الأربعاء 2018/02/07

الرؤية التركية للحل في سوريا

مع ازدحام الأجندات الدولية المتعلقة بحل الأوضاع  السورية من جنيف إلى أستانا إلى سوتشي، وفي ظل تعقّد الوضع الميداني وتعثّر المسار السياسي؛ تبرز أهمية الأدوار التي تلعبها كافة الأطراف الفاعلة والمؤثرة في القضية السورية.

تطور وأولويات

على مدى السنوات السبع الفائتة، بنت تركيا سياساتها إزاء القضية السورية اعتماداً على ثلاثة عوامل رئيسة؛ هي: تطورات المشهد الميداني، وتجليات المقاربة الدولية للأزمة، وانعكاسات الوضع الداخلي في تركيا.

بدأت الأحداث بسوريا في مارس/آذار 2011 على شكل احتجاجات شعبية، ما لبثت أن تطورت سريعاً إلى ثورة شعبية، ثم إلى ثورة مسلحة تأثُّراً بالتعامل الأمني من النظام والدعم الإقليمي الذي وصل إلى السوريين.

ومع تفاقم الخيار الأمني للنظام وارتفاع سقف التدخلات الخارجية؛ تحولت سوريا "بمرور السنوات" إلى حرب بالوكالة، ثم إلى ساحة صراع دولي بأيدٍ محلية وإقليمية، وتفلتت إمكانات الحل من أيدي السوريين وتعلقت بالمنابر الدولية.

وبناء على ذلك، وبالتفاعل مع عوامل أخرى مهمة؛ انتقل الموقف التركي وتدرّج من حث بشار الأسد على الإصلاح في البدايات الأولى مرفقاً مع دعم المطالب الشعبية، إلى تبني المعارضة السورية وتقديم الدعم لها ابتداءً من 2012، إلى المطالبة برحيل الأسد حتى 2015 حين تحولت إلى قبول الحل السياسي المتمثل في مسار جنيف ثم أستانا، بما شمله من رضا ضمني عن بقاء الأسد فترة انتقالية ولكن ليس في سوريا المستقبلية.

ليست تركيا قوة عظمى، لكنها أيضاً ليست دولة عادية وقليلة التأثير في القضية السورية. تملك أنقرة عدة أوراق قوة تجعل من الصعوبة بمكان استبعادها من آلية الحل في سوريا أو تجاهل مصالحها بالكامل.

فهي دولة إقليمية مؤثرة ومجاورة لسوريا، وحدودها المشتركة معها تعطيها الكثير من الميزات، إضافة لاستضافتها ثلاثة ملايين مواطن سوري على أراضيها.

وتبقى أهم أوراق تركيا هي علاقاتها الجيدة ونفوذها لدى طيف واسع من المعارضة السورية السياسية والعسكرية، ووجودها العسكري بسوريا عبر "درع الفرات" والآن "غصن الزيتون".

تصوغ أنقرة موقفها من القضية السورية وسبل حلها وفق أولويات ثلاث: أولاها تأمين وقف إطلاق نار يشمل عموم الأراضي السورية، بما يشكّل الأرضية لحل سياسي، ويوقف استنزاف مختلف الأطراف، ويتيح الفرصة لعودة قسم مهم من اللاجئين السوريين وبدء أعمال الإعمار.

الأولوية الثانية هي الحفاظ على وحدة الأراضي السورية ومنع تفعيل سيناريوهات التقسيم والتجزئة، بما يخدم سوريا ودول الجوار وفي مقدمتها تركيا.

بينما تتمثل الأولوية الثالثة في منع تشكيل دويلة أو ممر باسم القومية الكردية يديره حزب الاتحاد الديمقراطي أي الفرع السوري من حزب العمال الكردستاني المُدرَج على قوائم الإرهاب التركية والأميركية والأوروبية.

