الثلاثاء 2018/06/05

أصولها فرنسية وأجدادها كانوا مناضلين من أجل الحرية.. قصة الطالبة المسلمة التي استشاط علمانيو باريس غضباً منها

وصف وزير الداخلية الفرنسي جيرار كولومب مظهرها بأنَّه "صادم"؛ وقالت مارلين شيابا، وزيرة الدولة للمساواة بين الجنسين، إنَّها أبدت "مظهراً من مظاهر الإسلام السياسي"؛ أما مجلة شارلي إبدو الساخرة، فوضعت صورتها على الغلاف بتصويرٍ اعتبره العديد من الناس عنصرياً.

أما تهمتها؛ فهي الظهور بالحجاب في مقابلة تلفزيونية.

إنَّها مريم بوجيتو، التي اعتادت بعد انتخابها في ديسمبر/كانون الأول الماضي رئيسة للاتحاد الوطني لطلبة فرنسا بجامعة السوربون، أن تستمع لآراء المخالفين لوجهات نظرها التقدمية. غير أنَّها لم تكن مستعدة على الإطلاق لما حدث الشهر الماضي مايو/أيار، حين انتقدت في مقابلةٍ تلفزيونية التغييرات التي أُدخِلت مؤخراً على السياسة التعليمية، بحسب تقرير لصحيفةThe New York Times الأميركية.

دُعيت بوجيتو، المسلمة المتدينة التي ترتدي حجاباً يغطي شعرها ورقبتها، للتعليق على التغييرات المقترحة التي من شأنها أن تجعل القبول في الجامعات انتقائياً بشكل أكبر، وذلك في واحدةً من القنوات التلفزيونية الرئيسية في فرنسا M6. ومن وجهة نظر مريم، وغيرها من الحشود الغفيرة من الطلبة الذين نزلوا إلى الشوارع مؤخراً للاحتجاج، فإنَّ الإجراءات المقترحة تمييزية ونخبوية.

الجدل بعيد عن التعليم وإنما بشأن الحجاب

وبحسب الصحيفة الأميركية فإن الجدل الذي أعقب ظهورها لا يمت بصلة لمسألة التعليم، وإنما ينصب بالكامل على مظهرها.

انطلقت شرارة هذا الجدل في المقام الأول على يد لوران بوفيه، العلماني وعضو حركة "الربيع الجمهوري" التي تأسست عام 2016 للدفاع عن مثل العلمانية "اللائكية" الفرنسية, التي ظهرت إبان الثورة الفرنسية لإبعاد الكنيسة الكاثوليكية عن شؤون الدولة.

لكن يقول الناقدون إنه خلال السنوات الأخيرة استخدمتها عدة جماعات لكبح التأثير المتنامي للإسلام في فرنسا.

وقال بوفيه في تغريدة له على موقع تويتر: "نحن لا نستهدف أحداً؛ كل ما في الأمر أنَّنا نشير إلى التناقض" الكامن في ارتداء رئيسة اتحاد الطلبة للحجاب.

وتساءل: "كيف يمكن للمرء أن يدافع عن قيم مثل الإجهاض والمبادئ النسوية في الوقت الذي يُظهِر فيه بوضوح معتقداته الدينية".

ولم تلبث الألسنة بعدها أن تنطلق، وبدا كأن الجميع تقريباً يُدلون بدلوهم حول هذه الطالبة المتدينة التي لا تُظهِر أي أسف أو ندم.

لم تكن تعرف ماذا يعني مفهوم الإسلام السياسي، والآن عرفته حتى تفهم ماذا يريدون!

وبحسب The New York Times, ذهلت بوجيتو نفسها من هذه الموجة من الانتقادات, وقالت إنها اضطرت إلى البحث عن معنى "الإسلام السياسي" على الإنترنت لتفهم طبيعة ما ترمى به من تهم.

غير أنها لم تشعر بغضب كبير من الصورة الكاريكاتيرية المحاطة بالألفاظ النابية المرسومة لها على غلاف مجلة شارلي إبدو, والتي قال الكثيرون إنها تصورها بشكل يشبه القردة.

وقالت مريم في مقابلة أجريت معها حديثاً: "ضحكتُ في بداية الأمر؛ فشارلي إبدو تسخر من الجميع.

