الثلاثاء 2017/10/10

الموت بالتقسيط

إذا أردت أن تعرف ماذا يدور على أرض محافظة دير الزور، فما عليك إلا أن تحمل دفتراً يسع دنيا من الحكايات المأساوية، وتبدأ بسؤال من هُجِّروا من منازلهم قسراً في رحلة التغريبة الديرية المليئة بالموت الممزوج بالخوف والذل والبرد والضياع.

"أبو محمد" فقد ولده الذي قتلته قوات النظام بداية الثورة السورية على نظام الطاغية بشار الأسد في إحدى المظاهرات السلمية، وما إن بدأ جرح فقده يندمل حتى بدأت قذائف مدفعية النظام من الجبل المطل على المدينة تنهال، تؤازرها طائرات حربية ومروحيات تلقي حممها، على مدينة كان ذنبها المطالبة بحرية وكرامة السوريين، وعلى إثر ذلك قرر "أبو محمد" الفرار من جحيم القصف إلى ريف دير الزور الشرقي، واختار الميادين مستقرا له ولعائلته المكلومة.

مضت الأيام حاملة معها ما مرّ على محافظة دير الزور من قصف وسيطرة لتنظيم الدولة على أكثر من تسعين بالمئة من المحافظة، صيف ٢٠١٤ ، وهو الأمر الذي دفع معظم ثوارها على النزوح مع عوائلهم، تجنباً لما قد يحدث من ملاحقة ومساءلة وجزّ رؤوس أو إجبار على المبايعة، ولم يتأثر "أبو محمد" بذلك لكنه كان يفتقد المظاهرات التي كانت تخرج بين الحين والآخر في الميادين، يتذكر من خلالها ولده ويتجدد فيه الأمل أن يثأر الثوار لدمه.

صباح الخميس في حزيران ٢٠١٦ أغارت طائرة للنظام على معمل الكونسروة لكنها وكعادتها أخطأت الهدف وقصفت صواريخها منزلاً لأبو محمد.. فقدت زوجته قدميها وأصيب هو وأطفاله بجروح لم تكن لتندمل وهم يرون أمهم تحبو بلا قدمين.

في أواخر الشهر الثامن 2017 بدأت قوات النظام والاحتلال الروسي بحملة هي الأعنف منذ انطلاق الثورة السورية على قرى وبلدت ومدن محافظة دير الزور، لتتسبب باكتمال فصول مسرحية الموت والتهجير لمدنيي المحافظة، القصف الجنوني الهمجي سوّى بيوتاً بالأرض فوق رؤوس أصحابها، وعدَّاد الموت كان يتسارع في إحصاء مجازر ضحاياها بشر وليسوا أرقاماً، ويعلن أن لا حياة لمن سيبقى في مناطق سيطرة التنظيم، في ظل صمت عالمي وإعلامي على ما حدث ويحدث في عروس الفرات الموؤودة.

أبو محمد .. حاله كحال الجميع قرّر الفرار من موت محتّم واتخذ معبر مدينة العشارة طريقاً للوصول إلى منطقة الجزيرة التي هي منطلق لنزوح آخر باتجاه مناطق سيطرة المليشيات الكردية الانفصالية ومخيماتها الشبيهة بالمعتقلات أو كما أسماها سكانها "مخيمات الموت"، ولكن العبور إلى الموت كان مصير "أبو محمد" وعائلته التي حلمت بالحرية ذاتَ ربيع، فقد قصفت طائرات الاحتلال الروسي معبر العشارة المائي، كما قصفت من قبل ومن بعد معابر البوليل والقورية والعباس والبوكمال والخريطة وبقرص وسواها الكثير..

جثث كثيرة تفحمت، واصطبغ ماء الفرات بلون الدم الديري، والذنب حرية والحُجة "محاربة الإرهاب".