الأربعاء 2018/11/21

بين النفط والدم.. هذه أخلاقيات الولايات المتحدة في العالم

لا أعرف لماذا أصيب العالم بكل هذا الذهول من موقف الرئيس الأميركي إزاء قضية مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي.

صحيفة "واشنطن بوست" التي حملت لواء الضغط الإعلامي على ترامب كرّست اهتمامها لفضح ترامب أمام الرأي العام الأميركي، وأعضاء الكونغرس الأميركي، رغم أنها قالت بشكل صريح خلال مقالتين لها نشرتهما في وقت منفصل، إن الإدارة الأميركية لن تفعل شئياً، وأكدت أن "ابن سلمان" سينجو من فعلته، بينما يتم توجيه الاتهام لأكباش فداء رخيصة.

السؤال الآن: هل هذه هي المرة الأولى التي تبيع فيها "سيدة العالم" ضميرها لأجل المصالح التي ذكرها ترامب بلا خجل في تصريحاته الأخيرة أمس الثلاثاء؟ والسؤال الثاني: هل يمثل دونالد ترامب نفسه في هذه السياسة أم إنه يغرد تماماً في سِرب السياسة الأميركية العامة؟

في الجواب عن السؤال الأول يجد المرء آلاف الأجوبة من التاريخ القريب والحاضر، كلها تقول إن الدولة الأقوى في العالم لا تبيع "الديمقراطية" مجاناً، فهي تفصلها على مقاس مصالحها أولاً وبحسب ما يناسب وكلاءها العالميين ثانياً. فإذا شاءت جعلت كوريا الشمالية محور الشر في هذا العالم، ليس لأن بيونغ يانغ تعامل مواطنيها كالعبيد، بل لأن زعيمها لا ينصاع للإملاءات الأميركية، فإذا ما قرر كيم جونغ أون الانصياع ينقلب تقييمه لدى واشنطن إلى زعيم حكيم، ولا يُستعبد منحُه جائزة نوبل للسلام مقابل جهوده في نزع الأسلحة النووية من شبه الجزيرة الكورية، وليذهب الكوريون وحريتهم إلى الجحيم. الأمر نفسه ينطبق على إيران وكوبا وروسيا ومئات الملفات في العالم.

في سوريا مثلاً.. وقفت الولايات المتحدة منذ اندلاع الثورة ضد بشار الأسد موقف المتفرّج، واكتفت بالتنديدات تارة، وبأخذ دور المؤسسة الإغاثية تارة أخرى، ورغم تورّط بشار الأسد بآلاف المجازر وجرائم الحرب، إلا أن واشنطن قرّرت حتى اليوم اللعب على وتر المصالح متجاهلة دماء أكثر من نصف مليون سوري خلال سبع سنوات. ليخرج مبعوثها إلى سوريا "جيمس جيفري" مؤكداً سياسة بلاده بالقول إن الأولوية هناك ليست الإطاحة بالأسد، بل في محاربة الإرهاب وإخراج المليشيات الإيرانية.

أما الإجابة عن السؤال الثاني، فهي التي تضيع لدى العامة بين ما يقوله الكونغرس والصحافة الأميركية وما يقوله سيد البيت الأبيض.. هل في الولايات المتحدة دولة ظاهرية ودولة عميقة؟ بالتأكيد لا.. ثمة قرار واحد، وما يراه الناس من تعاكس بالمواقف بين الجمهوريين والديمقراطيين أو بين الرئيس والصحافة ليس سوى "إكسسوارات" تغطي المشهد الحقيقي. لا شك أن مقتل الصحفي جمال خاشقجي هزّ ضمير العالم، ولعل السوريين أكثر المتفاعلين مع قضية الرجل، لأن لديهم تجربة مع البطش ومع "إرهاب الدولة"، ولأنه وقف مع قضيتهم العادلة بفكر حر وقلم مسؤول، لكن.. هل هاجمت "واشنطن بوست" الإدارة الأميركية بسبب موقفها من "الهولوكوست السوري"؟ في الاثناء التي منحت فيها "واشنطن بوست" كل إمكانياتها للدفاع عن قضية خاشقجي قامت المقاتلات الأميركية بقتل مئات المدنيين الأبرياء في مناطق شرق دير الزور بذريعة "مكافحة الإرهاب".. هل سمعت "واشنطن بوست" عنهم شيئاً أو قالت بحقهم كلمة واحدة؟؟ وهل ثمة فرق بين ابن سلمان وبشار الأسد، أو بين القتل بالمنشار والقتل بالكيماوي وقنابل الفوسفور؟

لا فرق بالتأكيد في الرؤية الآدمية الفطرية، لكن "العم سام" يصنع فروقه بنفسه، ويقدم تقييماته بما يلائم مصالحه فقط، فمثلما يحتل النفط الأولوية على الدم في قضية خاشقجي، كذلك يتم إهمال دماء مئات آلاف السوريين مقابل مصالح أميركية غير مفهومة.

يتحول الأمر إلى سيل جارف من الأسئلة التي لا جواب لها البتة، وأياً تكن الإجابة فإن على البشرية اليوم أن تخشى على مستقبلها بشكل جِدّي، لأن الدولة التي يُفترض أن تكون "شرطياً للعالم" و ضامنة "للأمن الإنساني" هي نفسها من يحاول الاستفادة من الحرائق إلى أبعد حد بدلاً من إطفائها، هي نفسها التي تعرف جيداً متى تبيع الدم، ومتى تشتري النفط، وهي كذلك التي غيرت المفهوم القائل "لا يوجد أصدقاء دائمون بل يوجد مصالح دائمة" ليصبح "لا يوجد إرهابيون دائمون..بل يوجد مصالح دائمة".