الأربعاء 2018/06/20

المليشيات الكردية من حضن إلى حضن إلى مصير متعلق بتغريدة

حالة من الضياع والتخبط والشعور بالخذلان عاشتها المليشيات الكردية في سوريا خلال الأيام الأخيرة لم تشعر بمثلها منذ محاولتها استغلال الثورة لمآربها وأطماعها الانفصالية وقفزها فوق تطلعات السوريين وما نادوا به من تحقيق لمطالب الجميع بمن فيهم الكرد الذين حرمهم نظام الأسد الأب والابن من أبسط حقوقهم ونكّل بهم أيما تنكيل لاسيما بعد انتفاضة القامشلي عام 2004 التي تمكن النظام من إطفائها سريعاً بآلته القمعية المعتادة، لكنها سرعان ما بُعثتْ روحُ الانتفاضة مرة أخرى في القامشلي بعد ثورة الكرامة، إلا أن ذلك لم يدم طويلاً بعد أن تمكن النظام من استغلال الأكراد وإغرائهم بمنحهم حقوقاً حُرموا منها لعقود طويلة كما غازلهم بمنحهم حكماً ذاتياً في مناطق الشمال الشرقي من سوريا بالإضافة لعفرين دون أن يتدخل في شوؤنهم وهذا ما جرهم عملياً إلى صفه ضد الثورة والثوار.

ظلت السياسة التي اتبعها نظام الأسد كما قال كثير من المراقبين سياسة احتواء وعدم تصعيد لعدم تمكن النظام آنذاك من القتال على أكثر من جبهة ، فالأسد لا ينظر لكل من يرفع شعار الحرية بوجهه إلا كما ينظر الذئب إلى الغنم الشارد في غابة، وبعد متغيراتٍ كثيرة أبرزها ظهور تنظيم الدولة وتقدمه في عين العرب كوباني بدأ الاحتواء والدعم الأمريكي النوعي للأكراد ما أدى إلى خروجٍ شبه كامل للمليشيات الكردية من عباءة النظام إلى العباءة الأمريكية، وبدأت عقبها طموحات الانفصال تنمو وتتعزز أكثر من أي وقت مضى لدى مليشيات "ب ي د" التابعة لحزب العمال الكردستاني التي عملت في ذات الوقت على بناء علاقات مع الطرف الأكثر ثقلاً بسوريا وهي روسيا.

إذن كان لدينا في الشمال الشرقي من سوريا دعماً أمريكياً وفي الشمال الغربي أيْ في عفرين دعماً روسيّاً حاولت المليشيات الكردية من خلال هذه الحالة أن توصل مناطقها ببعضها محاولة اللعب على كافة الأوتار وبناء تحالفات مع هاتين الدولتين ظناً منها أنها ستحقق بهذه السهولة ما فشل الأكراد في القرن الماضي بتحقيقه وهو قيام دولة كردية دون النظر إلى التجارب الفاشلة مثل جمهورية آراراب في ولاية آغري بتركيا عام 1927، أو في العام 1946 في مهاباد بإيران، وهذه تعد أكثر تجارب الانفصال استدامة حيث بلغ عمر هذه الجمهورية الفتية المدعومة من الاتحاد السوفييتي أحد عشر شهراً فقط ، فقبل أن تكمل عامها الأول تمكن نظام الشاه من الاستفراد بها بعد انسحاب الاتحاد السوفييتي إثر صفقات نفطية مع نظام الشاه إضافة للرضوخ للضغوط الأمريكية البريطانية وهذا ما مكّن الجيش الإيراني آنذاك من مفاصل الدولة الوليدة المحاصرة وعلق قادتها على حبال المشانق وعلى رأسهم رئيسها قاضي محمد.

 

يمكن توصيف ما مرت به المليشيات الكردية في سوريا بأنها كانت تتبع "سياسة التقلب في الأحضان" سواء شعرت بذلك أم لم تشعر به، تجلى ذلك من خلال تصريحات ومواقف لقادة المليشيات بشأن التطورات الجديدة بسوريا ، ففي أواخر العام الماضي كانت المليشيات الكردية أطلقت أعنف تصريح ضد بشار الأسد ونظامه بعد أن اتهمها بالخيانة بسبب تعاملها مع الأمريكيين وقالت: "نعتقد بأن بشار الأسد وما تبقّى من نظام حكمه، هم آخر من يحق لهم الحديث عن الخيانة وتجلياتها، وهو المسؤول عن إطلاق يد المليشيات الطائفية في البلاد والتي عاثت فساداً في نسيج سوريا أرضاً وشعباً".

