الثلاثاء 2017/08/15

الدم السوري حين يضيع بين القبائل !

من المقولات التي أصرّ نظام الأسد على ترديدها عند قيام الثورة عام 2011 ، أن مؤامرة ما استهدفت سوريا، دون أن يحدّد بشار ومسؤولو نظامه مَن المستهدف بالضبط في هذه المؤامرة؟

لكنّ الطريقة التي واجه بها الأسد الثورة، والصمتَ الرهيب عن مجازره وجرائمه ضد الإنسانية، لم يتركا مجالاً للشك بوجود مؤامرة فعلية ضدّ سوريا.. ضدّ شعبها لا نظامِها !، ولعل أوجُه هذه المؤامرة وتجلّياتها خلال أعوام الثورة تطول وتحتاج مقالات وبرامج وكتباً، لكن أبرز معالمها تبدو اليوم في الإصرار الدولي على "بقاء الأسد" ومحاولة خداع المعارضة بأن بقاءه لن يكون إلا في مرحلة انتقالية، وتبدو المؤامرة كذلك في تناسي الجرائم الرهيبة المروِّعة بحق شعبٍ لم يعرف أنه هز آلاف العروش حين طالب بإسقاط الأسد.

بدأ الأمر حين رفعت روسيا يدها في مجلس الأمن معارِضة أيَّ عقوبات ضد نظام الأسد، في مشهد بدا لمراقبين متَّفقاً عليه بين موسكو وواشنطن التي تعلم جيداً أن الحلّ لن يكون عبر مجلس الأمن المكبّل بالفيتو الروسي، وهذا ما أعطى نظام بشار مزيداً من الفرص لاستخدام كل أنواع القتل الفردي والجماعي للقضاء على الثورة، ولم تعُد عبارات التنديد الدولية سوى إشارات لبشار أنه في مأمن من الحساب والعقاب.

ظهر بشار مستفرداً بالقتل في السنوات الثلاث الأولى من الثورة، وارتفعت الأصوات العربية والدولية التي تطالب بإحالة ملف جرائم الحرب في سوريا إلى محكمة الجنايات، وإنشاء محكمة خاصة بتلك الجرائم على غرار المحكمة الخاصة التي أُنشئت عقب اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق "رفيق الحريري"، إلا أن شيئاً من ذلك لم يحدث، واكتفت الدول العظمى بالتنديد والشجب والوعيد، رغم أن تلك المرحلة شهدت الهجوم الكيماوي الأعنف على مدن وبلدات الغوطة الشرقية في آب 2013.

الخطوة الوحيدة التي اتخذها المجتمع الدولي في تلك المرحلة هي تشكيل لجنة أممية حول التحقيق بجرائم الحرب في سوريا  22 آب 2011، وقد وثقت تلك اللجنة منذ إنشائها عدداً كبيراً من جرائمِ الحرب والانتهاكات الحقوقية المرتكبة في سوريا، وأصدرت نحو عشرين تقريراً حول تلك الجرائم، وجمعت كمياتٍ هائلة من أدلة تشير إلى مسؤولية أشخاص بأعلى المستويات في نظامِ الأسد بمن فيهم بشار نفسُه.

ورغم عشرات التقارير وآلاف الأدلّة التي تشكل التسجيلات المصورة وشهادات المنشقّين أحد أهم أدواتها، إلا أن اللجنةَ لم تستطع منذ إنشائها محاكمة أيِّ متهم بتلك الجرائم، وبقيت آلية عملها لا تتعدى أن تكونَ حبراً على ورق، في ظل عدمِ وجود هيئة ادعاء أو محكمة خاصة.

رئيس اللجنة الأممية البرازيليّ باولو بينيرو وعد عام 2015 بالكشف عن خمس قوائم لمرتكبي جرائم الحرب في سوريا، لكنَّه تراجع عن هذا الوعد لاحقاً، وأقر حينها بأن صورة حقوق الإنسان في سوريا قاتمةٌ جداً، ولا يوجد اهتمام أو متابعة لتحقيقِ العدالة للضحايا.

كلُّ ما ذكر آنفاً دفع السويسرية كارلا ديل بونتي، عضو لجنة التحقيق إلى التلويح بالاستقالة قبل أيام، وبررت قرارها بعدمِ تلقي الدعمِ من مجلسِ الأمنِ الدوليّ، وقالت إنها تشعر بالإحباط لأن اللجنة التي تعمل فيها لا تملك أيَّ سلطة.

وفي لقاء مع صحيفة سويسرية أكّدت ديل بونتي أن اللجنة جمعت أدلة كافية لإدانة بشار الأسد بجرائمِ حرب، "لكن روسيا تعارض عبر حقّ النقض  إقامة أي ادعاء أو محكمة خاصة بهذا الملف".

ليس الذي جرى فقط أنّ المجتمع الدولي حمى بشار الأسد من السقوط بيد الثورة، بل إنه استطاع خلال أعوامٍ حمايتَه من الحساب، عبر تعطيل جهود الأفراد والمنظمات والهيئات وحتى الدول التي طالبت مراراً بمعاقبته كمجرم حرب مسؤول عن قتل لا يقل عن 600 ألف سوري.

بالإضافة إلى جميع ما ذُكر، فإن الأطراف المتعدّدة الجنسيات التي استجلبها بشار الأسد متورطة كذلك بجرائم حرب، ما ساهم في أن يصبح الدم السوري ضائعاً في واقع الأمر بين روسيا والتحالف الدولي والمليشيات الإيرانية، بالإضافة إلى ما ارتكبه "تنظيم الدولة" الذي سوَّغ وجوده معظم تلك التدخلات تحت عنوان "الحرب على الإرهاب".

ورغم فداحة النكبة السورية، وحاجتها إلى أعوام وأعوام من التوثيق والدراسة والإحصاءات، إلا أن وقائع الأمور تشير إلى إمكانية بقاء كل القتل الحاصل هناك بلا حساب أو عقاب، بسبب تعمد ذلك من الدول العظمى التي لو شاءت لما حصل كل ذلك، وبسبب تعدد الأطراف التي شاركت على مدى سنوات في قتل السوريين، حتى يصح أن نقول بكل أسى إن الدم السوري المسفوك يضيع حقه بين القبائل، ليبقى كل القتلة في مأمن من الحساب والمثول أمام "عدالة" القرن الحادي والعشرين!