لم آخذ الأمر على محملٍ شخصي". وتضيف بوجيتو أنَّ ما أعجبها هو "أنَّهم الوحيدون في الواقع الذين أكّدوا على الرسالة التي أريد أن أوجهها".

لكنَّ مريم أدركت أنَّ حس الدعابة الذي تتمتع به ليس موجوداً لدى جميع. وتقول: "شعرتُ بحزنٍ شديد حين أدركتُ أنَّ هذه الصورة سبَّبت ألماً بالغاً لأسرتي وأصدقائي".

ولم يكن غريباً أن تتلقى الكثير من الدعم من زملائها.

أصحابها يدعمونها ضد المتطرفين

وقال طالب من الدنمارك لبوجيتو في مكاتب المجموعة الطلابية: "طوال مدة دراستي هنا منذ خمس سنوات، لم يسبق أن شهدت هذا المستوى من سوء المعاملة لرئيس اتحاد طلبة. أنتِ أكثر من رائعة. لا تدعي العنصريين ينتصرون عليكِ".

لمعت عينا بوجيتو الزرقاوان وتوجهت بالشكر للشاب على دعمه، وتتلقى مظاهر مشابهة من الدعم طوال الأسبوعين الماضيين في حرم الجامعة حيث تدرس، وفي شوارع العاصمة الفرنسية، وعلى شبكة الإنترنت.

غير أنَّ التجربة بأكملها كان لها وقع سيئ على الفتاة ذات التسعة عشر ربيعاً، التي تدرس الأدب والإعلام، بحسب الصحيفة الأميركية.

لم تخرق بوجيتو أي قانون؛ فالحجاب كغيره من الرموز الدينية ممنوعٌ في مؤسسات الدولة وفي المدارس الحكومية الابتدائية والثانوية؛ لكنَّه غير ممنوع في الجامعات.

كذلك يقول أحد الخبراء إنَّ مفهوم "اللائكية" ينبغي ألا يُستخدَم لوصم الأقليات، وإنما لضمان تحقيق الحرية للجميع.

يقول نيكولاس كاديني، العضو البارز في مرصد العلمانية، وهو مؤسسة تدافع عن احترام اللائكية وتقدم المشورة للحكومة في هذا الصدد: "الدولة هي المُلزَمة بالحياد وليس المواطنون"، بحسب الصحيفة الأميركية.

ويضيف: "هناك تعريفٌ قانونيٌ واحدٌ للائكية، لكن اخترع الكثيرون تعريفات فكرية لها. ومن يستخدم ‘اللائكية’ لتوسيع مساحة الحياد مخطئ؛ فانتهاك حريات الأشخاص أمرٌ لا نقاش فيه".

هل فعلاً كان قانون 2004، يستهدف المسلمين؟

وبحسب الصحيفة الأميركية, شعر الكثير من الفرنسيين المسلمين أن القانون الصادر عام 2004 والذي حظر الحجاب وغيره من الرموز الدينية للفتيات فيه استهداف مباشر لهم.

وبين الفينة والأخرى تنكأ الجروح بتصريحات تصدر من زعماء سياسيين فرنسيين, مثل ذاك الصادر عن الرئيس إيمانويل ماكرون الذي قال فيه إن الحجاب لا "يتفق مع التحضر".

وقالت بوجيتو التي ارتدت الحجاب أثناء دراستها في المرحلة الإعدادية إنَّها لم تكن تجد أي مشكلة في خلع الحجاب عند دخول مبنى المدرسة.

وقالت: "كان هذا هو القانون وقد احترمتُه في حينها. وكان لديَّ هدفٌ بالغ الوضوح بأن أتفوق في دراستي، ورأيتُ حينها أنَّ خلع الحجاب تضحيةٌ لن يكون عليَّ أن أقدمها في المرحلة الجامعية".

فرنسية الأصل ومتسامحة دينياً

ومن الغريب أن تقع بوجيتو في مرمى نيران حراس الهوية الفرنسية ومشجعي الإسلاموفوبيا والعنصريين حتى النخاع؛ ذلك أنَّها فرنسية الأصل ومتسامحة دينياً.