تعتبر أنقرة مشروع الدويلة الكردية خطراً مباشرا على أمنها القومي، باعتبارها حاجزاً سياسياً وجغرافياً بينها وبين سوريا والعالم العربي، وبما قد تمثله من منصة لإطلاق عمليات للعمال الكردستاني نحو أراضيها، كما حصل في شمال العراق منذحرب الخليج الثانية، إضافة لانعكاساتها السلبية على الملف الكردي داخل تركيا.

وهكذا، أصبح منع إنشاء الدويلة الكردية بوصلة للسياسة التركية بشأن سوريا، والناظم لمختلف القرارات والسياسات المتعلقة بها، خصوصاً عند المفاضلة بين المسارات والقرارات.

تدرك أنقرة أهمية التنسيق مع موسكو لاستمرار وجودها على الأراضي السورية بشكل سلس ومقبول ودون تحديات حقيقية، خصوصاً في ظل إطلاقها عملية "غصن الزيتون" الدائرة حالياً، لكنها أيضاً تعرف أن علاقاتها الجيدة مع المعارضة السورية السياسية والعسكرية هي أهم أوراق قوتها على المدى البعيد.

ولذلك فهي تعمد إلى نوع من التوازن أو المواءمات بين تفاهماتها مع روسيا بما لا ينهي المعارضة تماماً، ودعمها للأخيرة بما لا يضر التفاهمات مع موسكو.

كذلك، تعي أنقرة أهمية وقف إطلاق النار واستتباب الأمن في مناطق خفض التصعيد، لكن ليس على قاعدة غض النظر عن تقدم المشروع الكردي على حدودها الجنوبية، وهو المشروع الذي أثبتت تركيا أنها عازمة على عرقلته بغض النظر عن الظروف ومواقف مختلف الأطراف.

ومن منطلق أولوية مواجهة مشروع حزب الاتحاد الديمقراطي؛ أتت عمليتا درع الفرات في أغسطس/آب 2016، وغصن الزيتون في يناير/كانون الثاني 2018، لمنع التواصل الجغرافي بين الكانتونات الكردية في الشمال السوري وتضييق مساحات سيطرتها الميدانية، وتأمين الحدود التركية، وتقويض مقومات إنشاء الدويلة، وقفل الباب أمام إمكانية وصولها لمياه البحر المتوسط كشرط رئيسي لاستقلالها التام.

رؤية مستقبلية

تبدو خيارات تركيا بالغة التعقيد على رقعة الشطرنج السورية؛ فهي متوجسة من شريكتها الاستراتيجية أميركا، ومضطرة للتفاهم مع خصمها التقليدي روسيا، ومنفتحة بشأن التعاون مع نظام الأسد لمواجهة المشروع الانفصالي الكردي، ومرغمة على الموازنة بين حليفها الميداني (المعارضة السورية) وشريكها السياسي (موسكو)، الذي هو أيضاً وللمفارقة الداعم الرئيسي لخصم حليفها الميداني.

تبدو الأمور متناقضة ظاهرياً في سوريا، إذ يؤكد الجميع ضرورة ووحدانية الحل السياسي، بينما يسعون جميعاً لزيادة المكاسب الميدانية والانتصارات العسكرية، باعتبار أن مساحة السيطرة الميدانية تنعكس بشكل طردي على أوراق التفاوض في جنيف وأستانا ثم أخيراً في سوتشي.

ويبدو مؤتمر سوتشي مثالاً نموذجياً للحسابات الدقيقة التي تجريها أنقرة لمواقفها وكأنها تسير في حقل ألغام؛ فلا هي تريد إفشال المؤتمر ابتداءً بما يغضب الشريك الروسي، ولا يناسبها نجاحه تماماً بما يجمع كل الأوراق في يد موسكو.

والحل كان -فيما يبدو- مشاركة متدنية المستوى، وتنسيق مع المعارضة السورية للمشاركة المشروطة التي استحالت انسحاباً، وهو ما عنى انعقاد المؤتمر لإرضاء روسيا، لكن مع عدم إنجاحه ضماناً لموقف متوازن.