تصريح عنيف وغير مسبوق استند بما لا يدع مجالاً للشك إلى الدعم الذي تتلقاه "ب ي د" من قبل حلفائها الأمريكيين، لكن وفي مفارقة لم تكن مفاجئة فإن المليشيات صرحت في حَزيران الجاري تصريحاً تتودد فيه إلى نظام الأسد وقالت إنها "مستعدة للتفاوض معه دون شروط مسبقة وفي مدينة دمشق" . هذا التغير في الموقف جاء بعد أن شاهدت المليشيات كيف باعتها واشنطن في ملف منبج التي شددت تركيا على ضرورة طرد "ب ي د" منها، وذلك ما تجلى من خلال الاتفاق الذي توصل إليه وزيرا خارجية البلدين في واشنطن وأعلنا فيه خارطة طريق حول المدينة بدأ تطبيقها عملياً على أرض الواقع من خلال تسيير القوات التركية الأمريكية دوريات مشتركة بمحيط المدينة تمهيداً لخروج المليشيات منها إلى شرق الفرات.

في واقع الحال فإن اتفاق منبج هذا لا يعني بالضرورة تخلي الأمريكيين عن الأكراد بشكل كلي بالوقت الحالي، لكن بالنسبة للكثير من الانفصاليين الأكراد "التخلي عن الجزء يعني التخلي عن الكل"، وقد يكون هذا التخلي الآتي لا محالة في غرب الفرات مُمهِّداً لآخر في شرق الفرات من منطلق أن واشنطن لا تريد أن تخسر علاقتها بالكامل مع أنقرة الصاعدة بشكل مثير في المنطقة في مقابل إبقاء علاقة دائمةٍ مع الأكراد هي في الأصل لا ترتكز بشكل أساسي على تغذية الطموح الانفصالي بقدرِ ما ترتكز على تحقيق مصالح أمريكا المتمثلة بمحاربة تنظيم الدولة ومواجهة النفوذ الإيراني فضلاً عن السيطرة على الآبار النفطية التي تدر يومياً ملايين الدولارات.

ملف عفرين لا يختلف كثيراً عن ملف منبج سوى بسرعة روسيا بغسل يديها من المليشيات الكردية بعد أن استخدمتها في غايات كثيرة، فروسيا التي كانت تسمح للمليشيات بالتنقل من عفرين عبر مناطق النظام إلى الشمال الشرقي واستقدام الأسلحة هي نفسُها من أتاح لتركيا شن عملية "غصن الزيتون" التي جاءت وفق تفاهمات بين الطرفين . أثارت هذه العملية حنق الأكراد الذين رأوا كيف تتقدم عليهم القوات التركية وقوات الجيش الحر على مسافة ليست ببعيدة عن مسافة القوات الروسية التي كانت تتمركز في أحد المعسكرات بمحيط المدينة دون أن تحرك أدنى ساكن لوقف القوات المهاجمة، في هذه اللحظات غضب الأكراد كثيراً وأطلقوا تصريحات قوية ضد روسيا خاصة بعد أن شعروا أنهم كانوا كورقة منديلٍ رمتْ به روسيا بعد أن استخدمتهم في العام 2016 بالعملية التي أطلقوها ضد مناطق سيطرة الجيش الحر في ريف حلب الشمالي وأسفرت عن سيطرتهم على مدن وبلدات واسعة أبرزها تل رفعت ومنغ ومطارها العسكري، وجاء ذلك في الوقت الذي كانت فيه العلاقة بين أنقرة وموسكو متوترة بعد حادثة إسقاط تركيا المقاتلة الروسية في اواخر 2015 ، لكن وبعد اعتذار تركيا رسمياً لحادثة الطائرة أخذ الأتراك الضوء الأخضر لبدء عملية درع الفرات ما قطع الطريق أمام "ب ي د" لإكمال اتصال مناطق سيطرتهم في القامشلي بعفرين ومنح لتركيا الحضور بقوة في الشمال السوري وهذا ما مهد لاحقاً لشن عملية غصن الزيتون التي أجهضت فعلياً المشروع الكردي وحلم الدويلة المستقلة بعد أن نالت من قادة مليشيات "ب ي د" وجعلتهم بين قتيلٍ وفار.

إذن التودد الكردي لنظام الأسد بالوقت الحالي قد يكون تخوفاً من مهاباد ثانية ترسمها مليشيات الأسد الطائفية بعد أن يتم انسحاب القوات الأمريكية ويُرفع الدعم خاصة مع عدم وضوح السياسة الأمريكية للرئيس الأمريكي صاحب المفاجئات الكبيرة والمدوية، فهذا الرئيس المثير للجدل يمكنه بتغريدة واحدة على تويتر أن يقلب الموازين ويضع المليشيات الكردية أمام المصير الذي تتخوف منه، لكن هل يجدي التودد فعلاً في إنقاذ المليشيات الكردية من نظامٍ أقسى من نظام الشاه بأضعاف مضاعفة، وكم ستكون حسرة تلك المليشيات بعد قبلتْ بالتنقل بين الأحضان وكرست نفسها لقتال ثورة نادت بحقوق الكرد التي سلبها نظام البعث منهم ؟