وترجع أصول عائلتها إلى منطقة كوريز جنوب غرب فرنسا، ونشأت في أسرة من الطبقة العاملة في ضواحي باريس، بحسب الصحيفة الفرنسية.

ولعائلة مريم باعٌ طويل في العمل السياسي، وتحديداً في احتجاجات النقابات العمالية للحصول على حقوق العمال.

وكان أجدادها ضمن المقاومة الفرنسية أثناء الحرب العالمية الثانية؛ وشاركت جدتها في التظاهرات التي طالبت بمنح المرأة الحق في التصويت، وهو الحق الذي لم تحصل عليه المرأة الفرنسية إلا عام 1944.

اعتنق والدا مريم الإسلام قبل أن يلتقيا، وتقول إنَّها نشأت في بيئة متسامحة تقبل الاختلاف. وتضيف: "في تجمعاتنا العائلية، هناك مسلمون ومسيحيون والجميع منسجم".

ربما لا تدرك بوجيتو قدر الكراهية التي أثارتها في النفوس، إلا أنَّ المراقبين يرون أنَّ هذه الجلبة لها ما بعدها في سلسلة الجدل الدائر حول الهوية الفرنسية، لا سيما في ما يخص التحيز الجنساني الذي يرى العديد من المراقبين أنَّه يطل برأسه في فرنسا.

حرية على هواهم

وفي هذا السياق، تقول نادية مرزوقي، المختصة في العلوم السياسية والباحثة الزميلة في المركز القومي للبحث العلمي في فرنسا: "بالنسبة للبعض، تتلخص حرية المرأة في التزامها بقوالب معينة موضوعة لها. البعض لا يستطيع أن يتحمل أن يرى امرأة مسلمةً تعبر عن رأيها بحرية".

وتقول جوان سكوت، المؤرخة الأميركية التي كتبت باستفاضة عن الجدليات الدائرة حول الحجاب في البلاد، إنَّ فرنسا لم تتجاوز بعد ماضيها الاستعماري، ولا يزال الكثيرون فيها يعتقدون أنَّ مهمته تعليم الثقافات الأخرى كيف تكون الحضارة.

وتضيف جوان: "أرى الخلط بين ارتداء المرأة للحجاب مع كونها تشكل تهديداً سياسياً خلطاً مثيراً للدهشة فعلاً".

وتضيف: "يبدو الأمر وكأن النساء المحجبات يُعامَلن معاملة الساحرات الشريرات؛ وكأن في جعبتهن تهديداً شريراً على اندماج الأمة الفرنسية. ولا ينظر لهن أحدٌ إلا باعتبارهن تهديداً عدوانياً. إن لم يكن هذا ضرباً من العنصرية والإسلاموفوبيا، فلستُ أدري ما كنهه بالضبط؟"

ورداً على أسئلة أرسلتها صحيفة The Washington Post للسيد بوفيه عبر البريد الإلكتروني، قال إنَّ غضبه من بوجيتو "لا يتعلق قطعاً بالعلمانية بالمعنى القانوني؛ فمريم بوجيتو لم تخرق القانون ولم تتصرف على نحوٍ يعارض اللائكية.

المشكلة في دورها كممثل رسمي لاتحاد الطلبة، والذي لا يزال حتى اللحظة يدافع عن أفكار وقيم لا تتسق مع تلك التي يمثلها وجود حجاب على رأس امرأة".

إلا أنَّ بوجيتو، التي تطمح أن تعمل يوماً ما ضمن مجموعات دولية غير هادفة للربح، قالت إنَّها تؤمن أنَّ العديد من الساسة والمفكرين في فرنسا تقولبوا في طرق قديمة للتفكير لا تعكس الرؤى الأكثر تسامحاً التي يحملها المواطنون الفرنسيون، لا سيما زملاؤها.

وقالت بوجيتو: "الناس يظنون أنَّ النساء لا يمكن أبداً أن يخترن ارتداء الحجاب. أنا ارتديتُه من منطلقٍ ديني.

وهو لا يمنعني من عيش حياة طبيعية، ومن حمل أفكار تقدمية، ولا من تكريس حياتي لمشاركتي السياسية".