تتفق أنقرة مع موسكو على ضرورة الحل السياسي واستحالة الحسم العسكري، لكنها تريد ذلك وفق مسار جنيف وتحت مظلة الأمم المتحدة، وليس وفق مسار سوتشي وبرعاية روسية متفردة.

وهو اختلاف جوهري ورئيسي ألقى بظلاله على مؤتمر سوتشي شكلاً ومضموناً وبجهود تركية واضحة البصمات، وهو أيضا مرشح للاستمرار والتكرار مستقبلاً.

والسبب الرئيسي في ذلك أن التفاهمات والتنسيق مع كل من روسيا وإيران ليسا مبنيّيْن على أسس تحالف استراتيجي، بل على مصالح ومخاطر وهواجس مشتركة في مقدمتها معارضة السياسة الأميركية في سوريا.

ويعني ذلك أن الإطار الثلاثي بين أنقرة وموسكو وطهران تكتيكي وليس استراتيجياً، وسيبقى دوماً معرضاً لاحتمالات الاضطراب والتذبذب، خصوصاً أن التفاهمات مبنية على أسس الاختلاف والتمايز ودعم أطراف متناقضة في المشهد السوري.

ولكن، وفي ظل تمسك واشنطن باستراتيجيتها القاضية بالبقاء مدة طويلة على الأرض السورية وبالتحالف مع قوات سوريا الديمقراطية؛ فإن الإطار الثلاثي مرشح لمزيد من تعميق التعاون، وهو ما يمكن أن يحمل على المدى البعيد أفقاً لتحالف استراتيجي لمواجهة أميركا ومحورها في سوريا وربما المنطقة.

وبالعودة إلى أولوية أنقرة في سوريا، أي مواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي؛ فإن غايتها حالياً هي تأمين عملية "غصن الزيتون" وإدامة شبكة الأمان السياسية لها، بالتفاهم والتنسيق مع روسيا وبدرجة أقل مع إيران.

إذ لا تستطيع أنقرة التخلي تماماً عن الحذر والركون للعلاقات الجيدة مع موسكو وطهران، باعتبار أن المواقف مرشحة دائماً للتبدل (كما حصل سابقاً) في ظل صراع المصالح والتحالفات المتشابكة. ويبقى سيناريو "التوريط" في عفرين أو غيرها قائماً كاحتمال بالنسبة لصانع القرار التركي، ولذلك تبدو خطواته في "غصن الزيتون" بطيئة بهدف التحوّط والحذر، وتجنباً لخسائر كبيرة في المدنيين كما تقول أنقرة.

ختاماً، تريد أنقرة حلاً سياسياً وفق مسار جنيف وتحت مظلة دولية، يأتي إثر هدوء ميداني شامل في سوريا، لكن دون مشاركة حزب الاتحاد الديمقراطي المصنَّف لديها منظمة إرهابية. وتدرك تركيا أن عناصر القوة الميدانية، وليس العلاقات الدبلوماسية ولا التفاهمات السياسية، هي طريق الاشتراك في رسم المسار المستقبلي لسوريا.

سوريا المستقبلية بالنسبة لتركيا هي دولة تعددية موَّحدة دون تقسيم أو فدْرلة، بحكومة قوية قادرة على حماية حدودها وتأمين جيرانها، ومعترفة باستحقاقات الأمن القومي للجارة التركية، ومحتضنة لكل لاجئيها ونازحيها.

وإلى أن يتحقق ذلك، تسعى أنقرة لتحصين نفسها بنفسها، وحل مشاكلها بيدها، ومنع استهدافها بقواها الذاتية، والمناورة في مساحات الخلاف والاختلاف بين موسكو وواشنطن، أي بتطبيق القول المأثور الذي ردّده الرئيس التركي مراراً: "تركيا تقطع حبلها السُّرِّيَّ بنفسها".