيين"، وإما طلاق بائن ألمح إليه أردوغان كثيراً وقال إن لدى بلاده خيارات كثيرة سواء من حيث اعتمادها على الصنع محلياً أو بناء تحالفات جديدة مع دول أخرى تضررت بقرارات ترامب وحروبه التجارية .