السبت 2018/02/24

أحياء كالأموات في الأقبية.. أهالي الغوطة مدفونون في الظلام ويتساءلون أين الهدنة الموعودة؟

في قبو تحت أحد المنازل المدمرة بالغوطة، تعالى صوت أحد الشيوخ القابعين في الظلام، بنفَس مقطوع ومتهالك كان يتساءل متى ستنعقد جلسة مجلس الأمن، "أديش لسا بدهن ليعدو بالمؤتمر؟!". بعد صمت قصير، تشجع أحدهم ليردَّ على الشيخ: "بدهن لسا ربع ساعة.."، كان يريد طمأنته، لكن العجوز كان صبره قد نفد ليصرخ: "بدهن يموتونا بهل ربع ساعة لبين ما يجتمعوا!".

نيفين، بنت الغوطة، المحاصَرة مع الشيخ وغيره في القبو والظلام، رأفت لحال الشيخ لتعلُّقه بأمل واهٍ، في نظرها؛ فإن من يقصفهم الآن من الطيارين الروسيين هم من سيجتمع أقرباؤهم للدفاع عن مصالحهم هناك في نيويورك.

واضطر أهالي الغوطة إلى الاختباء من جديد في أقبية المنزل لليوم السادس على التوالي، بعد موجة جديدة من القصف استهدفت الغوطة الشرقية بلا هوادة، الجمعة 23 فبراير/شباط 2018، وذلك قبل تصويت على مشروع قرار في مجلس الأمن الدولي يطالب بوقف إطلاق النار مدة 30 يوماً بأنحاء البلاد؛ لإنهاء واحدة من أعنف حملات القصف خلال الحرب.

النوم من الخوف..

في إحدى زوايا منزلهم المظلم، تختبئ "ورد" بدورها رفقة بعض أقربائها، فرشوا الأغطية على الأرض المتربة بغبار القصف والدمار، وحاولوا تلطيف الأجواء على الأطفال بقص بعض الحكايات عليهم، حكايات أبطال زمان التي ينتصر فيها الخير على الشر والأمل على اليأس.

نام الأطفال بصعوبة، كما تكتب الناشطة الإعلامية "ورد"، لكن أصوات الصواريخ والمدافع ما زالت تجعل أجسادهم الفتيَّة ترتجف وهم مُغمضو الأعين، "طفلي يئنُّ أمامي وهو منهَك من التعب.. لقد تعب قلبه من الخوف".

عائلة "ورد" فرَّقها القصف المتواصل، البعض بقي معها في ركن المنزل الذي هي فيه، والبعض الآخر اختبأ بمكان آخر، ورغم قرب المسافة بينهما فإنها لا تستطيع الخروج والاطمئنان عليهم؛ فأصوات الطائرات وقذائفها لم تفارقهم منذ الصباح، كما تضيف: "مع كل غارة نلفظ الشهادة.. الجميع تخلى عنا إلا الله".

6 أيام في الجحيم

ليل الخميس 22 فبراير/شباط 2018، اعتقد أهالي الغوطة الشرقية أنهم سينعمون أخيراً ببعض الراحة، ورغم الظلام وانقطاع الكهرباء والغبار في كل مكان، فقد تفاءلت "نيفين" وفي اعتقادها أنها أخيراً ستنام.

تفاؤل سكان القبو تبخَّر سريعاً، جاء صوت راجمة صواريخ ليدمر كل آمالهم، اشتد القصف وتعالى أكثر من الليالي الماضية كما تصف "نيفين"، القصف كان قريباً جداً منهم، والقذائف تسقط بعشوائية بالقرب منهم.

"ما هان عليهم نتهنى بهي اللحظة، لحظة سكون ما كملت معنا"، علقت "نيفين" بحسرة، كانت تسمع أصواتاً هامسة حولها ولا تميِّز من يتكلم، بعض النساء كنَّ يدعين الله ليلطف بهم، وتعالى صوت طفل، قائلاً بإخلاص: "الله يكسر أيديه"، كان يظن أنه إذا دعا على من يقصف فإنه سيتوقف، من صوته بدا أنه خائف، ليردَّ عليه طفل آخر: "لا تخف.. بعيدين عنا".

"ولد عم يطمن ولد..!" تُعلِّق "نيفين".

أهالي الغوطة كانوا يُعلِّقون آمالهم على اجتماع مجلس الأمن الجمعة 23 فبراير/شباط 2018، للاتفاق على هدنة، ويترقب الجميع موقف موسكو، في ظل تساؤلات بشأن ما إذا كانت روسيا، حليفة بشار الأسد والتي تملك حق النقض (الفيتو) بمجلس الأمن، ستدعم مشروع الهدنة بالمجلس أم ستعرقله أم تسعى لتخفيفه بطريقة تسمح باستمرار القصف.

لكن الزمان يمر على المحاصَرين تحت الأنقاض ثقيلاً خانقاً للأنفاس، يتساءل أحد الموجودين: ما اليوم؟ لم يكن أحد منهم يعرف الجواب عن هذا السؤال البسيط، كما تكتب "نيفين" على صفحتها حينما تنجح في تدبير وسيلة لشحن هاتفها، أحدهم أجاب: "اليوم الثلاثاء"، في حين خمَّن آخر أنه الخميس، وثالث أكد أنه الجمعة!

الحقيقة أن لا أحد يعرف "عم يمر الزمن طويل كتير، ونحنا مفصولين عن العالم الخارجي"، تقول "نيفين".

أين الإرهابيون؟!

بعد يـأسهم من هدنة مرتقبة، نام أغلب الموجودين في القبو، والباقون كانوا يحاولون أن يناموا بأي ثمن، وفجأة تعالى صوت طائرة ألقت قذائفها؛ صواريخ وبراميل متفجرة.

أصوات البراميل تهز قلوب المحاصرين وتسبب لهم ارتفاع ضغط الأذن وانسدادها، صاروا كل مرة يقومون ببعض الحيل التي تعلَّموها بدرس العلوم في المدرسة، يفتحون أفواهم كلياً؛ لتخفيف الضغط عن الأذن، في مشهد مسرحي يفتح كل من في الغرفة فمه.

فجأة، يأتي صوت عجوز بالقبو يتساءل بحيرة: "معقول يكون في حولينا إرهابية، بس نحنا يلي مو عارفين؟!".

وتتعلل قوات النظام ، مدعومة بالطيران الروسي، بأنها تسعى للقضاء على المجموعات الإرهابية التي تتخذ من الغوطة قاعدة لها، عبر عمليات عسكرية واسعة النطاق وحصار خانق.

عمليات نتج عنها "حسب المرصد السوري لحقوق الإنسان" مقتل ما لا يقل عن 462 شخصاً وإصابة مئات آخرين، ومن بين القتلى 99 طفلاً على الأقل، وذكرت وسائل إعلام موالية للأسد أن شخصاً قُتل وأصيب 58 آخرون عندما قصف مسلحو المعارضة مواقع في دمشق، بينها مستشفى.

ووسط تساؤل الشيخ وحيرته، تشعر "نيفين" بأن حياتها تبعثرت، قصة الإرهابيين في نظرها مجرد مسرحية سخيفة يلعبها النظام؛ لأن طائراته وصواريخه تستهدف بيوتهم، لتدمر ما تبقى من حياتهم، "ذكريات كتير منتورة بين الأغراض.. صور موجعة لآثار القصف، مافيني أعرضها".

وفي مكان آخر، كانت "نيفين" تشعر بالنعاس الشديد، لكنها لا تستطيع النوم، ليس بسبب أرض القبو القاسية والباردة، وإنما بسبب الخوف.. بالها مشغول بالغد.. تتساءل عن مصيرهم ومصير الغوطة: "هل سأنجو مع أهلي وعائلتي وأفرح بلقائهم من جديد؟ أم سأفارقهم بصمت دون وداع؟".